يشكل كتاب «قصيدة النثر،في مديح اللبس» للناقد محمد آيت لعميم،الصادر عن منشورات بيت الشعر في المغرب،2015 ، إضاءة جديدة لمفهوم قصيدة النثر وسياقات بروزه كشكل جديد في الكتابة الشعرية بشكل عام،كما يعرض لمجموعة من النصوص المؤسسة لكتابة قصيدة النثر،ومدى انفتاحها على باقي المكونات والجغرافيات الشعرية العالمية الشرقية واللاتينية. ويغطي هذا الكتاب –كما يقول آيت لعميم في مقدمة الكتاب -مجموعة من القضايا التي تهم قصيدة النثر باعتبارها شكلا متمردا ومتمنعا وملتبسا تستحضر النقاش السائد حولها، بالرغم من أنها أصبحت واقعا وشكلا شعريا مكرسا، مستفيدة من طاقات النثر وإمكاناته في محاولة جديدة لإسباغ نوع من المصالحة بين الأنواع الأدبية. وقد أسفرت هذه الرغبة في التقارب بين الأجناس إلى ما يسمى بقصيدة النثر،أو القصيدة بمواد النثر(ص5 ) وما هو مؤكد فإن قصيدة النثر كتبت قبل بودلير(سأم باريس-قصائد نثر صغيرة)،أواخر ق18 وبدايةق19،وخاصة من طرف رائدها فالسيوس برتراند «غاسبار الليل»أما التنظير لها فقد قامت به سوزان برنار «قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الراهن-1958 « وقد حددت سوزان برنار ثوابت هذه القصيدة الملتبسة أجناسيا في ثلاثة عناصر جوهرية: أ-معيار الوحدة العضوية: مهما بلغت القصيدة من درجة التعقيد،ورغم حريتها الظاهرة،إلا أنها لابد أن تشكل كلا وعالما مغلقا خشية فقدان صفتها باعتبارها قصيدة، وإذا ما أضفت أن القصيدة هي تنظيم جمالي متميز، وأنها ليست بقصة قصيرة ولا برواية ولا بدراسة فمن الصعب تماما هنا رسم الحدود..(ص6 ) -معيار المجانية: فكرة المجانية تحددها بدقة فكرة اللازمنية(ص7 ) -الإيجاز: تجنب الاستطرادات الأخلاقية أو أية استطرادات أخرى والإسهابات التفسيرية(ص7 ) يقدم كتاب آيت لعميم هذا ترجمة مقالات وفصول تعرضت بالبحث والتنقيب والتوضيح والاستدراك لإشكالية قصيدة النثر وما حف بها من غموض والتباس: -المقالة الأولى ل»نتالي فانسون مونيا» مركزة على سأم الشعر-المقالة الثانية فهي ل»ميشيل ساندرا» مقتطفة من كتابه «قصيدة النثر» فصل من كتاب تعريفي يفصل في تحديد القصيدة وعلاقتها بالأجناس القريبة منها(ص7 )-الفصل الثالث عبارة عن فصل من كتاب الناقدة «دومينيك كومب»»الشعر والحكي» يفسر أسباب ظهور هذه القصيدة في علاقتها بالتركيب الأجناسي.-أما الفصل الأخير فخصصه لتجليات أشكال أدبية أخرى في علاقتها بقصيدة النثر، خاصة الهايكو الياباني باعتماد فصل كتبته الناقدة اليابانية ماريا قداما زوجة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. في مقال «قصائد النثر الأولى:سأم الشعر» تناقش «ناتالي فانسون» علاقة الشعر بالنثر انطلاقا من القرن18 ،إلى ظهور قصيدة النثر مع بودلير، في كتاب»سأم الشعر»، التي أتت لتحقق قطيعة جمالية ثانية،أي بظهور إيقاع جديد، وأحاسيس شخصية لم يعد البيت الكلاسيكي يستطيع احتواءها، على هيئة شذرات، مقاطع غنائية صرفة، شذرات منفلتة سردية وواقعية.وتتميز قصيدة النثر بهذه البنية الواضحة للقصيدة وتنفتح أيضا على سجلات متنوعة ومتعددة سردية وصفية إن لم نقل تاريخية أو تأملية. فقصيدة النثر هي في الآن نفسه تمثيل وهدم في نفس الوقت، وهي خطاب شعري وإظهار للاشتغال الشعري، وهي مكان للتمزق. تترجم بشكل ما سأم الشاعر وازدواجية الكائن، فهي في نفس الوقت تدفق وانقطاع لعب على الانكسارات وهي في نفس الآن تصوير ولا تصوير ، وتشويه، سأم شعري يقال في صيغة السخرية.