وفي الحقيقية جذبتني هذه الدراسة التي أمدني بها المؤلف مشكورا وحرصت على قراءتها والاستمتاع بها لسببين : أولهما معرفتي بالمؤلف التي تعود إلى أيام الطفولة ،وزمالة الدراسة، والذي عهدت فيه الجدية والحرص على الانجاز المتميز في كل أعماله النقدية بدءا من باكورة أبحاثه "بورخيس أسطورة الأدب" الذي صدر سنة 2006 إلى كتاب "فائق العبودي حداثة الشكل وعراقة العلامة" الصادر سنة 2013 ببغداد ، ومرورا بطبيعة الحال بأيقونة مؤلفاته "المتنبي : الروح القلقة والترحال الأبدي" الصادر سنة 2010 وغيرها من الكتب والدراسات والمقالات والترجمات. وثانيهما موضوع الكتاب الذي اعتبره إضافة نوعية ورؤية نقدية جديدة لقصيدة النثر ، وغوص في المشترك الإنساني والإبداعي الذي ربط بين رواد هذا النوع من الشعر في المشرق العربي وفي المغرب. وكتاب "قصيدة النثر العربية بين إيقاع المعنى وذكاء العبارة" هو في الأصل أطروحة دكتوراه حضرها المؤلف منذ نهاية عقد الثمانينات، حيث كانت البداية مع تقديمه عرضا حول قصيدة النثر من منظور نازك الملائكة في مادة موسيقى الشعر بالسلك الثالث، ومنذ تلك اللحظة وهو يتابع عن كثب ما يكتبه الشعراء الذين انحازوا إلى هذا الشكل خاصة بعد انضمامه للغارة الشعرية سنة 1994 والتي شكلت لحضه مهمة في تعامله مع النصوص الشعرية لمحموعة من الشعراء في العالم العربي، كما صادف هذا الاهتمام حرصه على حضور عدة مهرجانات ولقاءات وندوات ومشاركات لحساسيات شعرية مغربية من رواد شعر التفعيلة ومن جيل السبعينات والثمانينات والتسعينات. الدكتور محمد أيت لعميم و دبج المؤلف كتابه باستهلال المتغيرات والتطورات التي عرفها الشعر العربي والتي شملت البناء والمضمون والرؤية، حيث كان للتغيير الاجتماعي والسياسي وللقضايا الكبرى اثر حاسم في تغير شكل الشعر ورؤاه ناهيك عن التأثيرات المرتبطة بالثثاقف الذي عرفه العالم عبر الوسائط التي عمقت التواصل مع المنتوج الإبداعي في ربوع القارات الخمس ولم يعد التأثير منحصرا في الهويات الضيقة بل تجاوز الأمر إلى ترسيخ مفهوم الهويات الأدبية المنفتحة. وإذا كانت النصوص الكبرى في الثقافة العربية ( ألف ليلة وليلة- المتنبي-أو أبوحيان التوحيدي- المعري- الجاحظ ) قد ألهمت وألهبت الخيال الغربي فأفاد منها ولا يزال يستفيد منها في إبداع نصوص خالدة، فلا ضير ، يرى المؤلف أن يسترفد الشعر العربي من منجزات الشعرية الغربية ونصوصها المؤسسة. فمن المقرر في النظرية النقدية الحديثة أن نص ألف ليلة وليلة قد لعب دورا أساسيا بعد ترجمة القبطان كالان في تشكل الحركة الرومانسية الغربية التي نظرت في اتجاه كسر الحواجز بين الأجناس الأدبية والدعوة إلى امتجازها والإفادة المتبادلة بينها، وقد كان من نتائج هذا التصور ظهور ما أطلق عليه بالفرنسية le poeme en prose وترجمه أدونيس خطأ بقصيدة النثر، والترجمة الدقيقة للمصطلح يؤكد المؤلف هي القصيدة بالنثر، واعتبر هذا الجنس الشعري الجديد لحظة تركيبية لأجناس أدبية مختلفة جعلت الشعر في مهب شعريات منفتحة. ويرى المؤلف أن المسألة الخلافية بين الشعريات السابقة وقصيدة النثر كانت تتمحور حول مشكلة الوزن والقافية أو الموسيقى الخارجية، ولتجاوز هذه