توطئة: يذهب كثير من الدارسين إلى أن الدوال تدل وتتواصل بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ومنها: اللغة والعلامات والخطابات والأنساق و الإنسان وسائر الكائنات الموجودة في الطبيعة. ويعني هذا أن كل شيء في عالمنا يحمل دلالة ووظيفة. وهذه الوظيفة قد تكون ذات مقصدية أو بدون مقصدية، ذات ميزة فردية أو جماعية، طبيعتها مادية أو معنوية. كما أن هذه الدوال التواصلية قد تكون لفظية أو غير لفظية، تعبر عن وعي أو عن غير وعي. هذا، وأصبح التواصل اليوم عبارة عن تقنية إجرائية وأساسية في فهم التفاعلات البشرية، وتفسير النصوص والخبرات الإعلامية، والتحكم في كل طرائق الإرسال والتبادل. وتعد اللغة من أهم آليات التواصل ، و من أهم تقنيات التبليغ ونقل الخبرات والمعارف والتعلمات من الأنا إلى الغير أو من المرسل إلى المخاطب. وهذه اللغة على مستوى التخاطب والتواصل والتمظهر ذات مستويين سلوكيين: لفظي وغير لفظي. إذا، ماهو مفهوم كل من التواصل اللفظي وغير اللفظي؟ وما هي أهم الآليات الإجرائية التي يستند إليها التواصل اللفظي وغير اللفظي؟ مفهوم التواصل لغة واصطلاحا: 1- التواصل لغة: يفيد التواصل في اللغة العربية الاقتران والاتصال والصلة والترابط والالتئام والجمع والإبلاغ والانتهاء والإعلام. أما كلمة communication في اللغة الأجنبية، فتعني إقامة علاقة وتراسل وترابط وإرسال وتبادل وإخبار وإعلام. و يعني هذا أن هناك تشابها في الدلالة والمعنى بين مفهوم التواصل العربي والتواصل الغربي. 2- التواصل اصطلاحا: يدل التواصل في الاصطلاح على عملية نقل الأفكار والتجارب، وتبادل المعارف والمشاعر بين الذوات والأفراد والجماعات. وقد يكون هذا التواصل ذاتيا شخصيا أو تواصلا غيريا. وقد ينبني على الموافقة أو على المعارضة والاختلاف. ويفترض التواصل أيضا - باعتباره نقلا وإعلاما- مرسلا ورسالة ومتقبلا وشفرة ، يتفق على تسنينها وتشفيرها كل من المتكلم والمستقبل (المستمع)، وسياقا مرجعيا ومقصدية الرسالة. ويعرف شارل كولي Charles Cooley التواصل قائلا:" التواصل هو الميكانيزم الذي بواسطته توجد العلاقات الإنسانية وتتطور. إنه يتضمن كل رموز الذهن ، مع وسائل تبليغها عبر المجال، وتعزيزها في الزمان. ويتضمن أيضا تعابير الوجه وهيئات الجسم والحركات ونبرة الصوت والكلمات والكتابات والمطبوعات والقطارات والتلغراف والتلفون، وكل ما يشمله آخر ما تم في الاكتشافات في المكان والزمان" وهكذا، يتبين لنا عبر هذا التعريف أن التواصل هو جوهر العلاقات الإنسانية، ومحقق تطورها. لذا، فالتواصل له وظيفتان من خلال هذا التعريف: وظيفة معرفية، و تتمثل في نقل الرموز الذهنية ، وتبليغها زمكانيا بوسائل لغوية وغير لغوية، ووظيفة تأثيرية وجدانية، و تقوم على تمتين العلاقات الإنسانية، وتفعيلها على مستوى اللفظي وغير اللفظي. وهناك من يعرف التواصل بأنه:" هو العملية التي بها يتفاعل المراسلون والمستقبلون للرسائل في سياقات اجتماعية معينة" . ومن المعلوم أن للتواصل ثلاث وظائف بارزة يمكن إجمالها في: 1- التبادل: Echange 2- التبليغ:Transfert 3- التأثير:Impact ويعرف التواصل أيضا بأنه هو: " تبادل المعلومات والرسائل اللغوية وغير اللغوية،سواء أكان هذا التبادل قصديا أم غير قصدي، بين الأفراد والجماعات". وبالتالي، لا يقتصر التواصل على ماهو ذهني معرفي ، بل يتعداه إلى ماهو وجداني وماهو حسي حركي وآلي. أي إن التواصل:" ليس مجرد تبليغ المعلومات بطريقة خطية أحادية الاتجاه، ولكنه تبادل للأفكار والأحاسيس والرسائل التي قد تفهم، وقد لاتفهم بنفس الطريقة من طرف كل الأفراد المتواجدين في وضعية تواصلية". ومن هنا، فالتواصل هو عبارة عن تفاعل بين مجموعة من الأفراد والجماعات يتم بينها تبادل المعارف الذهنية والمشاعر الوجدانية بطريقة لفظية وغير لفظية. وتركز الصورة المجردة للتواصل على ثلاثة عوامل أساسية: أ- الموضوع: وهو الإعلام والإخبار؛ ب- الآلية: التي تتمثل في التفاعلات اللفظية وغير اللفظية؛ ج- الغائية: أي الهدف من التواصل ومقصديته البارزة( البعد المعرفي أو الوجداني أو الحركي). وهكذا، يمكن القول: إن الاتصال أو التواصل عبارة عن عملية نقل واستقبال للمعلومات بين طرفين أو أكثر. ويستند هذا التواصل في سياقاته إلى التغذية الراجعة Feed Back ، وذلك عندما يحدث سوء الاستقبال أو