كان الحفل بمثابة أمسية ثقافية بامتياز، ناقش فيها الحاضرون من المثقفين والنقاد والإعلاميين وأصدقاء الشاعرة، الإبداع المغربي وتناولوا بالتحليل الجوانب الشعرية والسردية في إصدار ليلى بارع وهي تقدم "أرض الفراشات السوداء" كثان عمل شعري لها بعد "كل هذا الكلام". قدم هذه الأمسية الإعلامي توفيق نديري، الذي تحدث عن تجربته الإعلامية إلى جانب زميلته في المهنة، مشيرا إلى ما تملكه هذه الكاتبة من حس إبداعي كان ينعكس حتى في كتاباتها الصحفية. وفي مداخلته، قال الناقد محمد محقق إن "أرض الفراشات السوداء" يمثل جملة اختيارات حية من الأشكال والاتجاهات والمستويات، كما أن قصائد الديوان تدفع إلى التأمل والتفكير من خلال القراءة التفصيلية المتأنية والعميقة للأبيات الشعرية ذات الطابع المتنوع من التيمات، التي سعت من خلالها الشاعرة لاهثة وراء المدهش والمجهول لإبراز ما هو انفعالي منفلت وما هو واقعي وصفي، وما هو تعبيري جواني، ويكشف تجربة تفاعل مؤثر مع حركة الحياة والواقع. كما يشير الناقد إلى أن أول ملمح يتمظهر في الديوان، هو أن الشاعرة "فتحت فيه كل أبواب التأمل والانصات لوجدانها المرهف وهي تهتز لتجارب الحياة والوجود ما جعل من القصائد سجلا ينطق بلوحات شعرية تعبر عن صورة بديعة تمتزج بالإنسان وقضيته، وتحس لدى قراءته بذلك العمق الصوفي، الذي يسري في ثناياها..." واعتبر محقق قصائد الديوان عمل متفرد وشهادة شعرية بالغة النفاذ والعمق يمتزج فيها الواقعي والمحتمل، ويكتشف فيها المتلقي أنها تغازل الكلمة بالطبيعة، من خلال التقاط التفاصيل الصغيرة بصور شعرية لتعكس حالة نفسية تحيط بها. وتحدثت الناقدة بشرى قانت في ورقتها عن التجلي السردي في ديوان " أرض الفراشات السوداء " الذي اعتبرته إبداع مزدوج يجمع بين الشعرية والحكي، حيث احتفظت في بعض نصوصه على ملامح القصصية ونبضات السرد، مع تعبيد طريق الشعر بأناة، وتجتاز مسالكه المتنوعة. وقالت إن حكي الشاعرة ليلى في أرض الفراشات السوداء يمتد ليلامس صورا شعرية، وبالتالي فهي تعبر عن هذه المعاني والصور في لوحة إبداعية تشكيلية، تجعلنا نعبر إلى عالم قصصي متشكل سردي "بدفقات شعورية وبحس شعري خاص". وقدمت الناقدة نص "ملحمة الريح" من الديوان كنموذج "تبني فيه الكاتبة أنساقا سردية على أنساق الشعر، فتجعل لنصها الشعري لَبوسا جديدا، تنمقه بلغتها الشعرية الحالمة بما تنطوي عليه من عمق دلالي ومن حَمولة فكرية تكشف عن موقف الذات من العالم ومن الآخر". وتخلص الناقدة إلى أن ليلى بارع تضع القارئ "أمام مشاهد إبداعية تلونها الكاتبة بنفحاتها الشعرية وومضاتها السردية، وهي بذلك مثل الفراشة التي تتنقل بين هذه المشاهد، فنتراوح بين الانخراط في لعبة القراءة الشعرية والمشاركةِ في ممارسة اللعبة السردية" في نوع من التعليب الإبداعي، ف "نفتح العلبة الشعرية، فنجد داخلها علبة السرد، نفتحها بدورها، فنكتشف علبة الشعر، وبذلك نجيد اللعبة الإبداعية كما تجيدها الكاتبة ليلى بارع". أما شهادة الكاتب عبد الغني صراض، فتميزت بتحليله للجوانب الدقيقة لهذا العمل الإبداعي، من شكل الكتابة وبياض الصفحات إلى رموز العناوين التي تختزن معاني كثيرة، مرورا بالخصوصية الجمالية للأسلوب الذي حيكت به النصوص. وتحدث الكاتب عن التخييل الشعري الذي مارسته ليلى في ديوانها، مكتفيا بتحليل نص "الريح الباردة" من