القضية عمد شعراء هذه القصيدة ومنظروها إلى إثبات شعر خارج أطر الوزن والقافية وإلى نفي الشعرية عن نصوص موزونة مقفاة كما هو الحال بالنسبة إلى الشعر التعليمي، فالمشكلة التي أثيرت بهذا الصدد كانت تطابق بين النظم والشعر، والحالة هذه ينبغي الحديث عن الشعر واللاشعر في أي شكل تجلى وأي لبوس اتخذ. لقد عمد الباحث إلى تتبع ما كثب عن قصيدة النثر بدءا من الكتابات الأولى التي تأثرت مباشرة بخلاصات الكاتبة الكندية سوزان برنار في كتابها المؤسس " قصيدة النثر من بودلير إلى اليوم " و مرورا بالبيانات والمقالات التي كتبها شعراء ينتمون إلى قصيدة النثر كالأربعائيون والجراد وإضاءة 77، وإسراف والغارة الشعرية، ولبعض الدراسات الأكاديمية المنشورة في المجالات أو كتابات مستقلة، وتتبع الكتابات السجالية التي كتبت ضدا عن قصيدة النثر، وبعد فترة من التأمل في هذه الدراسات تبين له أن مناصري القصيدة أفرطوا في التعصب لهذا الشكل واعتبروه تجليا مطلقا للشعرية، أما المناهضون فقد أفرطوا في سلب الشعرية عن هذا الشكل كل ذلك في غياب الاحتكام إلى النصوص الممثلة لهذا الجنس والاكتفاء بإصدار أحكام مطلقة يغلب عليها النقاش النظري. و فد استقربه البحث على الدفاع عن أطروحة مفادها أن قصيدة النثر العربية ثورة جمالية وإمكان شعري من بين إمكانيات وليست بالتجلي الأخير للحداثة الشعرية. وذلك أن تأطير قصيدة النثر ضمن هذه الأطروحة سيعفي من هدر النقاش حول مسائل جانبية لا تفيد في تطوير أدوات البحث حول خصوصية هذه القصيدة ضمن تاريخ الشعرية العربية. إذا القصيدة لما ضمنت مشروعيتها عبر نصوصها القوية وعبر التطورات التي عرفتها في تاريخها القصير تحتاج اليوم إلى إنصات نقدي عميق يجدد في أدواته ويغير من نظرته إلى هذه القصيدة بعيدا عن إعادة إنتاج التصورات والمفاهيم التي درس به الشعر السابق عن قصيدة النثر. ولقد توسل المؤلف في تحقيق ما يصبو إليه منهجا استقرائيا تحليليا كاشفا أنه استفاد من بعض مفاهيم النقد ألموضوعاتي كما طبقها الناقد الفرنسي جون بيير ريشارد، مركزا على عنصر أساس اعتمده السميائي ميكائيل ريفاتير الذي يرى " أن ما يميز قصيدة النثر هو أن مولدها يحتوي بذور تناقض في الألفاظ ويتطور النص إما بحل هذا التناقض وإما بتكراره" مضيفا أن دلالة قصيدة النثر " تكمن كليا في التناص أي تتوقف على قدرة القارئ على أن يدرك التفاعل ألعلائقي والصراعي معا" وفي ثنايا البحث حاول المؤلف أن يعقد صلة بين قصيدة النثر في مهدها الأول وقصيدة النثر العربية وقد لاحظ من خلال هذه المقارنة أن هناك بعض العناصر المتشابهة والمشتركة بينهما ومن العناصر التي بدت له توافقا عجيبا، أن رائد قصيدة النثر الوسيوس برتراند ورائد القصيدة العربية الماغوط يتشابهان من حيث الظهور ومن حيث القصيدة الأولى فالوسيوس قدمه الناقد سانت بون للمجتمع الثقافي الباريسي والماغوط قدمه ادونيس للتجمع الشعري في بيروت، أول قصيدة كتبها الوسيوس بعنوان" ضوء القمر" وأول قصيدة كتبها الماغوط " حزن في ضوء القمر" فهذه الإحالة القمرية إيذان بتحول سيشمل وجه الشعر، إذ للقمر رمزية التحول والتغيير والخصوبة، ويحيل أيضا إلى القطع مع الإرث الرومانسي، ومن القوائم