ما كان جَرَى، في سياق «حداثة القصيدة»، كما أُسَمِّيها، وهي ما كان سُمِّيَ في بداية الخمسينيات، سَيْراً على ترجمة التَّعْبِيرَيْن الإنجليزي والفرنسي، غير الدقيقين، ب«الشِّعر الحر»، لم يكن «ثورةً» بالمعنى الكُلِّيّ الشُّمُولي، الذي يمسّ جوهر «القصيدة»، في خلفياتها النظرية، وفي مفهومها، وما ترتَّب عنه من صِيَغ شكلية، في بناء القصيدة، وفي تَثْبِيتِ، وترسيخ «عموديتها»، وما ينبغي أن تكون عليه، في إيقاعاتها، أو أوزانها بالأحرى، التي كان الخليل استنبطها من النماذج التي اعتمد عليها في عمله هذا، وهي نماذج محدودة، وهي النماذج التي أثبتها ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد». ظلَّت القصيدة حاضرةً، بنوع من «المُساوَمَة»، وبقيت المفاهيم حاضرة، ليس في ما ظَهَرَ من تَسْمِيَاتٍ، بل في بناء القصيدة، وفي الأساس الرُّؤْيَوِيّ الذي قامتْ عليه. فالسياب، مثلاً، ظلَّ، رغم ما كَتَبَهُ من نصوص «حُرَّة»، يزاوج بين هذا «الحُرّ» وبين الشكل العمودي، الشَّفَاهِيّ، باستثناء بعض النماذج، التي كانتْ في وقتها نوعاً من الانقلاب على هذه المساومة، أو الانحراف عنها، خصوصاً في قصيدته «أنشودة المطر». لم يكن هذا يسري على السياب، وحدَه، بل كان نوعاً من التَّمَثُّل الجماعي، عند شُعراء هذه المرحلة، بما فيه ما كتبه أدونيس نفسه. لكن بالعودة لِتارِيخِيَّةِ هذه الشِّعرية المعاصرة، يمكن تَحَسُّس بوادر هذه الانقلابات، في سنوات الستينيات، وجزء من السبعينيات، في عدد من التجارب، التي لم تَكُنْ خَرَجَتْ كُلِّيَةً من «القصيدة»، ومن المفاهيم التي هي تعبير نَظَرِيٌّ عنها، وعن الأُسُس التي بُنِيَت عليها في التراث الشِّعْريّ العربي القديم. لم يكن هناك نص مُفارِق، شامل وكُلِّي، وكأنَّ شُعَراء هذه الفترة، كانوا يكتبون، أو يعملون على اختراق بعض بنيات «القصيدة»، وتاريخيتها، بنوع من الحَذَر والتَّرَقُّبِ. من هنا سيكون لأدونيس دور مهم، وأساسي، في ما سيحدث من انقلاب على الشِّعرية العربية التاريخية، وعلى «القصيدة»، التي ظل يراوحُها، إلى حدود ديوانه الحاسم، «وقت بين الرماد والورد»، في نصوصه الفارقة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» و«هذا هو اسمي» و«قبر من أجل نيويورك»، وأنا، هنا، أتحدث عن مرحلة ما بعد الستينيات. في هذه المرحلة بالذات، شرع النص الشِّعري في اختراق المُساوَمَات النَّصِّيَة مع «القصيدة»، في بنائِها، وفي أشكال توزيعها على الصفحة، وما سيحدث من انفتاح، أوسع، على باقي الأجناس الكتابية الأخرى، مما سَيُسَوِّغ، أو يَشِي بالانتقال إلى مفهوم «الكتابة»، رغم أن أدونيس، وحتى في «الكتاب، أمس المكان الآن» لم يخرج من هيمنة الوعي الشفاهي، أو أوَّلِيَتِه، في تجربته الشعرية، وهو ما يعود، بالأساس، إلى طبيعة التكوين الشِّعري لأدونيس، الذي شكلَّت «القصيدة» أساسَه الشِّعريّ والمعرفي، أو المرجعية الفنية واللغوية، التي عَرَفَ كيف يستثمرها في سياق تجربته الخاصة . لا يمكن النظر في الشِّعر العربي المعاصر دون العودة إلى هذا الديوان، الذي