أحدثت قصيدة النثر العربية منذ ظهورها مع جماعة مجلة «شعر» سنة 1957 ترجمة وتبنيا لأطروحة الكاتبة والناقدة الفرنسية سوزان برنار، خلخلة لمفهوم الشعر العربي في صيغته الجديدة، رغم أنني أعترف بأن هذا الشكل الجديد للقول الشعري مازال في حاجة ماسة لمزيد من الشرعية حتى يتسنى له الدخول إلى بيت الطاعة (عائلة الشعر) والانتساب إلى شجرة الشعر بشقيه العمودي والتفعيلي. ولست هنا أدافع عن شرعية «قصيدة النثر» من باب أنني أنتمي إلى جيل مفتون ومقتنع تماما بفتوحات هذه القصيدة، لكن في الواقع فقصيدة النثر جاءت لتنصف الكثير من الشعراء من صرامة الأوزان والإيقاع الخليلي، رغم أنني لا أحبذ مصطلح «قصيدة النثر»، بل مصطلح «التجربة الشعرية الجديدة»، انطلاقا من التحولات التي طرأت على جسم القصيدة العربية شكلا ومضمونا ورؤى... ولن نناقش مسألة المفهوم وضبط المصطلح لأن ذلك شائك وملتبس، فحتى كتاب هذا الجنس الشعري الجديد يتطاحنون فيما بينهم نظرا لحالة الاستسهال الذي طبعه، نقدا وكتابة وتنظيرا، بل سنركز ورقتنا على المستوى الإيقاعي، حيث نجحت قصيدة النثر في خلق توازن إيقاعي بعيدا عن الأوزان الخليلية، لأن في رأيي أن الإيقاع أعمق وأعم من الوزن، وأن هذا الأخير جزء من الإيقاع، وأن الكثير من المناهضين لهذا الشكل الشعري يتحججون بالوزن الخليلي كأنه المقياس الوحيد والشرعي للقصيدة العربية، فكم من قصيدة شعرية موزونة، مقفاة، هي في قمة السخف والعبث، وكم من قصيدة نثر بلا وزن غير ذلك الذي تخلقه إيقاعيا من حيث الحروف والاهتزازات النفسية والنبرية والموسيقى الداخلية، كانت قمة التخيل والعمق... إننا هنا لا ندعي الانتصار كليا لقصيدة النثر، بل نحاول إزالة العتمة من عيون الذين يصفون قصيدة النثر بأقبح النعوت. وهكذا فالتشكيل الإيقاعي هو الذي يخدم جمالية القصيدة، وكم مرة قلنا إن قصيدة النثر هي من أصعب الأجناس الشعرية على الإطلاق، وأن الحرية الممنوحة هي حرية مشروطة، ومقيدة، فهي تحتاج إلى خبرة ودربة، وثقافة واسعة وانفتاح على التراث العربي القديم، لا التنصل منه والتمرد عليه، بالعكس ف«كل شاعر حديث يسكنه شاعر قديم»، فالحداثة هي المغايرة والاختلاف، وكيف نطوع هذا التراث الزاخر في قالب شعري حداثي خدمة للنص وفصاءاته المتعددة؟.