الاستيعاب أو التشويش أو الانحراف الانزياحي. أنواع التواصل: يمكن الحديث عن أنواع عدة من التواصل الإنساني والآلي والسيميائي، فهناك التواصل البيولوجي والإعلامي والآلي والسيكولوجي والاجتماعي والسيميوطيقي والفلسفي والبيداغوجي والاقتصادي... ويقول طلعت منصور في هدا الصدد:" إن وظيفة الاتصال تتسع لتشمل آفاقا أبعد . فكثير من الباحثين يتناولون الاتصال كوظيفة للثقافة وكوظيفة للتعليم والتعلم وكوظيفة للجماعات الاجتماعية وكوظيفة للعلاقات بين المجتمعات، بل ويعتبرون الاتصال كوظيفة لنضج شخصية الفرد وغير ذلك من جوانب توظيف الاتصال" ويرتبط التواصل بعدة علوم ومعارف يمكن حصرها في علم التدبير والتسيير، والعلاقات العامة، والبيداغوجيا والديداكتيك، وعلم التسويق Marketing، وعلوم الإعلام والاتصال، والفلسفة، والسيميولوجيا. وسنختار من هذه الأنواع: التواصل اللساني، والتواصل الفلسفي ، والتواصل اللسيميائي للحديث عنها مرجئين باقي الأنواع التواصلية الأخرى إلى فترات لاحقة إن شاء الله. 1- التواصل من المنظور اللساني: يذهب مجموعة من اللسانيين إلى أن اللغة وظيفتها التواصل كفرديناند دو سوسير الذي يرى في كتابه " محاضرات في اللسانيات العامة" (1916) أن اللغة نسق من العلامات والإشارات ، هدفها التواصل خاصة أثناء اتحاد الدال مع المدلول بنيويا، أو تقاطع الصورة السمعية مع المفهوم الذهني. وهو نفس المفهوم الذي كان يرمي إليه تقريبا ابن جني في كتابه "الخصائص" عندما عرف اللغة بأنها: " أصوات يعبر بها قوم عن أغراضهم" . ويعرف أندري مارتيني André Martinet اللغة بأنها عبارة عن تمفصل مزدوج وظيفتها التواصل. ويعني هذا أن اللغة يمكن تقسيمها إلى تمفصل أول وهو المونيمات( الكلمات)، وبدورها تنقسم إلى فونيمات(أصوات)، ومورفيمات( مقاطع صرفية) ، والتي تشكل بدورها التمفصل الثاني. لكن الأصوات لايمكن تقسيمها إلى وحدات أخرى؛ لأن الصوت مقطع لا يتجزأ. وإذا جمعنا الفونيمات مع بعضها البعض كونا مونيمات، وإذا جمعنا الكلمات كونا جملا، والجمل بدورها تكون الفقرات والمتواليات، والفقرات بدورها تكون النص، ويكون النص- تأليفا واستبدالا- ما يسمى باللغة ، والتي من أهدافها الأساسية التواصل. ويذهب رومان جاكبسون إلى أن اللغة ذات بعد وظيفي، وأن لها ستة عناصر وست وظائف: المرسل ووظيفته انفعالية، والمرسل إليه ووظيفته تأثيرية، والرسالة ووظيفتها جمالية، والمرجع ووظيفته مرجعية، والقناة ووظيفتها حفاظية، واللغة ووظيفتها وصفية. وهناك من يضيف الوظيفة السابعة ، وهي الوظيفة الأيقونية. وإذا كان الوظيفيون يرون أن اللغة واضحة تؤدي وظيفة التواصل الشفاف بين المتكلم والمستمع،فإن أزوالد دوكرو Ducrot يرى خلاف ذلك أن اللغة ليست دائما لغة تواصل واضح وشفاف، بل هي لغة إضمار وغموض وإخفاء. ويعني هذا أن الفرد قد يوظف اللغة باعتبارها لعبة اجتماعية للتمويه والتخفية وإضمار النوايا والمقاصد. ويكون هذا الإضمار اللغوي ناتجا عن أسباب دينية واجتماعية ونفسية وسياسية وأخلاقية. فمهرب المخدرات قد لا يستعمل اسم مهرباته بطريقة مباشرة، بل يستعمل الرموز للإخفاء، كأن يقول لصديقه: هل وصلت الحناء إلى هولندا؟ كما أن أسلوب الأمر في الشريعة الإسلامية يستعمل للوجوب والدعاء والندب، وهذا يعني أن اللغة فيها أوجه دلالية عدة؛ مما يزيد من غموضها وعدم شفافيتها التواصلية. ويذهب رولان بارت Roland Barthes بعيدا في تأويلاته للغة الإنسانية، إذ اعتبر اللغة بعيدة عن التواصل، وجعلها لغة سلطة مصدرها السلطة. ويعني هذا أن الإنسان عبد للغة وحر في نفس الوقت. فالمتكلم عندما يتحدث لغة أجنبية ، فهو خاضع لقواعدها وتراكيبها ولمنظومتها الثقافية. ولكنه في نفس الوقت يوظف هذه اللغة كيفما يشاء ويطوعها جماليا وفنيا. فاللغة الفرنسية استبدت كثيرا بالشعب الجزائري لمدة طويلة، فأخضعته لقواعدها وسننها اللساني؛ وعلى الرغم من ذلك نجد بعض الأدباء الجزائريين بقدر ما هم خاضعون لهذه اللغة الأجنبية، يتخذونها سلاحا لهم بكل حرية للتنديد بالاستعمار الفرنسي، ونقده ، والهجوم عليه، عن طريق تطويع تلك اللغة وتعربيها. كما أن السلطة الحاكمة قد تفرض اللغة التي تناسبها على المجتمع لفرض سيطرتها السياسية والإيديولوجية. فبالقوة قد نفرض اللغة، كما أن اللغة هي التي تمنح السلطة السياسية للفئة الحاكمة. وهكذا، نستنتج أن اللغة قد