أجمل الشعر ذلك الذي يركض وراء الخسارة شيموس هيني إذا كانت الفلسفة تعني بشكل ما، تلك القدرة على ابتكار صيغ وجودية أو إمكانيات حياة. فإن الشعر باعتباره ظاهرة للتجريب الجمالي و الرمزي، يحقق كذالك و بطريقة ما، تلك القدرة على الابتكار و إعادة الابتكار. إنه بمعنى ما ، إمكانية من الإمكانيات الملغزة التي تجسد الحياة و تحققها. لذلك فنحن عندما نأتي من الشعر، نوجد بقوة في العالم، العالم الذي لا نوجد إلا بوجوده، لأننا كما يقول جيل دولوز " نوجد و نحن نتأمله. كل شيء رؤية و صيرورة، نصير كونا، نصير حيوانا، نباتا.. جزئيا نصير صفرا"! إن الإحساس بالتشظي و بلا نهائية الوجود، يدفعان الشعر بقوة إلى التأمل. يتأمل الشعر ذاته عن طريق اللغة، كما تتأمل اللغة ذاتها عن طريق موتها كلغة. إن موت اللغة كان دائما لعبة الشعر الأبدية. تموت اللغة لتحيى كصور تتكلم داخل المعنى و داخل الطبيعة و الفراغ. حياة اللغة هو موتها!.إنها مع بول إيلوار "لا تكذب". معنى ذلك أنها ليست أبدا كاذبة لكنها لا تعرف الصدق أبدا. إنها فقط كلمات، قوة الكلام المخيفة داخل الصدق و النسيان معا، أو بالتعبير البارثي " الكلام هو الزمن المكثف لمخاض أكثر روحانية يتهيأ خلاله الفكر ليأخذ موضعه تدريجيا بوساطة مصادفة الألفاظ". هناك إذن و باستمرار ما هو أكبر من الكلام، إنه القدرة على التكلم خارج اللغة، ذلك ربما، هو لغز سيزان "الإنسان غائب، و لكن كل شيء قائم في اللوحة". يتكلم الضوء و الظل مخاطبا صمت الإنسان و موته، كلام اللوحة هو الذي يحرر الإنسان من غيابه، هو ما يمنحه قوة الانتماء إلى قدسية الوجود داخل اللوحة. العالم يتجزأ داخل الصمت، يتكلم ميتا خارج اللغة؛ لكنه فجأة يصير أكثر امتدادا داخل أزهار فان غوخ، بدائيا و غامضا على شقوق أوتار كمنجة دايلوس ميلهو ، يصير العالم فجأة لعبة لليقين الفاجر في منحوتات ريدون و روايات كونديرا؛ حيث الأشياء الجميلة دائما توجد في مكان آخر.. في مكان ما هناك قرب جحيم رامبو و قطط بودلير.. هناك بالذات حيث يبدأ الشعر قويا كخسارة كاملة و هو يتحدث عن جنائز الوقت و الضباب، عن الحب و الحلم و الذكريات، و عن أشياء أخرى... لعبة العلبة أو ذكرى ما لا تعيه الذاكرة .. في "علبة الخسائر" تتخذ التسمية بوابة عجائبية، ذات منحى سحري، يغدو الشعر من خلالها عتبة سيكولوجية للإنخراط في دوامة اللغز. العلبة دائما هي ما وراء العلبة، إنها الكنوز و الأسرار، رائحة الدم و الطفولة و الجنس، قوة الذي يتبقى في ذاكرة الذي لا يعود، العالم الذي يحتوي على أشياء لا تنسى، لا تنسى بالنسبة لنا، بالنسبة لمن سوف نمنحهم هذه الكنوز. تماما كعلبة بشلار حيث يتكثف داخلها الماضي و الحاضر و المستقبل.. لأنها هي ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من زمن. تتحدث العلبة عن الحب و "لكنها تتحدث أيضا عن القوة و القدر".. و عن الحنين إلى الخسارة و اللاشيء، لأنها باستمرار تظل مشحونة "بعناصر