المشتركة أيضا أن هاذين الشاعرين قدما دوواينهم بمقدمات كان لها تأثير كبير في تحديد مفهوم قصيدة النثر. ويقع الكتاب في 300 صفحة من القطع الوسط يحتوي على مدخل وثلاثة أبواب و ستة فصول عدا المقدمة والملاحق . المدخل تناول فيه المؤلف الكتابات السابقة في الموضوع، حيث حاول عرض أفكارها ونقد ما ورد فيها، وصنف هذه الكتابات إلى كتابات نظرية وسجالية، والمازجة بين التنظير والتطبيق والكتابات التطبيقية. ففي الكتابات النظرية تناول كتاب " قصيدة النثر العربية الإطار النظري" لأحمد بزون وكتاب شيخوخة الخليل" لمحمد الصالحي فلاحظ أن كتاب الأول لم يقدم تصورا متماسكا حول قصيدة النثر وغاب فيه الاحتكام إلى النصوص إذ كان رهانه هو محاولة ترسيخ لبنة قصيدة النثر وجاءت فصول الكتاب متقطعة لا صلة تجمع بينها ولم يغادر الكتاب في جملته أراء سوزان برنار، أما كتاب شيخوخة الخليل فقد تمحور حول البحث عن شكل لقصيدة النثر مركزا على عنصر الإيقاع كما نظر لذلك هنري متسونيك لكنه هو الأخر ظل حبيس التصورات النظرية. أما الكتابات السجالية فقد تناول فيها كتاب " وهم الحداثة مقومات قصيدة النثر نموذجا" لمحمد علاء الدين عبد المولى لقد ضل صاحب الكتاب يدافع عن أطروحة ترتكز على أن الشعر يكمن في الرؤيا والإيقاع وليس في التفاصيل والشفوية معتقدا أن قصيدة النثر هي قصيدة التفاصيل علما أن التفاصيل هي وجه من وجوه هده القصيدة، فقد تم التعامل مع القصيدة بنظرة اختزالية. وقد قام الباحث بتقسيم الباب الأول إلى فصلين : الفصل الأول قصيدة النثر الفرنسية بين الريادة والتأسيس والفصل الثاني قصيدة النثر والمدارس التشكيلية. وقد كان الهدف من هذا الفصل هو الكشف عن المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بجنس قصيدة النثر، وعلى أهم المحطات التي عرفتها القصيدة في مهدها الأول. وكيف تطورت هذه القصيدة في رحاب المدارس التشكيلية كالتكعيبية والانطباعية ولم تقتصر على الاكتفاء بما أوردته سوزان برنار في كتابها الأساس ، بل حاول الاعتماد على مرجعيات حديثة كما قام بترجمة نصوص عديدة لتعزيز الأطروحة التي يدافع عنها. أما الباب الثاني فقد خصص لقصيدة النثر العربية إشكاليات المصطلح والسجال النقدي، حيث حاول مناقشة إشكالية المصطلح والتباساته وكيف تم التعامل مع هذا المصطلح الذي اقترحه ادونيس، وانتقادات نازك الملائكة لهذا الجنس الشعري الذي اعتبرته بدعة شعرية محاولة بذلك نقد تجربة الماغوط الذي اجمع النقاد على ريادته لهذه القصيدة إذ لم تطرح قضية النثر العربية إلا بدءا من ظهور الماغوط في بيروت. أما الباب الثالث والذي اعتبره شخصيا أهم فصول الكتاب وأشملها فقد خصص للتطبيق على متن شعري متنوع انتقاه لتحقيق ما حاول الدفاع عنه، وهو نوع التطور الذي لحق قصيدة النثر منذ تأسيسها إلى اللحظة الراهنة، وبما أن هذا البحث لا يشكل سوى لبنة في بنيان هو بصدد التشييد كان من الطبيعي أن يكتفي بمجموعة من النماذج حاول من خلالها أن يوفق بين بعض التجارب المؤسسة في المشرق وبعض التجارب المغربية التي لم تنل حضها من الدراسة إذ اكتفت الدراسات التي سبقته بدراسة النص المشرقي سواء بالدراسات التي قام بها المشارقة