تكون أداة للتواصل الشفاف، كما يمكنها أن تكون لغة للإضمار والتمويه والإخفاء، كما يمكن أن تكون أداة للسلطة على حد سواء. 2- التواصل من المنظور الفلسفي: طرح مفهوم الأنا والغير في الخطاب الفلسفي كثيرا من الإشكاليات التي تنصب كلها في كيفية التعامل مع الغير، وكيف يمكن للأنا النظر إلى الغير؟! يذهب الفيلسوف الألماني هيجل إلى أن العلاقة بين الأنا والغير هي علاقة سلبية قائمة على الصراع الجدلي، كما توضح ذلك نظريته المسماة بجدلية السيد والعبد. أما جان بول سارتر فيرى أن الغير ممر ووسيط ضروري للأنا ، إلا أن الغير جحيم لا يطاق؛ لأنه يشيء الذات أو الأنا. لهذا، يدعو سارتر إلى التعامل مع الغير بحذر وترقب وعدوان، وأنه يستحيل التعايش بين الأنا والغير أو التواصل بينهما ، مادام الغير يستلب حرية الأنا، ويجمد إرادته. لذلك، قال قولته المشهورة: " أنا والآخرون إلى الجحيم". بيد أن ميرلوبونتي رفض نظرية سارتر التجزيئية العقلانية، واعتبر أن العلاقة بين الأنا والغير إيجابية قائمة على الاحترام والتكامل والتعاون والتواصل، وأساس هذا التواصل هواللغة. أما ماكس شيلر فيرى أن العلاقة بين الأنا والغير قائمة على التعاطف الوجداني ، والمشاركة العاطفية الكلية مع الغير، ولا تقوم على التنافر أو البغض والكراهية. في حين يرى جيل دولوز أن العلاقة التواصلية بين الأنا والغير في المجال المعرفي البنيوي قائمة على التكامل الإدراكي. 3- التواصل من المنظور السيميائي: تندرج تحت إطار سيميولوجيا التواصل أبحاث كل من برييطوPrieto ، وجورج مونان Mounin ، وبويسنس Buyssens ، ومارتينيه Martinet ، وغيرهم. وهؤلاء جميعا يتفقون على أن العلامة السوسيرية تتشكل من وحدة ثلاثية ، وهي: الدال والمدلول والقصد. وهم يركزون كثيرا في أعمالهم على الوظيفة التواصلية. ولاتختص هذه الوظيفة التواصلية بالرسالة اللسانية المنطوقة فحسب، بل توجد في أنظمة غير لسانية أخرى كالإعلانات والشعارات والخرائط واللافتات والمجلات والنصوص المكتوبة، وكل البيانات التي أنتجت لهدف التواصل. وتشكل كل الأنماط المذكورة علامات، ومضامينها رسائل أو مرسلات MESSAGES. وهكذا يقصي أنصار سيميولوجيا التواصل ذلك النوع من سيميولوجيا الدلالة التي تدرس البنيات التي تؤدي وظائف غير وظيفية كما لدى رولان بارت مثلا. ونستشف من خلال أبحاث ورؤى مؤسسي هذا الاتجاه أنهم يميلون إلى دراسة أنساق العلامات ذات الوظيفة التواصلية. وبناء على ذلك، فإن أفضل تناول حسب برييطو هو القول: " إن ما يميز الوظيفة التواصلية عن الوظيفة الدلالية حصرا هو القصدية التي تتجلى في الأولى لا في الثانية". إن السيميولوجيا حسب بويسنس عليها" أن تهتم بالوقائع القابلة للإدراك، المرتبطة بحالات الوعي، والمصنوعة قصدا من أجل التعريف بحالات الوعي هذه. ومن أجل أن يتعرف الشاهد على وجهة التواصل في رأي بويسنس هو ما يكون موضوع السيميولوجيا". وقد ساهم أنصار هذا الاتجاه في بلورة المشروع السوسيري القاضي بأن اللغة هي نظام للتواصل كما فعل كل من تروبوسكوي ومارتينيه وبرييطو، حيث اهتموا اهتماما بالغا بدراسة أنظمة الاتصال غير اللغوية وطرائق توظيفها كالإعلان وأرقام الحافلات... وغيرها من الأنظمة، بل تطور هذا الاتجاه أساسا بتطور علم الدلالة. أنماط التواصل: ومن أنماط الاتصال الإنساني التواصل مع الذات ، والذي يكون عن طريق وعي الذات بوجودها وكينونتها، وتحقيق إنيتها الأنطولوجية ووعيها الداخلي بالعالم، والتواصل بين الفرد والآخرين؛ لأن إدراك الآخر يساعد الفرد على إدراك ذاته، والتواصل بين الجماعات الاجتماعية الذي يسعى إلى تنمية الروح التشاركية، و تفعيل المبدإ التعاوني، وتحقيق التعارف المثمر البناء. ومن الأنماط التواصلية الأخرى ، نذكر: التواصل البشري، والتواصل الحيواني ، والتواصل الآلي ( السيبرينطيقا)، والتواصل الإعلامي (تكنولوجيا الاتصال بصفة عامة). مفاهيم التواصل ومكوناته الأساسية: يشترط استحضار مجموعة من المفاهيم النظرية والعناصر الأساسية التطبيقية باعتبارها مكونات جوهرية في عملية التبادل والتفاعل والتأثير عند الحديث عن التواصل ، أو أثناء استعمال هذا المفهوم بمثابة مقاربة تحليلية، أو منهجية إجرائية في استقراء العلاقات التفاعلية، أو أثناء قراءة النصوص والخطابات، أو أثناء فهم الروابط الذهنية والوجدانية والحركية وتفسير أنسقتها