(علبة الخسائر)، هي المجموعة الشعرية الأولى للشاعر محمد عابد. وقد صدرت عن وزارة الثقافة ضمن السلسلة الابداعية الرائدة (الكتاب الأول)، العدد 25 سنة 2004. والمجموعة تتكون من 72 صفحة من القطع المتوسط، بلوحة غلاف رمادية مؤطرة باطار أخضر جميل تنداح على جانبيه دوائر أربع صغيرة كقطرات الماء... وللماء في المجموعة، كما سنرى، حضور حفي وندي يبلل سطورها وصورها.. ويهدي الشاعر مجموعته الأولى (إلى أبي، أستاذي الأول. إلى أمي زوجتي إلى لينا وزياد فرحي الدائم...). إنه إهداء عائلتي حميم وجميل، جمع فيه الشاعر بين أعز الأحباب والأقارب أولى دائما بكل تكرمة وتحية، سيما في هذا الزمن الكنود الذي تقطعت فيه أواصر الرحم، واستشرى فيه العقوق والجحود. يطلع علينا الشاعر محمد عابد من نهر لوكوس العظيم ومن ضفاف وسهوب مدينة العرائش الجميلة الأصيلة، الوريفة الظلال المنداة بالماء الزلال.. لهذا ليس بدعا، مرة أخرى أن يسري الماء في أوصال هذه المجموعة ويرطب شدوها وبوحها والابداع دوما سليل مكانة وزمانه. كما ليس بدعا أيضا أن يجيئنا الشعر والابداع من مدينة العرائش. فاسمها العربي الجميل والظليل، كاف للدلالة على ذلك. و(علبة الخسائر)، عنوان لا يخلو من مفارقة ومفاجأة واثارة. إذ ما خطب وما خبر هذه الخسائر التي حرص الشاعر على جمعها وضمنها في علبته؟! وقبل هذا، كيف ارتضى الشاعر أن يسم ويمهر مجموعته الشعرية الأولى ب »»علبة الخسائر»«، في حين جرت العادة أن تكون الفواتح والاطلالات الأولى »»علبا للبشائر»« لا للخسائر، فالخسائر تحصى في نهاية الشوط لا في مستهله؟! إن الشاعر محمد عابد، أراد عن قصد وسبق وإصرار وترصد أن يعكس الآية ويخالف الأعراف والعوائد التي تواضع عليها الشعراء السائرون على صراط الشعر المستقيم. إن الشاعر أراد أن يخلخل موازين وطقوس الأشياء والابداع، ويشغب عليها بطريقته الخاصة وبأسلوبه الخاص. أراد أن يلعب ويراهن على ماهو مفارق ومفاجئ ومثير، بدل الاستكانة والركون لما هو مألوف ومشاع ولاحب. أراد أن ينزل بالشعر من عليائه، ليسعى بسيطا وعاديا وعاريا بين تفاصيل الحياة اليومية وأناسها ومباذلها ومهازلها. أراد للشعر أن يكون صدى لليومي لا للذاتي. أراده هزؤا وسخرية بالحياة، لا غناء واحتفاء بالحياة. وتلك هي الاستراتيجية الشعرية الجملية والجريئة التي انتهجها الشاعر في هذه المجموعة الأولى. تلك هي خطته المميزة تلك هي سمته الشعرية كتب الشاعر جل نصوص المجموعة في مدينة العرائش.. وقليل جدا منها كتبه في مكناس وسرقسطة.. وبتصفحنا للتواريخ التي ذيلت بها بعض النصوص، نجد أن تاريخ كتابتها يتراوح بين 1989 و2002 ... معنى هذا، أن الشاعر شرع في الابحار الشعري ترجيحا، منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي.. معنى هذا ثانيا، أنه شاعر ثمانيني حسب التحقيب العشري الذي درجنا عليه، في كتاباتنا وأحاديثنا. معنى هذا ثالثا، أن الشاعر محمد عابد، ينتمي إلى الجيل الجديد من الشعراء، شعراء الموجة الثالثة من الحداثة الشعرية المغربية، شعراء «»الحساسية الشعرية الجديدة««، المغايرة والمفارقة لما سبقها من حساسيات شعرية، سواء على مستوى اللغة الشعرية أو على مستوى الهاجس الشعري. وينبغي أن نسجل هذا، أن شعراء الحساسية الشعرية الجديدة، فتحوا أحداقهم على الحياة والشعر، بعد سلسلة من الهزائم والاحباطات