والمغاربة، وقد بدا له أن تمثيلية النص المغربي مطلب ضروري خصوصا وان التجربة المغربية لاقت قبولا واستحسانا لدى مؤسسات النشر المشرقية في بيروت ومصر وسوريا فالانطولوجيا التي أنجزها مؤخرا الشاعر السوري المقيم في اليابان محمد عظيمة كان للتجربة المغربية فيها حصة الأسد، لقد اختار المؤلف الماغوط باعتباره الرائد الحقيقي لهذه القصيدة والتي كتبها بروح عربية ولو أن تمجمع شعر لما قرأ قصائده الأولى اعتقد أنها لبودلير أو رامبو رغم أن الماغوط لم يكن له اتصال بهذه التجارب في لغتها. ومع قدوم الماغوط للتجمع الشعري ستطرح قضية قصيدة النثر للمرة الأولى، أما الشاعر العراقي سركون بولص فهو الذي فتح هذه القصيدة على شعريات عالمية واسهم في ترجمة نصوص قوية أسندت تجربة قصيدة النثر، فقد أعاد ترجمة كتاب النبي لجبران عن الانجليزية وترجم القصيدة الشهيرة " عواء" لألان غيسنبورغ. أما سيف الرحبي فقد اختاره لأنه حقق له مطلب الاهتمام بالمكان إذ اتهمت قصيدة النثر من قبل نقاد مثل كمال ابوديب أنها تكتب خارج المكان ولا وجود لها إلا في ذهن صاحبها واعتمد سيف الرحى لبدحض هذا الأمر إذ مثل المكان – الصحراء تحديدا- حضورا كبيرا في تجربته الشعرية ولم يعد ديكورا أو عنصرا من عناصر النص الأدبي وإنما الأرضية المركزية التي تتحرك في شتاتها الكائنات والمخلوقات بحيواتها المختلفة، أما نصوص حسن نجمي خصوصا "حياة صغيرة" و "المستحمات" و"على انفراد" فقد شكلا انعطافة في تجربته وتداخلت فيها عناصر عديدة شكلت عوالمه إذ امتزج لديه التشكيلي بقصيدة التفاصيل بكتابة البورتريه. أما طه عدنان فقد اختار ديوانه " ولي فيها عناكب أخرى" والذي تحول إلى " اكره الحب" لأنه زج بقصيدة النثر في تشريح التقنية و راح يؤصل هذه القصيدة في استثمار الموروث الشعري القديم خصوصا الأدب الشطاري.أما ياسين عدنان فقد اختار مجموعته رصيف القيامة للروح التنبؤية التي حملتها قصيدة رصيف القيامة حيث راح يتأمل في القيامة الأرضية ويحاول الإمساك بما يجري من أحداث زلزلت العالم بدءا من الحادي عشر من سبتمبر وتبعات هذه الزلزالة. ويختتم المؤلف كتابه القيم بالتأكيد على أن النصوص التي اشتغل عليها استخلص منها مجموعة من الخصائص مهيمنة في قصيدة النثر: هيمنة الصورة الشعرية وتكثيف الدلالة، الاعتماد على لغة المفارقة اعتماد الضربة القاضية في نهاية القصيدة لخلق نوع من الانطباع الحاد غير المتوقع، تغريب الحياة اليومية والأشياء العادية، اكتشاف العادي والاهتمام بالتفاصيل اليومية، أنسنة الأشياء الجامدة بغية خلق إحساس بالألفة المفتقدة في الحياة اليومية، الحياد اللغوي والعاطفي، تقنية التكرار بغية إحداث إيقاع منضبط إضفاء الشعرية على المبتذل والهامشي اعتماد السخرية، توسيع المرجعية وتذويب التناص التركيز على المشهدية واستثمار الصور البصرية استخدام تقنيات الوصف والسرد ووجهة النظر بديل عن الرؤيا ورؤية العالم كتابة التجارب الحميمية والرغبات الحسية أو شعرية التعري. بقي ان أشير في الختام ، أن هذا المقال لا يغني بأي حال من الأحوال عن قراءة هذا الكتاب، فغايتي من كتابة هذه السطور أن تكون دافعة للقارئ إلى الظفر به بمجرد صدوره، فالكتاب درة بالفعل.