التبادلية. وهذه العناصر هي: 1- زمنية التواصل temporalité؛ 2- المكانية أو المحلية localisation؛ 3- السنن أو لغة التواصل( التشفير والتفكيك)code؛ 4- السياقcontexte؛ 5- رهانات التواصلenjeux de communication ؛ 6- التواصل اللفظي( اللغة المنطوقة) والتواصل غير اللفظي(اللغة الجسدية والسيميائية) communication verbale et non verbale؛ 7- إرادة التواصل( بث الإرسالية قد تكون إرادية أو غير إرادية)volonté de communication؛ 8- الفيدباك أو التغذية الراجعة، وذلك بتصحيح التواصل، وتقويته، وتدعيمه، وإنهائهfeedback ؛ 9- شبكة التواصل.Réseau le. نماذج من التواصل: هناك كثير من نظريات التواصل التي حاولت مقاربة وفهم نظام التراسل والاتصال؛ لذلك من الصعب استقراء كل النظريات التي تحدثت عن التواصل، بل سنكتفي ببعض النماذج التواصلية المعروفة قصد معرفة التطورات التي لحقت هذه النظريات والعلاقات الموجودة بينها: 1- النموذج الأول: النموذج السلوكي: وضع هذا النموذج المحلل النفسي الأمريكي لازويلLasswell D . Harold سنة 1948 م. ويتضمن هذا النموذج مايلي: من؟ ( المرسل)، يقول ماذا؟( الرسالة)، بأية وسيلة؟ ( وسيط)، لمن؟ (المتلقي)، ولأي تأثير( أثر). ويرتكز هذا النموذج على خمسة عناصر، وهي:المرسل و الرسالة والقناة والمتلقي و الأثر. ويمكن إدراج هذا النموذج ضمن المنظور السلوكي الذي انتشر كثيرا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ويقوم على ثنائية المثير والاستجابة. ويتمظهر هذا المنظور بجلاء عندما يركز لازويل على الوظيفة التأثيرية، أي التأثير على المرسل إليه من أجل تغيير سلوكه إيجابا وسلبا. ومن سلبيات هذا النظام أنه يجعل المتقبل سلبيا في استهلاكه، ويمتاز منظوره بتملكه للسلطة في استعمال وسائل التأثير الإشهاري في جذب المتلقي ، والتأثير عليه لصالح المرسل. 2- النموذج الثاني: النموذج الرياضي: وضع هذا النموذج في سنة 1949م من قبل المهندس كلود شانون Claude Shannon ، والفيلسوف وارين وايڤر Waren Weaver. ويركز هذا التصور الرياضي على المرسل والترميز والرسالة، وفك الترميز والتلقي. يهدف هذا النموذج إلى فهم الإرسال التلغرافي، وذلك بفهم عملية الإرسال من نقطة Aإلى B بوضوح دقيق دون إحداث أي انقطاع أو خلل في الإرسال بسبب التشويش. ويتلخص مبدأ هذا النظام بكل بساطة في:"يرسل مرسل شفرته المسننة إلى متلق يفك تلك الشفرة". ومن ثغرات هذا النظام الخطي أنه لا يطبق في كل وضعيات التواصل، خاصة إذا تعدد المستقبلون، وانعدم الفهم الاجتماعي والسيكولوجي أثناء التفاعل التواصلي بين الذوات المفكرة، كما يبقى المتقبل سلبيا في تسلمه للرسائل المشفرة. 3- النموذج الثالث: النموذج الاجتماعي: هو نموذج ريلي وريلي Riley &Riley الذي يعتمد على فهم طريقة انتماء الأفراد إلى الجماعات. فالمرسل هو المعتمد، والمستقبل هم الذين يودعون في جماعات أولية اجتماعية، مثل: العائلات والتجمعات والجماعات الصغيرة... وهؤلاء الأفراد يتأثرون، ويفكرون، ويحكمون، ويرون الأشياء بمنظار الجماعات التي ينتمون إليها، والتي بدورها تتطور في حضن السياق الاجتماعي الذي أفرزها. ويلاحظ أن هذا النموذج ينتمي إلى علم الاجتماع، وخاصة علم النفس الاجتماعي، حيث يرصد مختلف العلاقات النفسية والاجتماعية بين المتواصلين داخل السياق الاجتماعي. وهذا ما يجعل هذا النظام يساهم في تأسيس علم تواصل الجماعة la communication de groupe. ومن المفاهيم التواصلية المهمة داخل هذا النظام نجد: مفهوم السياق الاجتماعي والانتماء إلى الجماعة. 4- النموذج الرابع: النموذج اللساني: إن الذي وضع هذا النموذج اللساني الوظيفي هو رومان جاكبسون Roman Jackobson في سنة 1964 م , حينما انطلق من مسلمة جوهرية ، وهي أن التواصل هو الوظيفة الأساسية للغة، وارتأى أن للغة ستة عناصر ، وهي: المرسل والرسالة والمرسل إليه والقناة والمرجع واللغة. ولكل عنصر وظيفة خاصة: فالمرسل وظيفته انفعالية تعبيرية، والرسالة وظيفتها جمالية من خلال إسقاط محور الاستبدال على محور التركيب، والمرسل إليه وظيفته تأثيرية وانتباهية، والقناة وظيفتها حفاظية، والمرجع وظيفته مرجعية أو موضوعية، واللغة أو السنن وظيفتها(ه) لغوية أو وصفية. وهناك من يزيد الوظيفة السابعة للخطاب اللساني، وهي الوظيفة الأيقونية بعد ظهور كتابات جاك دريدا J . Derrida والسيميوطيقا التواصلية. وقد تأثر جاكبسون في هذه الخطاطة التواصلية بأعمال فرديناند دوسوسيرFerdinand. De Saussure والفيلسوف المنطقي اللغوي جون أوسطين John L. Austin. 