غير معروفة و متعددة الإمكانات، و هي تصبح مرة أخرى خيالية ، تتولد عنها فرضيات و أحلام و تنخرط في العمق هاربة من ذاتها إلى عدد غير متناه من الكنوز الأخرى" على حد تعبير جان بيير ريشارد. تتخذ العلبة إذن كعنوان، تجسيدا نفسيا و شاعريا لموضوعة شديدة الحساسية، و هي أن العلبة تحتوي دائما على شيء ما، على ذلك الغياب الذي يجسده حضور تاريخي مكثف، و الغنى المشحون بالرموز و السحر و المصادفات. إن لعبة العلبة لا تكمن فقط في القدرة على إثارة سؤال: ما الذي يمكن أن تحتويه هذه العلبة؟ بل تكمن أساسا في الاعتراف بأن هذه العلبة لا تحتوي إلا على الخسائر. و هذا ربما هو ما يعطي للعلبة عتبات أخرى ، بمثابة تناصات لا شعورية أكثر إغراء تجبرنا من جديد على افتراض أسئلة أخرى أكثر عبثية و لغزية : لماذا يصر الشاعر على الإحتفاظ بهذه الخسائر داخل العلبة ؟ ما الذي تتقاسمه تاريخيا و شعريا الخسائر مع كنوز العلبة و مجوهراتها ؟ هل للخسائر داخل هذه العلبة بالذات غناها الذي يحتفظ الشعر وحده بسر؟ .. تصبر الخسارة حقيقية و أنطلوجية عندما يصر الشاعر على الاحتفاظ بخسائره داخل العلبة، إن الخسائر هنا كنوز عبثية، كنوز الخسارة ذاتها الذي يجسده بؤس الإمتلاك الغامض لانهيارات أبدية، تفقد معها الأمكنة و الأشياء و الذكريات و الصداقات وجودها العفوي، لتتحول بذلك إلى لعبة للخسارة و الجمال، أي موت المعنى المتشظي في العالم و شعرية الكتابة التي تعيد تفتيت هذا التشظي و تخليده. إن العلبة تنزع عنها هوامات السحر عندما تفتضح تاريخيتها أو لنقل مثلا: إن الجناس التمثيلي و الوظيفي لثنائية الخسائر/السجائر، الذي يمكن أن يحيل عليه الإنطباع البديهي لكلمة (علبة)، يجعل منها مجرد علبة للاستهلاك، علبة لاستهلاك الماضي و القيم و الأحلام و المآسي. سيميولوجيا و نفسيا قد تتقاسم الخسائر و السجائر دلالات كثيرة، إننا أمام إحالة استعمالية لعواطف تتقاسمها لعنة الإنطفاء و الإحتراق و الموت و الدخان و التلاشي. كما قد تكون لهذه السجائر من منظور ما ، قدرة على ابتكار الحرية داخل العلبة، إنها أيضا الجنس و النشوة و الحرية، فرناندو بيسوا في قصيدة "طبكيرية" يتذوق" في السيجارة حرية الإنعتاق من كل أشكال التفكير". في "علبة الخسائر" ، يستهلك الشاعر خسائره كما يستهلك سجائره بشكل يومي. إنه إدمان على الموت، و بقدر ما تتبدى عبثية وتفاهة هذه الخسائر بقدر ما ينكشف عمقها المأساوي. إنها جاهزة و يومية و كثيرة. إن علبةبهذه المواصفات هي بلا شك "علبة سوداء"، و هي تحيل بحكم انخراطها دلاليا في ثيمات متشظية ، على ما تبقى من انفجار مفترض لمشروع إنساني حالم بخلاص مستحيل. إنها بمعنى ما ، عدسة كاشفة لمأساة الإنساني في هذا العالم. ربما هذا ما جعل شعراء كبار أمثال مالارميه و نيرفال و بورخيس و رامبو و بونفوا و كايرول ... يكتبون عن الخسارة و عن اللاجدوى و عن الموت و المستحيل. و جعل كذلك باتريس مرسو بطل روايات ألبير كامو يكتب