والانكسارات التي طالت الاجيال السابقة منذ هزيمة 1967، سواء داخل المغرب أو على امتداد الوطن العربي، هذه الهزائم والاحباطات والانكسارات التي طعنت الوجدان العربي في الصميم، شكلت بالفعل، خسائر فادحة وباهظة مازالت آثارها الوبيلة تتفاعل وتتناسل. لهذا ليس بدعا أن يعنون محمد عابد، مجموعته الشعرية الأولى ب (علبة الخسائر). فهي خسائرنا جميعا، نتجرع علقمها وصابها، وتتحمل فيها الأجيال السابقة المسؤولية الكبرى من باب، «»الآباء يغرسون والأبناء يضرسون««. لأجل هذه الخسائر وبمقتضاها، تبدلت الحساسية الشعرية، وتبدلت اللغة الشعرية، وتبدلت الرؤية الشعرية. تبدلت، بعبارة، القصيدة الشعرية المغربية. فبعد أن كانت هذه القصيدة في الستينيات والسبعينيات منخرطة في الهموم الاجتماعية والسياسية الكبيرة، جاهرة بشعارات وأشواق التغيير والتثوير، جنحت القصيدة المغربية في الثمانينيات والتسعينيات نحو الهموم الذاتية الصغيرة، ونحو تفاصيل ومفردات الحياة اليومية العادية والرتيبة. وأضحى ترجيعها الشعري بوحا شجيا حريفا وشفيفا وتلقائيا. وبدلا من تلك المواجهة »الثائرة« مع الواقع، جنحت إلى المواجهة »الساخرة« من هذا الواقع، والتحرض الشعري باحباطاته وانكساراته. هذا ما نلمسه بشكل جلي في (علبة الخسائر) لمحمد عابد، كإحدى العلامات النموذجية للحساسية الشعرية الجديدة، وإحدى القرائن الدالة على التحول البنيوي والرؤيوي الذي اعترى القصيدة المغربية، بين عشية وضحاها. ذلك هو العصب الشعوري والشعري في المجموعة.. إنها فعلا، علبة للخسائر وانهيار الأحلام والمصائر. لكنها »»علبة شعر»« بامتياز، تقطر وتكثف في الهموم الصغيرة اليومية والعادية، كل أوزار الهموم الكبيرة. فتعالوا، إذن، نفتح هذه العلبة لنقلب بعض محتوياتها. وأول ما نفتح هذه العلبة، نفتحتها على نص (سفر العودة) المهدي إلى الشاعر الراحل، ابن الديار الشمالية، محمد الخمار الكنوني. وأول ما نفتح هذا النص، نفتحه على تحية واحتفاء بالشعر، هذا الكائن الرمزي الجميل، الذي تبقى لنا من هذا العالم الصفيق الردئ. [صباح الشعر الأبدي، صباح العري الطاهر، يتلو عودته ونكهة اللقاء الفراق.. تطل من شرفه القلب، تداعب عطرا يسكن تحت الوسادة، والمسافات تبلل حنجرتها بالموال] ويستطرد محاورا صاحبه الشاعر، الراحل الماثل [يا صاحبي ها سفرك يعبر واحة القلب فرحا، يسقي مزهرية اللغة القلقة تزهر لسانا يزغرد للحبر المعتق../.. فيركض ثوب الروح صوب نافذة الأنامل عازفا صرخة من صميم فجر رصاصي هو ذا الماء يتمرغ في الماء] وهو ذا شاعر جديد وصاعد، هو محمد عابد يحيي صلة القرابة والرحم الشعرية والشعورية، مع شاعر قديم ورائد، هو محمد الخمار الكنوني. وكلاهما »»يسقي مزهرية اللغة القلقة««. واحد بحبر معتق، وآخر بحبر طلق. ثمة سمتان رئيستان، تسمان مجموعة (علبة الخسائر)، وهما المفارقة paradox والسخرية irony. وهما سمتان حاضرتان في تجارب كثيرة من الشعر الجديد. والمفارقة اصطلاحا هي[اثبات لقول يتناقض مع الرأي الشائع في موضوع ما، بالاستناد الى اعتبار خفي على هذا الرأي العام حتى وقت الاثبات]. اما السخرية [فهي طريقة في الكلام يعبر بها الشخص على عكس ما يقصده بالفعل، كقولك للبخيل «ما أكرمك». وهناك صور اخرى للسخرية هي التعبير عن تحسر الشخص على نفسه، كقول البائس «ما اسعدني». ويلاحظ ان الغرض من