5- النموذج الخامس: النموذج الإعلامي: يقوم هذا النموذج الإعلامي على توظيف التقنيات الإعلامية الجديدة كالحاسوب والإنترنت والذاكرة المنطقية المركزية في الحاسوب. ومن مرتكزات هذا النموذج: خطوة الاتصال، وخلق العلاقة الترابطية:phase de mise en contact/ connexion، و خطوة إرسال الرسائل؛ وخطوة الإغلاق phase de clôture/déconnexion. أي إن هذا النموذج الإعلامي يستند إلى ثلاث مراحل أساسية: الشروع في الاتصال ، والتشغيل، وإيقاف التشغيل. 6- النموذج السادس: النموذج التربوي: يتكئ التواصل التربوي على المرسل ( المدرس)، والرسالة ( المادة الدراسية)، والمتلقي ( التلميذ)، والقناة( التفاعلات اللفظية وغير اللفظية)، والوسائل الديداكتيكية ( المقرر والمنهاج ووسائل الإيضاح والوسائل السمعية البصرية...)، والمدخلات( الكفايات والأهداف)، والسياق( المكان والزمان والمجزوءات)، والمخرجات( تقويم المدخلات)، والفيدباك (تصحيح التواصل ، وإزالة عمليات التشويش وسوء الفهم). التواصل اللفظي: يشغل التواصل اللغوي الذي يكون بين الذوات المتكلمة وحدات فونيمية ومقطعية مورفيمية ومعجمية وتركيبية. أي يعتمد التواصل اللغوي على أصوات ومقاطع وكلمات وجمل. ويتم التواصل اللغوي عبر القناة الصوتية السمعية، أي يتكئ أساسا على اللغة الإنسانية، ويتحقق سمعيا وصوتيا. فاللغة المنطوقة لها مستوى لغوي هو عبارة عن نظام من العلامات الدالة ( علاقة الدال بالمدلول بالمفهوم السوسيري)، والتي هي نسق من الوحدات نسميها وحدات الخطاب. وتتفق البنيوية والتداولية على اعتبار اللغة وسيلة للتواصل ، على عكس التوليدية التحويلية بزعامة نوام شومسكي التي ترى أن اللغة ذات وظيفة تعبيرية. و بالتالي، تقر بأن التواصل ما هو إلا وظيفة إلى جانب وظائف أخرى قد تؤديها اللغة. وترى المدرسة الوظيفية الأوربية، بشقيها: الشرقي والغربي، أن اللغة الإنسانية وظيفتها التواصل. فأندري مارتيني يعرف اللغة كما قلنا سابقا على أنها تمفصل مزدوج وظيفتها الأساسية هي التواصل. ويعني بالتمفصلين: المونيمات والفونيمات. وتذهب سيميولوجية التواصل إلى تبني وظيفة المقصدية ، ويمثل هذا الاتجاه: جورج مونان، وبرييطو، وبويسنس، والمدرسة الوظيفية بصفة عامة. فالذي يريد أن يدرس اللغة كأداة للتواصل ينبغي له أن يستند إلى علوم لسانية كعلم الدلالة والسيميوطيقا والسيميولوجيا. ويقول نادر محمد سراج:" يتواصل متكلمو لغة إنسانية معينة فيما بينهم بسهولة ويسر، وذلك مرده إلى أن كلا منهم يمتلك ويستخدم في البيئة اللغوية عينها، نسق القواعد نفسه، الأمر الذي يتيح له سهولة استقبال، وإرسال، وتحليل المرسلات اللغوية كافة، هذا ما يحدث مبدئيا عبر ما نسميه شكل التواصل الكلامي Communication verbal وهو الشكل الأكثر انتشارا واستعمالا" . وكانت الوظيفة التواصلية في اللغة معروفة عند النحاة وعلماء اللغة العربية القدامى، فابن جني يقول في باب:" القول على اللغة وما هي": أما حدها: فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم" . أما علماء اللغة، فقد عرضوا بدورهم لموضوع وظيفة اللغة، فاتفق أغلبهم على أن وظيفتها هي التعبير والتواصل والتفاهم، ويبرز في هدا المجال الألسني الفرنسي أندريه مارتيني الذي يؤكد- بدوره ومن خلال كلامه عن اللغة الإنسانية باعتبارها مؤسسة من المؤسسات الإنسانية- أن هذه الأخيرة " إنما تنتج عن الحياة في المجتمع، وهذا هو تماما حال اللغة الإنسانية التي تدرك بشكل أساسي كأداة للتواصل". ويسير في هذا الاتجاه لسانيو التيار البراگماتي كڤان ديك وهاليداي. 