كان الاختراق الفاصل، الذي نقل الشِّعرية العربية المعاصرة، من تاريخيتها، وهيمنة «القصيدة»، وما ترتَّب عنها من مفاهيم، واختبار جرأته، في ضوء ما كان سائداً من نصوص، وكتابات، لم تكن تملك جرأة «وقت بين لرماد والورد». هذه المرحلة، في المسار الشِّعري لأدونيس، سيكون فيها لتأثير الشِّعر الفرنسي دور كبير. فهو، إضافةً للمعرفة بالنص الشعري القديم، واشتغالاته النظرية، خصوصاً، في أطروحته «الثابت والمتحول»، وفي ما سيقوم به من اختيارات شعرية، في «ديوان الشعر العربي»، سَيَسْتَثْمِر، هذا الانشراح الشِّعري الذي كانت تُتِيحُه هذه التجربة الشِّعرية غير العربية، بما فيها من رغبة في التغيير، وفي تجريب العلاقة بين الشِّعر، وغيره من الأجناس الكتابية الأخرى. فهذا سيفتح أمام أدونيس أفقاً اغْتَنَى فيه النَّصِّيّ بِالنَّظَرِيّ، كما سيغتني فيه الشِّعْريّ بالفِكْرِيّ، لأن كتاب «الثابت والمتحول» لم يكن كتاباً في قراءة الشِّعر العربي، كما يتوهم الكثيرون، بل كان قراءة في الثقافة العربية، وفي البنيات المُسْتَحْكِمَة في هذه الثقافة، في الشِّعر، كما في النظر الديني، بتفريعاته الفقهية، وفي التراث الصوفي، باعتباره اختراقاً للسائد، وأُفُقَ نَظرٍ، لم يكن وارداً في سياق الخُطاطة النظرية السَّائِدَة. ما سيُعَزِّز التجربة الشعرية لأدونيس، لتكون ضمن أهم التجارب، في الشِّعرية العربية المعاصرة، هو هذا العمل في أكثر من أرض، والسباحة في أكثر من ماء، بما يُفيد أن الشِّعر لم يعد كتابة باللغة وحدها، بل بِلُغَاتٍ، وبالانفتاح على حقول المعرفة المختلفة. فالشِّعر، بهذا المعنى، صار تجربةً، ذات رؤوس وأضلاع كثيرة، أو صار بالأحرى، نوعاً من المعرفة البِلَّوْرِيَة التي لا يمكن استشراف عمقها، بالاكتفاء بوجه واحد للِزُّمُرُّدَةِ، الذي ليس هو وجهها الواحد، والوحيد. في هذه النصوص الشِّعرية، التي شَكَّلَتْ مَتْنَ الديوان، ستشرع تجربة أدونيس في الخروج من مرحلة المُراوحَة، إلى مرحلة التجريب الشامل، الذي ستنقلب معه بعض المفهومات، أو تشرع في الخروج من تاريخيتها، لتسير وفق وتيرة النص، أو ما يقترحه النص من تحوُّلات. عندما أعود إلى ما قبل هذا الديوان، لا أجد ما يُفيد الرَّجَّةَ، التي كنتُ أقرأ عنها في بعض الكتابات النقدية، التي، هي اليوم، في حاجة للمراجعة، وهو ما يسري على تجربة السياب نفسها، وتجارب هذه المرحلة، فالنص يقول غير ما قاله النقد، الذي كان قليلَ الزَّاد، وما يزال، خصوصاً عند بعض النقاد الذين ما زالوا لم يخرجوا من نقد المعيار، ويعيش نوعاً من الحنين ل«القصيدة»، أو ل«حداثة القصيدة»، كما كتبها السياب، وكتبها أدونيس نفسه، في ما قبل «وقت بين الرماد والورد»، رغم ذهابه للبناء المسرحي، آنذاك، للخروج، ربما، من الشكل المغلق ل«القصيدة»، الذي لم يكن يسعف طبيعة الرؤيا التي شرَعَ الشَّاعِر في اكْتِناهِها. ورغم أنَّ هذا الديوان، في ظَنِّي، هو ما يمكنه أن يُمَثِّلَ هذا «التَّخَطِّي»، الذي رَغِبَ فيه أدونيس، فهو، خصوصاً في نص «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف»، بقي