أليس الشعر في الآن نفسه سريالية وسخرية؟ أما ميشيل ساندرا، فيقترح مفهوم قصيدة النثر، انطلاقا من التعريف الذي قدمه «ألفريد اطيس» رئيس تحرير «المجلة البيضاء»سنة1897،معتبرا قصيدة النثر تشكل كلا متناغما ومحددا ومغلقا حيث يتلاقى الإيقاع، لكنه أكثر انفلاتا مما هو الأمر بالنسبة للبيت الشعري، ويشير ساندرا أن هناك صعوبات في تحديد الخاصيات الشكلية والموضوعاتية لقصيدة النثر، من أهمها:تعدد الأشكال التي تقدم للقارئ(«معرفة الشرق» لكلوديل، و»جام النرد» لماكس جاكوب، ونصوص «نصف عالم في شعر غزير» و»الكلب والقارورة» التي يتضمنها ديوان «سأم باريس» لبودلير. وإذا كان «ساندرا» يسعى إلى البحث عن مفهوم آخر لقصيدة النثر ، فهو يعتبرها أكثر من كونها جنسا أدبيا، ستحصل على مجموعة من الأشكال الأدبية الموجزة المنتمية إلى فضاء انتقالي يعاد فيه تحديد العلاقات بين النثر والبيت الشعري وتتشكل فيه مفاهيم ومعايير أخرى للقصيدة،ممثلة في الإيجاز،الكثافة،المجانية حسب ما ذكرته سوزان برنار ولوك ديكون ويتساءل عن قصيدة النثر كشكل مزدوج؟ يقول ساندرا إن قصيدة النثر حسب سوزان برنار، تتأسس على الجمع بين الأضداد، وليس فقط في شكلها وإنما في جوهرها الجمع بين النثر والشعر، الحرية والصرامة، الفوضى الهدامة والفن المنظم، من هنا تناقضها الداخلي، ومن هنا تعارضاتها العميقة والخطيرة والخصبة، ومن هنا توترها المستمر وديناميتها. وقادَها هذا التصور إلى التمييز بين القصيدة الشكلية التي تنظمها بنيات متواترة،والقصيدة الإشراق=الومض اللامع والخاطف كما عند رامبو. أما «دومينيك كومب» فقد قاربت «تركيب الأجناس وقصيدة النثر»فبالرغم من الخاصية النسقية للتعارضات بين الشعر والحكي، والشعر والتخييل، والشعر والرواية، فإن كل مصالحة ليست ممنوعة؛ إذ يصدر نسق الأجناس الذي يتواجه فيه الشعري والسردي عن التوليف «الثلاثي» القديم،وعن التقسيم بين النثر والشعر المطابق للبيت الشعري. من هنا يحدث تصالح بين الشعري والسردي.فحسب سوزان برنار،كما قالت دومنيك كومب، فإن»قصيدة النثر تفترض إرادة واعية لتنظيم قصيدة،يجب أن تكون كلا عضويا، مستقلا، مما يسمح بتمييزها عن»النثر الشعري».وتختصر سوزان برنار هذه الضرورة بمعايير الوحدة والمجانية والإيجاز،تعني بالمجانية أن قصيدة النثر بخلاف النثر الشعري،ليست مادة،منها يمكننا أن نكتب محاولات وروايات وقصائد. أما «أندري دومانديازع» فيشير إلى أن هناك التباسا ما في مصطلح قصيدة النثر، يكفي العودة إلى قصائد النثر عند بودلير وإلى حكايات «إدغار ألن بو» كي نرى كم أن هذا الشكل من الكتابة هو وسيط بين الشعر والسرد. وتبرز دومنيك كومب إشكال العلاقات بين قصيدة النثر والحكاية و القصة، مشيرة إلى أن صلة قصيدة النثر بالحكي، التي أثبتتها دراسة العلاقات الاستبدالية والتوزيعية بين قصيدة النثر والقصائد الموزونة، سيؤكدها التعديل المتواتر للنوع نحو الحكاية أو القصة ، حيث التمييز بينهما صعب للغاية،كما ذكرت سوزان برنار.كما لدى إدغار ألن بو(موت بطولي)و(إشراقات) لدى رامبو.من هذا الغموض الأساس بين قصيدة النثر والحكاية تظهر نصوص عديدة معاصرة للجنس الملتبس،مؤكدة القرابة والصلة بين قصيدة النثر والحكاية.ويصرح ما نديازغ بأن مصطلح «قصيدة النثر»هو مصطلح»ملتبس غامض»لأنه»وسيط بين الشعر والسرد إلى درجة أن العديد من قصائد النثر هي أيضا حكايات صغيرة؟