1- التواصل غير اللفظي: تقوم القناة البصرية بدور أساسي في التواصل. ذلك أن فعل التواصل بين المرسل والمرسل إليه لا يوظف فقط نسقا لغويا منطوقا فحسب، بل إنه يستعمل نظاما من الإشارات والحركات والإيماءات التي تندرج فيما نسميه بالتواصل غير اللفظي ، وهو:" مجموع الوسائل الاتصالية الموجودة لدى الأشخاص الأحياء والتي لا تستعمل اللغة الإنسانية أو مشتقاتها غير السمعية ( الكتابة، لغة الصم والبكم)" وتستعمل لفظة التواصل غير اللفظي للدلالة على " الحركات وهيئات وتوجهات الجسم وعلى خصوصيات جسدية طبيعية واصطناعية، بل على كيفية تنظيم الأشياء والتي بفضلها تبلغ معلومات". وهكذا، فإن ملاحظة عادية لما يجري داخل الفصل الدراسي من سلوكات غير لفظية بين المدرس والتلاميذ تشكل كنزا من المعلومات والمؤشرات على جوانب انفعالية ووجدانية، كما أنها تكشف عن المخفي والمستتر في كل علاقة إنسانية. ويقول فرويد:" من له عينان يرى بهما يعلم أن البشر لايمكن أن يخفوا أي سر، فالذي تصمت شفتاه يتكلم بأطراف أصابعه، إن كل هذه السموم تفضحه" . من هنا يساعدنا التواصل المرئي على تحديد الجوانب التالية: *تحديد المؤشرات الدالة على الانفعالات والعلاقات الوجدانية بين المرسل والمتلقي ؛ * تعزيز الخطاب اللغوي ، وإغناء الرسالة عن طريق تدعيمها بالحركات، وذلك لضمان استمرارية التواصل بين المرسل والمتلقي؛ * يؤشر التواصل غير اللفظي على الهوية الثقافية للمتواصلين من خلال نظام الحركات والإشارات الجسدية. وقد حدد هاريسون Harrisson بعض العناصر التي تتصل بالتواصل غير اللفظي، وحصرها في: * كل التعابير المنجزة بواسطة الجسد( حركات، ملامح...)، وتنتمي إلى شفرة الإنجاز؛ * العلامات الثقافية كطريقة اللباس وتتمثل في الشفرة الاصطناعية؛ * استعمال المجال والديكور وتمثل الشفرة السياقية؛ * الآثار التي تحدثها أصوات وألوان مثل: نظام إشارات المرور، وهي الشفرة الوسيطة. 2- مستويات خطابية لابد منها: هناك مجموعة من الآليات والمفاهيم الإجرائية التي ينبغي الاعتماد عليها في تحليل أنظمة التواصل، وهي: 1- العلامة: وهي في اللغة العلاقة بين الدال ( صورة صوتية) والمدلول( مفهوم ذهني)، فكل خطاب منطوق أو مكتوب هو نسق من العلاقات اللغوية. أما العلامات غير اللغوية ، فهي نظام الإشارات غير المنطوقة كعلامات المرور أو المؤشرات والرموز المرئية والملصقات والإشهار والصورة وغيرها. 2- الأيقونة: وهي تمثيل محسوس لشيء قصد تبيان خصائصه وسماته، مثل: صورة شخص أو خريطة بلد. 3- المؤشر Indice: وهو ما يخبر عن شيء مستتر كالدخان، فهو مؤشر على النار إذا لم تكن مرئية، وعلامات الوجه قد تكون مؤشرا على فرح أو غضب أو حزن. 4- الرمزSymbole: وهو كل علامة تشير إلى هوية شيء، مثل: الحمامة رمز للسلام، و الميزان رمز للعدالة. ولقد حظي التواصل غير اللفظي مؤخرا باهتمام كثير من الدارسين، وذلك مع تطور اللسانيات والسميوطيقا وعلم النفس الاجتماعي، حيث:" تزايد اهتمام المجتمع العلمي في السنوات الماضية بموضوع التواصل الإشاري أو التواصل غير الكلامي الذي أضحى ميدانا خصبا للحلقات والأبحاث والمؤلفات، فبالإضافة إلى آلاف المقالات وعشرات الكتب التي صدرت...، فقد نظمت مئات الحلقات الدراسية التي خصصت لاستجلاء معالم هذا العلم المستجد ولإبراز مجالاته التطبيقية العملية" إذاً، فالتواصل غير اللفظي هو تواصل بدون استخدام للغة الإنسانية أي بدون تحقق سمعي وصوتي. ومن ثم، فالحقبة المعاصرة" هي التي شهدت توسع مفهوم التواصل المتعدد القنوات من خلال أعمال وتأملات علماء العادات وعلماء الإنسان وعلماء الاجتماع، إضافة إلى علماء النفس وأطباء الأمراض العقلية، وكان قد سبق لبعض علماء الإنسان أن أكدوا على تعدد قنوات الاتصال في بداية القرن" وعليه، فإن التواصل غير اللفظي مهم في تمتين العلاقات الإنسانية والبشرية ، ويساهم في كشف رضى الأفراد وانفعالاتهم داخل جماعات معينة، واستخلاص مميزاتهم الثقافية والحضارية، وتبيان مقوماتهم السلوكية والحركية في التعامل مع الأشياء والمواقف داخل سياقات معينة. بيد أن الخطاب الإشاري أو الحركي غير كاف لتأدية كل الرسائل بوضوح وشفافية، فلابد أن يعزز بالتفاعلات اللفظية التي تزيل كل إبهام وتشويش عن كل إرسالية غير لفظية في مجال التواصل. ومن ثم، فالمعرفة الضمنية" بالدلالات الاجتماعية كنسق إشاري ما ضرورية وأساسية لنجاح أية عملية تواصل إنساني، وبالرغم من ذلك، فإن التواصل الإشاري يبقى عرضة لسوء التفسير أو اللبس، وصولا إلى سوء التقدير، حتى أيضا، لأفراد البيئة اللغوية الواحدة، وما يمكن استخلاصه كملاحظة أولية في هذا المجال هو أنه لا يمكن للتواصل الإشاري أن يعتمد كقناة وحيدة وأساسية للتخاطب، بل يجب أن تكون الأولوية للغة المنطوقة التي تؤدي في أغلب الحالات والظروف إلى اتصال أوضح، وأكثر دقة وأسرع دلالة، وبالتالي، إلى تفاهم أفضل" ولقد ركز الباحثون في دراساتهم وأبحاثهم كثيرا على