مشدوداً للوعي الشَّفاهي، أو الجمالية الشَّفاهية الإنشادية ل«القصيدة»، بما تحتمله من قوافٍ، وتكرار، إما لفظي، أو مقطعي، أو في مستوى التقابلات، أو الموازنات الصوتية. وهذا يعني أنَّ الشَّفاهية الإنشادية هي جزء من تجربة أدونيس، وهي مركز قوة في تجربته، وهو ما يعني، أيضاً، أنَّ مفهوم الكتابة، عند أدونيس، كما بينتُ ذلك في كتاب «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر»، بَقِيَ أسيرَ «القصيدة»، حتى وهو يتخطَّاها نظرياً ونَصِّياً. كان هنري ميشونيك أشار إلى أهمية هذا العُنصر في الشِّعرية المُعاصِرة، شريطة ألاَّ يكون العُنْصُرَ المُهَيْمِن. هذا ما سيتَحقَّق أكثر في النَّصَّيْنِ اللاحِقَيْن على «ملوك الطوائف»، وهما نَصَّان بَدَا فيهما الوعي الكتابي أكثر حضوراً، وشرعا، معاً، في التَّخَفُّف من هيمنة الوعي الشَّفاهي، بشكل ملحوظ. النصوص، اللاَّحِقَة، ستسير في هذا المنحى، رغم أنَّ الشفاهية الإنشادية ستبقى حاضرةً، باعتبارها توقيعاً شِعرياً في تجربة أدونيس، وهو ما يُساعد كثيراً على قبولها «جماهيرياً»، رغم صعوبتها، ولا أقول غموضها، لما تَحْفَل به من ثقل جمالي ومعرفي، يحتاجان قارئاً مُتأمِّلاً، عارفاً بتجربة الشاعر، وبما حدث في تجربته هذه، من تحوُّلاتٍ. ما تزال المدرسة، والإعلام، يفرضان نوعاً من الشِّعر، ونوعاً من النقد، أو المقاربات النقدية، التي كَرَّست تاريخاً غير صحيح للشعرية المعاصرة، وفرضت نُصوصاً، مَنْ يراجعها، في معرفةٍ بقديم الشِّعر العربي، سيجدها لا تخرج عن «القصيدة»، وعن «عمود الشِّعر العربي»، وهذا ما سيُضاعِفُ هذا النُّزُوعَ نحو الحُكْم على قيمة الحديث، بمعايير القديم، واعتبار «الأول» أكثر شعرية من «الأخير». في هذه المعادلة، بالذات، يحدث الاختلال، وتبقى الثقافة العربية، أسيرة «الثابت»، ليس لأن الثابت قابل للحياة في هذه الثقافة، أو هو ما تقبله هذه الثقافة، دون غيره، بل لكونه مفروضاً في التكوين، وفي الأساس الذي تقوم عليه المعرفة عندنا. في الشِّعر العربي اليوم تَجَارِب مهمة، وهي تجارب تجاوزتْ شِعْرياً تجارب «الرواد»، واخْتَلَقَتْ لنفسها سياقات جمالية، انزاحتْ فيها عن الشفاهية الإنشادية، كما وضعت اللغة في سياق هذه الجمالية، في نوع من التركيب الذي يُوحِي بنثرية النص، في ما هو يَسْتَمِدُّ شعريته، بالمعنى الواسع، من استثمار اللغة، دون فرقٍ بين ما يجوز في الشِّعر، وما لا يجوز فيه، إلى درجة أن بعض هذه النصوص الكِتابِيَة، لم تعد تعيش على معنى «قصيدة النثر»، أو الصياغات التعبيرية، التي أصبحت تكراراً، واستعادةً، ونوعاً من المُراوَحَة في نفس المكان، في هذه «القصيدة» نفسها. فالكتابة الشِّعرية هي تَخَطٍّ كبير، في الشِّعرية المعاصرة، لكنها ستحتاج إلى وقتٍ لإدراك عُمْقِها، وأيضاً إلى قارئ، ما تزال المؤسسات التعليمية، وما يزال الإعلام، ونصوص «الرواد»، تَحْجُب عنهم غابة هذا الشِّعر الكثيفة، التي هي شَجَرٌ، فيه من التَّنَوُّع والتَّلَوُّن، وفيه من الأصوات والظِّلال، ما لا يمكن تَخَيُّلُه.