في إحدى مذكراته "بأن الإنسان لا يحقق المصبر الإنساني إلا بالموت، حينما يضيع نفسه أخيرا في الكون". بعض العبث قد يكون مصدرا للحرية .. و كذلك الخسارة !.. بكثير من السخرية و الإحساس بالخيبة ، يضيع الشاعر داخل الكون، داخل العلبة. متأملا التصدع الشامل الذي يسري في الإنسان و القيم، منتصرا في نفس الآن للكتابة و الشعر، و لفكرة نيتشه ،أن الفن عموما هو وحده القادر على فهم ضخامة هذا الخراب الأبدي. إن التفكير في دخول أسرار "علبة الخسائر"، يجعل منها بشكل ما علبة عبثية و سحرية، لأن حجمها الافتراضي في النهاية كعلبة ، لا يتسع لكل هذا التمثل الهائل من الأسرار و المصادفات. إنها تحتفظ بالكثير من الذكريات و المآسي، و بالصداقات و الأمكنة و الموتى و المغامرات و الأحلام و المشاهد. و مثل هذه الصور الغرائبية في الشعر كثيرة و متعددة، و قد خصص لها بشلار لذلك فصلا خاصا "المتناهي في الصغر" في كتابه جماليات المكان، الذي نسوق منه هذا المثال المأخوذ عن حكاية "كنز الفاصوليا" لمؤلفها شارل نوديه، حيث يدخل بطل الحكاية في عربة بحجم الفاصوليا، حاملا كيسا بستة آلاف حبة فاصوليا على كتفه، و يعلق بشلار على هذا النوع من الصور الشعرية بأنها "ليست للتسلية.. و بأن بعض العبث قد يكون مصدرا للحرية".. عبثية الحرية، و حرية العبث. هو ما يجعل محمد عابد يجري لاهثا داخل العلبة، و يكتب أشعاره – بالفحم - ضدا على كل الحمير، و ضدا على كل الخسارات ، و أن يتحدث كمجنون أو كسينيمائي عن شرطي المرور الذي فجأة : "أوقف جميع السيارات و تملى سيقان إمرأة عابرة على الرصيف الآخر" (ص 33 من الديوان). و عن المجنون الذي : " يجري لاهثا و يكتب بالفحم على الجدران أيها الحمير Je suis libre " (ص: 33) و عن الرجل الذي التقاه بالمقهى : " بمقهى سنطرال خرج من السجن البارحة إلا ربع لم يثق أنه حر فقيد نفسه ووقع بيانا ضد الحرية " (ص:41) و عن السكارى الذين يتساءلون: "ماذا لو سكرنا جميعا في ساحة عمومية و جادت علينا الثمالة بفكرة واحدة إسقاط العالم" (ص:40) إن شخوص العلبة عبثيون و مجانين!. الشرطي داخل هذه العلبة ليس منضبطا، نظرته الشهوية للجسد الأنثوي تتجاوز التناوب الوظيفي للأحمر والأخضر كقانون منظم "للمرور". لذلك فهو يوقف جميع السيارات ليتملى سيقان امرأة على الرصيف الآخر. إنه شرطي مستهتر و فوضوي و مضحك أيضا، لكنه و بمعنى ما ضحية! إنه نتاج تطور لا موضوعي في صيرورة الصراع التاريخي بين لاعقلانية الرغبة و عنف النظام، بين الجنس و السلطة، بين ما يمكن أن يضيفه الجمالي إلى القوة الكامنة في بنية النسق التراتبي لنظام الواجبات، و الواجب الأخلاقي، و لنقل بلغة أخرى أن هذا الشرطي بالذات هو واحد من الخسارات التي تحتفظ بها العلبة ، لأنه يشكل باستمرار و في مكان ما، ذلك الجزء الأكثر فظاعة و سخرية في أخلاقيات الذات باعتبارها انعكاسا لبنية نمط الإنتاج السائدة ماديا و رمزيا. إن الفعل الذي يمكن أن تمارسه