التواصل اللفظي مهملين السلوكات غير اللفظية وشبه اللغوية:" وإذا كان التواصل اللفظي وغير الكلامي يشكلان إحدى سمات السلوك البشري . فمن باب أولى أن نعيد إلى الأذهان أن الباحثين ركزوا جهودهم سابقا على الاعتناء بشكل أساسي بالجوانب الكلامية لهذا التواصل متجاهلين، وحسب التقليد، الرموز غير الكلامية التي كانوا ينسبونها عادة للتنوع الصوتي( كيفية صوتية، تنغيم، وقفة) أو لغير الصوتي( نظرة، تعبير وجهي، إشارات، وصفة الجسم وحركته)، بالرغم من تزايد الاهتمام الموجه إلى التحليل التحادثي(Indicatives) إما للقواعد الاجتماعية وإما للحالات النفسية للمرسل" ومن هنا، فإن المقاربة الوظيفية لدور هذه الرموز غير الكلامية في التفاعل الاجتماعي هو " ما ينبغي التركيز عليه والسعي لإبرازه في أية دراسة مستقبلية من هذا النوع، وإذا كان الكلام يشكل النشاط المركزي لنمط التفاعل الإنساني الذي نسميه عادة بالتحادث، فإن الأهمية تكمن في اعتبار هذا التحادث ورؤيته كظاهرة للاتصال المتعدد القنوات، والذي يشتمل على علائق متبنية جدا للرموز كلامية كانت أم غير كلامية. إن ما يجب أن نخلص إليه في هذه المقاربة التي سعينا من خلالها أن أية دراسة للرموز غير الكلامية يجب أن لا يتم بشكل منعزل، كعزل القناة البصرية عن القناة السمعية، بل بالأحرى ينبغي إيلاء وظائف الأشكال العام (Configurations) المتعددة القنوات للرموز أهمية كبرى نظرا لدورها المميز في هذا المجال" . وعليه، يمكن للتواصل أن يتحقق" أيضا بواسطة أشكال تخاطبية ليست بالضرورة كلامية تحل أحيانا محل التواصل الكلامي، لا بل وتصاحبه أحيانا كثيرة. وهذه الأشكال الأخيرة التي تعرف بالتواصل غير الكلامي أو باسم اللغة اللامنطوقة أو غير اللفظية ليست حكرا على الإنسان، بل هي معروفة أيضا لدى الفصائل الحيوانية التي يتصل بعضها ببعض عن طريق الأصوات والحركات والإشارات" . ويسمح التواصل غير اللفظي بفهم التحفيزات والتفاعلات الإنسانية. وقد كان هذا التواصل غير السلوكي وراء عدة بحوث مهمة تعتمد على تقنيات الفيديو وماكينوطوسكوب والحاسوب في مختلف التخصصات، مثل: علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، واللسانيات، والسميوطيقا، والأنتروبولوجيا، والإثنولوجيا (علم العادات). وقد وقع تقدم ملحوظ ومعتبر في هذه المجالات على عكس البيداغوجيا التي هي بعيدة عن هذا المجال، ولم تخض غمار هذا البحث إلا مؤخرا. ولقد قدم علماء الإثنولوجيا أبحاثا مهمة في هذا الصدد، فحضور التواصل غير اللفظي يتجلى بشكل واضح في المسرح والميم والموضة والرقص والرسم والنقش والنحت، غير أن السلوكات غير اللفظية لم تثر انتباه المفكرين والباحثين قديما وحديثا على الرغم من استعمالهم لها. وإذا كانت الأنساق الدلالية تنقسم إلى قسمين كبيرين: أنساق دلالية طبيعية وأنساق دلالية اجتماعية، فإن الأنساق الدلالية الاجتماعية تنقسم إلى أنساق دلالية اجتماعية لفظية وأنساق دلالية اجتماعية غير لفظية، فالأنساق الدلالية الطبيعية هي تلك الأنساق التي توجد في حضن الطبيعة. ومن سمات هذه الأنساق أنها غير مؤسسية، فالإنسان هو الذي وظفها داخل مجال الدلائل، وأسند إليها دلالات معينة. أما الأنساق الدلالية الاجتماعية فهي:" في نفس الآن الأنسنة وكل ما نتج عنها، أي إنها ما قبل التاريخ الإنساني والتاريخ الإنساني منظورا إليه من زاوية السيميوطيقا العامة" أما الأنساق الدلالية الاجتماعية، فهي تلك الأنساق التي تتميز بكونها مؤسسية، وأنها أيضا من نتاج عمل الإنسان، وهي تتفرع إلى أنساق لفظية وغير لفظية. فاللفظية هي" تلك الأنساق التي لها لغات ولها خصوصياتها المتنوعة وإعدادات مثل: الأنواع السننية. وتقوم هذه الأنواع السننية على التمايزات التي يحدثها الإنسان في مادة الصوت" ومن الواضح أن روسي لاندي" يقصي من هذا النوع من الأنساق اللغة الشعرية واللغات التقنية واللغة الطقوسية واللغات الإيديولوجية المختلفة ولغة الرياضيات. وعلاوة على ذلك، فإن مفهوم الأنساق اللفظية عنده لا يأخذ بعين الاعتبار تمايز بين ماهو منطوق وماهو مكتوب، فهذا المفهوم يشملهما معا" . أما الأنساق الدلالية الاجتماعية غير اللفظية ، فهي تلك التي " لا تستعمل أنواعا سننية قائمة على أصوات بها، ولكنها تستعمل أنواعا سننية قائمة على أنماط أخرى من الأشياء، هاته الأشياء الأخرى التي يسميها بالأجسام هي إما أشياء توجد قبليا في الطبيعة وإما أن الإنسان أنتجها لغايات أخرى، وإما أنها أنتجت لغرض أن تستعمل بوصفها دلائل، أو أنها استعملت باعتبارها دلائل في نفس الفعل الذي نتجت فيه" وتتكون الأنساق غير اللفظية التي لها وظيفة تواصلية مما يلي: 1- حركات الأجسام Kinesic وأوضاع الجسد Postural: مثل التواصل بالإشارات ، وتعابير الوجه، وتعابير أخرى ، وأوضاع الجسد.... 