الديوان، كرؤية سردية تحتوي على عدة أنماط تمثل البنية التركيبية للمتخيَل، الذي تمكنت فيه الشاعرة من أن تبني لها مكانا بحسب استعدادها النفسي ومزاجها المسيطر على حالتها النفسية. واستمر الحفل وسط جو من الموسيقى الروحانية أبدع فيها الموسيقي سعيد يوسف، وهو يقدم وصلات على آلة العود. ليلى بارع: أكتب انتصارا لإنسانيتي ولذاتي وتقديرا للحظة التي تمر بي هي شاعرة وكاتبة قصة قصيرة وإعلامية تهتم بالمجال الثقافي. لم تستطع التخلص من حبها للأدب والشعر حين اختارت الدراسات القانونية، فعادت بقوة للتفرغ لموهبتها، وما كان يفرض نفسه عليها أكثر من أي علم آخر، الأدب والشعر، فاختارت الإعلام كمجال يمكنها من تطوير ملكتها الفكرية، ويفتح لها المجال للكتابة. بقدر ما تستلهم ليلى بارع من الواقع ومن التفاصيل الصغيرة، التي تصادفها يوميا، في الزقاق، في الشارع، وهي تتأمل السماء أو تنظر إلى الأشجار... بقدر ما تكتب بحس مرهف رفيع، يسائل فيها إنسانيتها ونبل عاطفتها. في هذا الحوار، نتعرف على ليلى بارع المبدعة، الشاعرة، الإعلامية والإنسانة. حين تكتب ليلى، في من تفكر أولا؟ ولمن تكتب؟ لا أفكر لحظة الكتابة سوى بالكلمات التي تتسارع داخلي كي تكتب متى اندلعت شرارة الكتابة. بعدها تصبح الغرفة، التي أكتب فيها، مكتظة بالصور والشخوص والمواقف...أستدعيها جميعها لتكتب معي قصيدتي. أما لماذا أكتب، فأنا أفعل ذلك لأن الكتابة طريق شفاء داخلي، عن طريقه نقاوم ما يحيط بنا من بشاعة وخراب في هذا العالم، وأكتب انتصارا لإنسانيتي ولِذاتي وتقديرا للحظة التي تمر بي. أكتب لعدة أسباب، بعضها واضح يمكنني أن أعيه وأفسره، لكن بعضها غامض لا يمكنني تفسيره. الكتابة جزء من عالمي ولم أعد أسأل نفسي لماذا ما دمت تمنحني فرصة السفر بداخلي، والكتابة عن كينونتي، شعرا كان أم سردا. أكتب عني وعن الآخرين، وعن طريق الآخر أكتشف نفسي... تكتبين الشعر في صيغته الحديثة، أي ما يطلق عليه قصيدة النثر. شعر سريع الإيقاع. هل يعني ذلك ثورة على الشعر التقليدي؟ أم فقط استجابة لإيقاع الحياة المعاصرة؟ إن معركة القصيدة بشكلها الحديث في العالم العربي خاضها وكسبها الرواد منذ الخمسينيات، وكان للإعلام الثقافي، متمثلا في مجلتي الآداب البيروتية ومجلة شعر، دور كبير في ترسيخها، تأكيدا لتيار تحرري حداثي وتقدمي كان يهب على العالم العربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، القصد منه فسح المجال أمام قصيدة أكثر قربا من الإنسان الحديث في سعيه لاكتشاف ذاته وكينونته في عالم متغير وسريع وقاس.. ونحن اليوم نواصل الكتابة، بجدية أطفال يلعبون، كما يقول بورخيس، لكن دون أن تتوقف أمانينا على أن نكون مجرد صدى لمن سبقنا من الشعراء، بل نأمل في أن نشكل إضافة لهذه القصيدة التي تختلف حسب التجربة الذاتية لكل شاعر. تكتبين أيضا القصة، متى نرى لك إصدارا قصصيا؟ قريبا سيصدر لي، عن دار التوحيدي، مجموعة قصصية بعنوان "اليد الخضراء"، لكن في انتظار ذلك أعمل على نشر قصصي بشكل دوري حتى تصل أعمالي للقراء، حيث يمكن العثور عليها منشورة في عدد من المواقع الإلكترونية الأدبية، وكذا الملاحق والمجلات المغربية والعربية. أين تجد ليلى نفسها أكثر في الشعر أم القصة؟ لا أستطيع المفاضلة بين القصة والشعر، لكل منهما سياقه الخاص به، وهناك مواقف لا يمكنني سوى كتابتها شعرا، في حين أن هناك مواقف أخرى تعبر عن نفسها بالقصة، ولم يحدث أبدا أن قلت هذه الفكرة سأكتبها على شكل قصة وتلك سأكتبها على شكل نص شعري. تختار الفكرة جنسها وأنا أتبعها، وأجد في النهاية أن الأشياء تريحني بهذا الشكل، وتكمل بعضها البعض. ليلى أيضا صحافية متميزة. من الأسبق الصحافية؟ أم المبدعة الشاعرة والكاتبة؟ أعتقد أنني رغبت دوما في أن أصبح كاتبة. اعتقدت، وأنا في بداية تشكل الوعي، أن الكتابة مهنة، وأنني من الممكن أن أصبح كاتبة، وتكون هذه هي مهنتي المستقبلية، لكنني حين اكتشفت أن الكتابة بالمغرب لا يمكنها أن تكون مهنة، اعتبرت أن الصحافة خيار جيد لشابة كانت تريد أن تكون كاتبة، ثم نسيت هذه الأحلام بعد حصولي على الباكلوريا، وتوجهت نحو كلية الحقوق. كان الكل ينتظر أن أصبح محامية أو قاضية، لكنني عدت للبحث عن أحلامي، ودرست الصحافة واشتغلت صحافية، ثم أصدرت ديواني الأول ثم أتبعته بديوان ثان، ومجموعة قصصية، ولدي ديوانان آخران، وأتمنى أن أواصل اكتشاف ذاتي عن طريق الكتابة. هل تذكرين أول ما خطه قلمك في الشعر؟ وفي أي سن تفتقت موهبتك؟ كنت أتمنى لو احتفظت بكتاباتي الأولى، التي كانت عبارة عن نصوص شعرية، كانت ككل كتابات فترة المراهقة، رومانسية وبسيطة وبريئة. لكنني لم أجد أي اهتمام يذكر بها، وعوضت الأمر بالتفوق في مادة التعبير، أي الإنشاء، كنت أحظى بعلامات جيدة، وكان الأمر يشكل تعويضا عادلا عن عدم الاهتمام بمحاولاتي الشعرية الأولى داخل المنزل. بعض النقاد يرون في إصدارك الثاني "أرض الفراشات السوداء" سردا بلغة الشعر، هل هو كذلك؟ صدرت عدة دراسات نقدية حول هذا العمل، ولكل واحدة منها زاوية نظر خاصة بها، وكان من بينها دراسة حول النفس السردي في الديوان، وهذه مسألة طبيعية، فحضور السرد في قصيدة النثر كان موضوع دراسات نقدية عديدة، ولن تكون هذه المرة الأولى ولا الأخيرة. ففي نصوص هذا الديوان بالذات حضور للنفس القصصي، الذي أستخدمه عن سبق إصرار وترصد في بناء القصيدة وتصاعد أحداثها، واستعارة قصيدة النثر لآليات السرد ليست بالجديد. يقول الشاعر أنسي الحاج، "إن قصيدة النثر قد تلجأ إلى أدوات النثر من سرد واستطراد ووصف لكن، كما تقول سوزان برنار، " شرط أن ترفع منها وتجعلها "تعمل" في مجموع ولغايات شعرية ليس إلا"... وعلى العموم فقصيدة النثر هي قصيدة حرة غير خاضعة للقيود، لأنها جاءت كرد فعل عليها. عشر سنوات بين ديوانك الأول 'كل هذا الكلام' وبين الثاني 'أرض الفراشات السوداء'. هل تغير شيء في وجدان وأسلوب ليلى الشاعرة؟ نضجت رؤيتي كإنسانة وكشاعرة، لكن الأمر لا يتعلق بقطيعة، إن الشعراء، في أغلبهم، يولدون على دفعات، فنادرا ما نصادف شاعرا ولد عبر ديوان واحد، "كرامبو" مثلا. فكل ديوان إذن يجعلك تولد من جديد، وتكتشف نفسك بشكل آخر، وتجدد موقفك من ذاتك ومن الإنسان من حولك. من الجميل أن نقوم بهذه الرحلة، صحيح أنها مؤلمة لكنها ضرورية.... كيف تنظرين إلى إبداعات المرأة على الخصوص؟ أنظر إلى كل إبداع على أنه إنساني، لا أميز بين النصوص حسب الجنس، المتعة والعمق هما ما يحكمان قراءتي للنصوص الأدبية. من يكتب أدبا جيدا سيفعل ذلك سواء كان رجلا أو امرأة، والسيئون موجودون في كلا الجانبين، لذلك استقبل ما تكتب المرأة بأفق مفتوح، وأتابع ما تكتبه الشاعرات المغربيات عن كثب، سواء بحكم اهتمامي بالشعر أو بصفتي المهنية.