طقوسية النسق الأخلاقي أو السياسي داخل مجتمعات الحراسة، كان دائما يتمثل و بشكل لاشعوري ، كجزء من نموذج متعالي ، أو ذلك المقدس الذي يجب حمايته باستمرار، طقوسية سالبة لإنسانية الإنسان و لحريته. لذلك يفكر شخوص العلبة بالهرب، و بالكتابة على الجدران بحثا عن الحرية. لكنهم في النهاية لا يثقون بهذه الحرية، فيقيدون أنفسهم و يوقعون بيانا ضدها.. ضد أنفسهم.. ضد العالم الذي كلما ثملوا يحلمون بإسقاطه.. أورفيوسية جديدة أم غربة اللاعودة إلى الذات .. إن قراءة نصوص العلبة تعني القبول بالدخول في لعبتها و مأساتها. مأساة لا تنتمي إلى الأسطورة عبر توظيفها كتناص تاريخي و رمزي، بل عن طريق إنتاج تمثلات شعرية إيحائية تعمل على محاكاة هذه الأسطورة و محاولة إعطائها قيمة ذاتية لا تاريخية. إن النصوص تستحضر و بشكل مكثف تلك اللعنة الأبدية التي تنكشف داخل الذات و هي تسقط في الظلام و السديم و العدم : "كلما اقتربت من دمي جفلت من ظلي و تعثرت خطاي" (ص:37) إنه الهرب إلى اللامكان، هرب متعثر في اتجاه اللاعودة نحو الرفض. رفض العودة إلى "دم" فاسد و مخيف، ذلك الدم الذي عوض أن يكون البداية و الحب و الدفء و الحياة، هو دائما تاريخ موت أو فضيحة أو نهاية. تفشل الذات كلما حاولت أن تصعد نحو ذاتها، نحو وجودها الأول ، و كأن ليس من حق هذه الذات أن تحقق وجودها عبر الانتماء إلى دمها أو عبر انتماء دمها إليها. ليس لها الحق أن توجد خارج ذاتها كرغبة أو فكرة : "كلما تقربت من الله فرت حور العين من الجنة" (ص:37) إنها ذات ملعونة و مرفوضة، و رغم محاولات تقمص نموذج طهراني مقدس ، يضفي عليها طابعا أخلاقيا مثاليا لصورة إنسانية مقبولة ، إلا أنها تفشل دائما في تحقيق وجودها، لتستمر في اجترار غربتها الأبدية. إننا نقف هنا على تضمينات تنصاصية جد مكثفة لأورفيوسية جديدة ، حيث يقوم الشك و الخوف و رعب المشيئة. أورفيوسية يتحمل فيها "بطل" العلبة لعنة العالم و خطاياه و تفاهته، حاكما على نفسه بالصمت و الموت الداخلي في جحيم النفس، هاربا من ذات محكومة بخطيئة قدرية ، إلى رحلة بحث منحطة عن طهرانية غامضة و خلاص مستحيل ، كما هو في الميثولوجيات القديمة.. إذا كانت الأسطورة قديما قد جسدت بجمالية خاصة مأساة الذات و عذاباتها في صراعها مع الآلهة و القيم داخل الزوج الميتافيزيقي : الخير/الشر. فما الذي يقف داخل العلبة وراء مآسي الشاعر؟ هل هو"المخبر الذي في رأسه" الذي يحوك هذه المآسي ضده؟ هل يكون هذا "المخبر" سلطة أو امرأة أو فكرة أو مجرد "جرعة زائدة"؟ أم أن هذه المآسي هي جزء من مأساة الكتابة الشعرية في حد ذاتها ، حيث تعوض القصيدة تاريخ الطفولة و حروب الذاكرة و النسيان.. و مهما تعددت الافتراضات ، فإن هاجس الخسارة يبقى رابطا عضويا تتمركز حوله نصوص العلبة، لذلك ليس من الغريب أن تتقمص الذات هذا القلق الوجودي، و أن تستمر في البحث عن جدلية الوجود و اللاوجود، دون الارتكاز على التصورات "البطولية" الجاهزة حول ذاتها و الآخر، ثم إن المشهد الكوني الإنساني المعاصر على حد تعبير سامي أدهم أصبح مغتربا و متشظيا على جميع الصعد السياسية و الثقافية و الإقتصادية بمعنى : "أن النص لا يكون غنيا إلا إذا كان قادرا على إنتاج فراغات سديمية، خارج أنظمة العقلانيات الخالصة" و أن يبحث عن المعنى في تراجيدية اللامعنى كما يقول جان بيير ريتشارد. إن الشعر هنا يحاكي المأساة، لكنه يخرج عن صيرورة التمثلات المتعالية للأسطورة إلى عنف المحايثة التراجيدي، حيث تعيش الذات و اللغة اغترابا تبادليا داخل بنية التشظي ، التي يحاول الشعر من خلالها أن يدافع عن اللامعنى ، عبر ابتداع صور للحياة كصيغ للحرية و الإرادة : "إنفجرت قنبلة أصابت قلب طائر كان يستعد للتحليق سقط و حلق تحت الأنقاض" (ص:47) إن قوة الكتابة لا تتجلى فقط في قدرتها على تكثيف جمالية الصورة و عنفها، بل كذلك في قدرتها –شعريا- على تجاوز قوانين التشظي التي تنتج الحرب و الموت و الدمار، و في الإنتصار لقيم الحرية و الإرادة و القوة. و في التأكيد كذلك على حقيقة واحدة ، و هي أن الشعر يجب أن يظل دائما ذلك الاحتجاج الأكثر وسامة ضد بربرية الحرب و همجيتها، و أنه بالفعل ذلك المخبأ الأبدي لبراءة العالم . لقد ظلت سيرفا ماريا بطلة رواية "عن الحب و شياطين أخرى" لغابرييل غارسيا ماركيز، تقاوم الموت في قبوها بقوة الشعر. شعر صديقها القديس الذي أحبها ضدا على تحذيرات المعزمين ، الذين حاولوا حرقها، و رجال الكنيسة، ضدا على المجتمع الذي رفضها، ضدا على الجميع الذين تركوها ظنا منهم أنها مسكونة بالشياطين و اللعنة والموت . تموت ماريا في النهاية، لكن الشعر ظل يزرع القبو بالحب و الضوء و الأغاني . العودة إلى الحلم: الكينونة باعتبارها سديما . توجد الخسارة باستمرار داخل لغة العلبة، بانفاق الوعي ، بالتباسات الصدف التي يغدو فيها الحلم تكرارا لجحيم قدري. و من علامات قدرتها على التجاوز الرمزي تبتدع النصوص كذلك فضاء حلميا تجسيدا لفكرة الإرادة من جهة ، لكنها تستحضر كذلك بقوة العنف الموضوعي المتخفي وراء معيقات هذه الإرادة. إن أحلام الشاعر ليست خالصة كما أنها ليست حرة و مستقلة عن جحيم واقع العلبة. إنها أحلام بسيطة و ساخرة ، و تعيد كذلك نفس الهموم و الخسائر و الإنشغالات القديمة ، لتمتد معها لعنة الخسارة إلى الغد القادم بملامح المستحيل ن و في "أحلام رأس السنة" يحلم الشاعر كلما عاد إلى البيت : بمصير الجرائد غدا و المقهى غدا و نميمة بعد الظهر غدا و وشايات منتصف الليل غدا" (ص:65) و هي أحلام ليست سوى استعادة لعواطف غامضة تجاه "مصير الشعب الذي يكبر في المقاهي" (ص:69)، و بالمقهى حيث الطاولات المتعبة و القنينات الحزينة (ص:20)، و بوشوشات منتصف ليل ورزازات رفقة الخليلة (ص:61). كما يحلم الشاعر أيضا: "بامرأة تحفظ القبل عن ظهر قلب تفاديا للثرثرة" (ص:66) و هي امرأة تشبه إلى حد كبير، أمية الشفتين في قصيدة "علبة الخسائر" التي منذ أن