السخرية يكون غالبا هجاء مستورا او توبيخا او ازدراء]. والهجاء والتوبيخ والازدراء، هي الاساليب الاثيرة في المجموعة، لمواجهة العالم المعطوب والضحك عليه. هي آليات دفاعها وهجومها. ولا يفيد مع كثرة الهزائم والانكسارات، سوى السخرية المرة والمفارقة الزاعقة. ومن المصائب ما يضحك، كما قيل لنقرأ هذه اللقطات المشهدية من نص نيكاتيف [1- شرطي المرور فجأة اوقف جميع السيارات وتملى سيقان امرأة عابرة على الرصيف الآخر 2- مجنون يجري لاهثا ويكتب بالفحم على الجدران ايها الحمير je suis libre 3- عاقلة تتهادى متبخترة وتقول أيها الحمير il est libre ليكتب حريته بالفحم] لنقرأ هذه المفارقة الجميلة عن «الماء» من المسودة الأولى من نص ثلاث مسودات تحتها مسدس)/ [المسودة الاولى الماء الذي انتظرت هبوطه خانني للقطرة الثالثة سألت عنه سنبلة شاردة دلتني انه مر منذ ثوان يتسكع رفقة الريح والعطش في حلقة يلهث في يده جريدة وعنقه مرتب بربطة عنق حمراء مر من هنا افرغ رضابه في فم الريح وخانني] واذا كان «الشعب» عند شعراء الستينيات والسبعينيات موضوعا للمديح والفخر والحماسة، ووقودا للثورة والتغيير، فانه عند محمد عابد، موضوع للهجاء والسخرية يقول في لقطة من نصه الأخير في المجموعة (جرعة زائدة) [غربال اغربل ما في الذاكرة لا أجد سوى شعب يكبر في المقاهي] وقبل هذا يقول في اللقطة الاولى من نص/ (ما أتعس الارض [في الخريف استجمع أنفاس الأوراق المتساقطة أواه ما أتعس هذا السقوط ما أتعس الأرض وهي تحمل كل هذه الجثث...]. ان محمد عابد، لاعب جيد و ذكي على وتري المفارقة والسخرية. فمن خلالهما يفضي بمكنونه ويبلغ رسالته الشعرية، بلا جلبة انشائية او انشادية. بل يؤثرها لغة سلسة سمحة، ولقطات مشهدية مركزة ودالة، تشكل شذرات نصية ونصوصا شذرية. تشكل كل واحدة منها ميكرو قصيدة، او القصيدة - الكبسولة، بجمل شعرية قصيرة ومقصوصة، تتوخى التلميح بدل التصريح. ان البنية السطحية للمجموعة، تبدو بسيطة ملساء، لكن بنيتها العميقة تبدو بالفعل علبة خسائر واسار ملغومة. ومن ثم يبدو الضحك في هذه المجموعة، شبيها بالبكا! كما تبدو المفارقة والسخرية فيها، مبطنتين بأحزان وأشجان ثاوية وراسبة. وتيمة «الحزن» لذلك،سارية وثاوية في هذه المجموعة، كجمرة تحت الرماد. نقرأ فين نص (امواج) -[يستهويني موج البحر في شجاعته انا المولع بنغمة الارتطام أهديه أحزاني فيحسن الاستقبال...] ونقرأ في نص (ايقاع) -[-ألوان تتراقص على نغم قزحي تلعق وجه الماء المتكبر رذاذ يرتل قصيدة لامرأة من أقصى الحزن والحلم ترشف من رحيق التعب كل الشغب..] ونقرأ اخيرا، المقطع الاول من نص (فضاءات مفتضة) -[شمس يوم جميل يهدي باقة شمس للبحر للحزانى للمتعبين...] لقد أهدى لنا محمد عابد، علبة مترعة بالخسائر والأشجان والأحزان لكنه، من قبل ومن بعد، اهدى لنا علبة جميلة، مترعة بالشعر والسخرية الشعرية. في زمن جهم كاشر الانياب، افتقدنا فيه قيمنا ومشاعرنا، افتقدنا فيه الضحكة الصادرة من القلب، افتقدنا فيه ذواتنا. والشعر دوما، عزاء وترياق للنفوس، وترميم روحي لما افسده الدهر احالات 1 - علبة الخسائر / محمد عابد - منشورات وزارة الثقافة - سلسلة الكتاب الاول- ع 25 - 2004 ص 7 2- معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب / مجدي وهبة كامل المهندس مكتبة لبنان - ط 1 - 1979