والفرق الوحيد بين القصة (الحكاية)وقصيدة النثر يبقى هو الامتداد. هكذا فتركيب الأجناس في قصيدة النثر،كان يبدو حقيقة،لكنه لا يدمر بلاغة التقسيم،فمكونات قصيدة النثر-الشعر و الحكي-ما زال ينظر إليهما باعتبارهما متباعدين رغم قابليتهما للمصالحة.فالتركيب اذن غير خالص فهو خليط أجناس. أما الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، حسب آيت لعميم، فيعتبر أن الشعر لا ينبغي أن يكون بصريا بل مسموعا،موسيقى، كما كان يعتبر اليونانيون شعر هوميروس.فشعر بورخيس هو الوجه الثاني لعمليته الإبداعية؛ فموضوعاته في عمله التخييلي تعاد في شعره(المتاهة-الذاكرة-لعبة المرايا-العالم في حالة سديمية-وحدة الوجود-العود الابدي- التطابق بين سيرة رجل واحد وباقي الناس والنهر والنمر والوردة والسيف والكتب).والأمر بالنسبة اليه كان يتعلق بالبحث عن رؤية لا تحاول إعادة صوغ عالم مرئي، فعالمه صيغ من أحاسيس الزمن والحياة المتدفقة والكتب التي تحمل للشاعر ذكريات.وهو ما أثمر -أثناء رحلة بورخيس إلى اليابان رفقة زوجته قداما-، سبع عشرة قصيدة تنتمي إلى شكل الهايكو،حسب المترجم محمد آيت لعميم. وتجسد التأثيرات الشرقية في شعر بورخيس طبيعة الهايكو والأدب الغربي،حسب زوجته اليابانية «ماريا قداما»،إذ ليس الهايكو مقاطع صغيرة أو أبيات ذات مفارقة ما كما يمكن أن يلاحظه المتتبع لما يحسب على الهايكو. ولكن -حسب قداما- يرتبط بتقاليد شرقية في الشعر الياباني تم تحديدها باسم «الطانكا أو الواكا» والتي تطورت إلى الهايكو.والنقطة الأساسية في ذلك هو زخرفة الوقفة الشعرية أو الوقفة التركيبية.ويحدد الهايكو باعتباره فنا تقشفيا والتقشف هو نقيض الابتذال.وفن الهايكو يرفض القبح والكراهية والكذب والعاطفة والابتذال.الهايكو ليس أدبا روحيا صوفيا انه نمط من التفكير يمر عبر حواسنا.فحسب بورخيس «بالنسبة للشاعر الحقيقي كل لحظة في الحياة ،كل حدث ينبغي أن يكون شعريا»فالهايكو القصير هو قمة هرمٍ ضخمٍ. وإذ يقدم الأستاذ الناقد آيت لعميم مجهودا تركيبيا مائزا لمفهوم قصيدة النثر وسياقها الغربي في إطار الإشكالية الجمالية للحداثة الغربية،وعبر خطاب نقدي ،ينطلق من نص سوزان برنار،ويمتد في جغرافيات شعرية شرقية وأمريكية لاتينية،عبر مجموعة من النصوص الشعرية العالمية الرائدة.وبالرغم من الإضاءة النوعية التي قدمتها هذه الدراسة للخطاب النقدي والشعري العربي،فإننا نطرح الأسئلة والملاحظات الآتية: - أية علاقة لقصيدة النثر العربية بالخطاب الشعري والنقدي الغربي،في سياق الحداثة العالمية والعربية في نفس الآن؛ -هل تشكل قصيدة النثر العربية بديلا للأنواع الشعرية الأخرى،أم هي نوع مميز وفريد بينها؛ -كيف قارب الدرس الأدبي المغربي ،في سياق الخطاب النقدي العربي قصيدة النثر العربية؛ -ما الذي يميز البنية الشعرية والجمالية التي لقصيدة النثر المغربية والعربية، والأنساق التي تحكمت في إنتاجها عن باقي الأشكال الشعرية الأخرى؛ -هل تشكل قصيدة النثر قطيعة مع الموروث الشعري بكافة أشكاله،وهل تمتد القطيعة لتشمل كافة الأشكال النثرية بقديمها و جديدها أيضا؛ -هل تمثل قصيدة النثر شكلا ملتبسا،يستدمج الأشكال السابقة ،والأجناس الإبداعية الأخرى،أم لها خصوصيتها كقصيدة تراهن على الشعر، تراهن على الكتابة الشعرية،من خلال رؤية للعالم وجمالية فنية مختلفة.