تهجت القبلة الأولى ، غابت عنه و راحت تروض شفتيها بالثرثرة. إن الحلم داخل بنية مسكونة بالموت و المستحيل لا يمكن أن يكون إلا تعبيرا عن خسارة أخرى ، تنضاف إلى خسائر هذه العلبة ،التي يصبح الحلم داخلها مثل درب هايدغر الميتافيزيقي ، الذي لا يخط من أجل السير، و إنما بفعله. أي أن الحلم هنا لا يأتي كرغبة ملحة سابقة من أجل تحقيق رغبة ما، و إنما يُفرض كقانون –تكراري- للعبة اضطرارية ينبغي المشي في اتجاهها من أجل ضرورة عبثية ومأساوية. إن الحلم بهذا المعنى لا يحقق الوجود عبر الحرية، لكنه ينفتح على الكينونة باعتبارها سديما و موتا. لذلك تكون الأحلام أحيانا على حد تعبير هوبر بونوا "كلاما عن العالم الداخلي للحالم في صيرورته التحقيقية. هذا العالم الداخلي هو أساسا عالم حركي، عالم من القوى المتحركة زمنيا و الساكنة من جانب الكينونة" . الكتابة ضد الخسارة.. ضد الموت !. يقول موريس بلانشو:"ليست فردانية الكتاب [الشعراء] هي التي تفسر أن فعل الكتابة يتموقع خارج أفق ثابت في غاية التفكك. بل جهد البحث الذي يعيد النظر في كل شيء هو أكثر عمقا من اختلاف الطباع و الأمزجة و نوعية الحياة ". من هذا المنطلق تحاور نصوص العلبة الواقع باعتباره بنية شتات لا عقلانية، محكومة بقانون التفكك و التشظي، دون السقوط في الغنائية و العاطفية الساذجة ، مراهنة في ذلك - ككتابة جديدة - "على النص الشذري لا بقصد تجزيئه إلى وحدات منغلقة، و إنما جعله منفتحا يقطن التعدد كل وحدة من وحداته". على حد قول عبد السلام بنعبد العالي. إن رهان الكتابة الجديدة على النص الشذري ، هو رهان على تكريس كتابة تقوم على تقويض ميتافيزيقيا الواقع ، عن طريق تفكيكه ، و هدمه و إعادة قراءته باستمرار، بذلك النفس الجينيالوجي المتفجر داخل اللامعنى و الشك و القلق و اللايقين ... إن الحياة داخل العلبة حياة مأزومة نتيجة واقع مأزوم. و هي ما بقدر ما تتخذ في عمقها أبعادا تجسد مأساة عالم اليوم، تفتح كذلك إمكانيات أكبر للسخرية و العبث و الكتابة . لأنها وحدها تستمر كفعل للمقاومة و الاستمرارية و القوة.. لقد وجد الشاعر في قصيدته الأولى "سفر العودة" المهداة إلى الشاعر الراحل محمد الخمار الكنوني ، طريقا أخيرا إلى اللاخسارة، عبر استحضار الراحل من خلال ديوانه (رماد هسبريس)، تأكيدا على أن الكتابة أطول عمرا و قادرة على قتل الموت. إنها بالفعل السفر الذي يعبر واحة القلب فرحا و [الذي] يسقي مزهرية اللغة القلقة [كي] تزهر لسانا يزغرد للحبر المعتق . فيركض ثوب الروح صوب نافدة الأمل (ص: 8) إنه الأمل نفسه الذي جعل جلجاميش يكتب وصاياه الأخيرة على الألواح بعدما فشل في تحقيق فكرة الخلود الجسدي. ........................................................................................................................................... * محمد عابد / ديوان علبة الخسائر /منشورات وزارة الثقافة / سلسلة الكتاب الأول . ع : 25 . 2004