2- الإشارات الدالة على القرب Proxémique: يتعلق باستعمال الإنسان للمجال المكاني؛ 3- التواصل اللمسي والشمي والذوقي والبصري والسمعي إلى درجة نستطيع فيها إبعاد أنساق دلالية غير لفظية أخرى قائمة أيضا على السمع والبصر؛ 4- التواصل الشيئي: هي الأنساق القائمة على أشياء يروضها الإنسان، وينتجها ، ويستعملها: ثياب وحلي وزخارف وأدوات مختلفة وآلات بناء من كل نوع وموسيقا وفنون رمزية؛ 5- التواصل المؤسساتي: المقصود به كل أنواع التنظيمات الاجتماعية، وبالتحديد كل الأنساق المتصلة بروابط القرابة والطقوس والأعراف والعادات والنظم القضائية والديانات والسوق الاقتصادي. ويمكن تقسيم هذه الأنساق إلى قسمين: القسم الأول: عبارة عن أنساق دلالية عضوية تحيل على جسم الإنسان، أي العضوية الإنسانية ( حركات الأجسام والموضعية والحواس الخمس). أما القسم الثاني فيحتوي على أنساق دلالية أداتية، أي إن الإنسان يقوم بسلوك بواسطة شيء، وهذه الأشياء خارجة عن العضوية الإنسانية. وفي المقابل، يقسم السيميوطيقي الإيطالي أومبرطو إيكو Umberto Eco الأنساق الدلالية إلى ثمانية عشر نسقا. وينطلق في هذا التصنيف من الأنساق التواصلية التي تبدو في الظاهر أكثر طبيعية وعفوية، أي أقل من خاصيتها الثقافية وصولا إلى العمليات الثقافية الأكثر تعقيدا. وهذه الأنساق هي: 1- سيميوطيقا الحيوان: ويخص الأمر بالسلوكات المتصلة بالتواصل داخل الجماعات غير الإنسانية، وبالتالي، الجماعات غير الثقافية؛ 2- العلاقات الشمية: كالعطور مثلا؛ 3- التواصل اللمسي: كالقبلة والصفعة؛ 4- سنن الذوق: ويتعلق الأمر بممارسة الطبخ؛ 5- العلامات المصاحبة لما هو لساني Paralinguistique: كأنماط الأصوات في ارتباطها مع الجنس والسن والحالة الصحية... ومثل العلامات المصاحبة للغة كالكيفيات الصوتية ( علو الصوت ومراقبة العملية النطقية...)، وكالصوتيات ( الأمزجة الصوتية: الضحك والبكاء والتنهدات)؛ 6- السيميوطيقا الطبية: وهي تبين لنا علاقة الأعراض بالمرض؛ 7- حركات الأجسام والإشارات الدالة على القرب: ويتعلق الأمر باللغات الإشارية الحركيةGestuels ؛ 8- الأنواع السننية الموسيقية؛ 9- اللغات الرمزية أو المشكلنة Formalisis: مثل الجبر والكيمياء وسنن الشفرةMorse؛ 10- اللغات المكتوبة والأبجديات المجهولة والأنواع السننية السرية؛ 11- اللغات الطبيعية: مثل اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية؛ 12- التواصل المرئي: مثل الأنساق الخطية واللباس والإشهار؛ 13- نسق الأشياء: مثل المعمار وعامة الأشياء؛ 14- بنيات الحكي والسرد؛ 15- الأنواع السننية الثقافية: مثل آداب السلوك والتراتبات والأساطير والمعتقدات الدينية القديمة؛ 16- الأنواع السننية والرسائل الجمالية: مثل علم النفس والإبداع الفني والعلاقات بين الأشكال الفنية والأشكال الطبيعية؛ 17- التواصل الجماهيري: مثل: علم النفس وعلم الاجتماع والبيداغوجيا ومفعول الرواية البوليسية والأغنية؛ 18- الخطابة La rhéthorique. استنتاج: تلكم هي أهم الآليات التواصلية التي تتعلق بلسانيات التواصل اللفظي وغير اللفظي ، وهي أساسية في تفكيك الخطابات كيفما كانت، وتركيبها من جديد. ومن هنا، فالسيميائيات في حاجة ماسة إلى معرفة الأنظمة التواصلية، وتحديد شفراتها السننية، وإرساء مصطلحاتها الإجرائية والتطبيقية لفهم نظام التواصل وتفسيره، وتبيان طرائق الإرسال والتلقي، ورصد الوسائل والمدخلات والمخرجات التي يرتكن إليها التواصل اللفظي وغير اللفظي على حد سواء. وإذا كانت اللسانيات مؤهلة لدراسة التواصل اللفظي كما يثبت ذلك فرديناند دوسوسير في كتابه:" محاضرات في اللسانيات العامة"، فإن السيميولوجيا أو السيميوطيقا مؤهلة أيضا لدراسة الأنظمة التواصلية غير اللفظية. بينما على العكس يرى رولان بارت في كتابه:" عناصر السيميولوجيا" أن اللسانيات هي التي تملك القدرة بوحدها على رصد التواصل اللفظي وغير اللفظي.