ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنثى عبد الكبير الخطيبي: مجازات المؤنث.. بين المغايرة والتحاب

في علاقته بغرابته الخاصة و بغرابة الآخرين، يضطر الكاتب إلى ابتكار مفردات رؤيته و كلماته -المفاتيح و أن يصحب، بمحبة مفارقة، أريجه الشخصي المنشئ ل (حقيقته) من أجل أن يكشف مرة أخرى عن السر العتيق الذي يقيم، ثاويا ومتخفيا، خلف وضوح الرباط ونصاعة الوثاق وكسل العلاقة، ومن أجل أن يستأنف الكلام المستحيل عن تلك المعتمات الفاتنة التي تستوطن العلاقة مع الآخر وتسكن الاقتراب من المؤنث الأقرب. ولأنه يرتهن بمثل هذه العلاقة يكون الكاتب منذورا على الدوام لرواية حكاية اللاتماثل ولسرد غير متساوق لجميع تحققاتها الممكنة. وإذ تؤول إلى تاريخ طويل وبناء حول المغايرة تتجاوز هذه الحكاية، في حالة الخطيبي، أصلها التاريخي العام لترتد إلى أفق شخصي شديد الخصوصية يكتب الخطيبي داخله ذات الحكاية مذكرا، دونما رغبة في الإخلال بالخيط الناظم لتفكير نسقي عميق استغرقه المؤنث وبانتظام فذ، أنها المعبر الذي يخلص مجازه إلى إلغاء جسور لأنواع شتى من المحظورات وأشكالا عديدة من العقبات المعيارية. وهي إذ تنزاح، بكل رجاتها اللازمة، عن النسق الاتصالي، فإن حكاية المؤنث هذه لا تأخذ شكل إثارة رخيصة أو تحريض على سبيل الانفعال، بل هي انقلاب شعري وترميزي يستند إلى تجربة استثنائية مبدأها الإغراء والافتنان.
إن الرحم التي تخلقت فيها هذه الانطلاقة نحو المؤنث كانت رحما شعرية تبدت في (كتاب الدم) على هيئة حكاية درامية ونشيد - غناء يكشف عن شغف واجد يشترك فيه أفراد منتمون لنحلة غامضة وأسرارية، ويجلي اندرو جينا - خنثى ملتبس الهوية، و يبئر ما يشظي الذات ويفجرها حتى حدودها الانتشائية التي تنخطف فيها الذات داخل ولهها الخاص.
إن الإحالة هنا إلى استعارة الاندروجين - الخنثى تنبئ عن توهم لحظة محظوظة يستنفرها المتخيل وهو ينضد اشتغاله ويشبكه. إنها حكاية ترحل وانتقال حيث يوجد الشاعر في انتظار ذهول الكينونة وترقب ما سيقع له. انه القائل: من هناك؟ والآخر هو الذي يجيبه متوسلا بأساطيره وملائكته وأغانيه وتيهانه الآخر هنا هو المجاز المنضد وجسد التمزق ومشهده، وهو أيضا مجلي المفارقة والعنف المبهم ومجرى الانفصال والاتصال. انه الغنيمة المتخيلة للوحدة المذلة. وعبر التحرر من أثقال البدن وأحمال الفيزيقا يهب الاندروجين - الخنثى للمتحابين أثير الملاك وتجرده، والجوهر الهزيل والعابر لمثال البدن ونموذج الجسم، وهو ما يمنح أيضا الإظلام الرديف لصورة الذات عن ذاتها.
فحين (تطرأ الخنثى، لا يصبح المؤنث نقيضا للمذكر ولا ذيلا ملحقا به أو فضلة عنه، بل إنهما يرشحان معا من نفس المعين الدائم ..- كتاب الدم - ص : 138).
إن مآل السرد الأندروجيني وحكاية الخنثى مجبول على الإنفتاح الرمزي على صيغة المثنى لأن الإختلاف حينما يستهل استفهاماته الفادحة، فإنه يستفهم في البون الفارق الذي يجوفه الإنفصال الأرعن. وهذه الإرادة الملغزة المميزة للإنفتاح على المختلف تتمثل أساسا في تجميع مشهد متراكب ومركب من الشغف بالآخر بوصفه، أولا، خط انفلات وحد استهراب وباعتباره، ثانيا، مجازا لتفكير غير تماثلي في الآخر. وهذا ما يفترض أن المغايرة، لمن يروم معاودة التفكير فيها، لا تلزم فقط بانسلاخ شعري وتجرد كامل، بل تستدعي أيضا توسيعا لفضاء الذات وتفضية شاسعة لها بالإستناد إلى منظور يعتبر الذات غرابة مطلقة وتفردا متطرفا. إنها أل(ذات) وهي مغتربة وحائرة شبيهة برحلة أنهكها سفرها الخاص، وتصير هذه الذات بالتالي تجربة انفصال مريع يقتلع أواصر الود وينسف انساق العلائق المتصلة. إن الأندروجين، في سرد الخطيبي، لا ينأى كثيرا عن استيهام شعري يتوق إلى التوافق والبحث عن الصيرورة في القطيعة والوصال داخل الانفصال وذلك عبر استدعائه لمجاز أسطوري دال هو صورة أورفيوس. وبهذا المعنى تأخذ العودة إلى البون الفارق شكل النظر إلى مغايرة غير نهائية وغير قابلة للقياس لأنها مغايرة العالم والذات عبر الانفصال وبفعل الانقطاع .
إن هذه الأفكار المتعلقة بالانفصال وبالوجود الطيفي للهوية وبالوحدة المتعذرة هي التي تجد نفسها، في محكيات الخطيبي وشذراته الحكمية، مدثرة بتمثيل آخر للمؤنث وصوغ مجازي له بوصفه وعدا منعكسا باستمرار في النظام العام للتبادلات وفي المفارقة المؤسسة لكل علاقة. وهو تصور يمكن فهمه باعتباره رجة مزلزلة محايثة للتقاطع الوجودي بين الذكورة والأنوثة ..
إن الخطيبي، وهو يعلن أن (الرجل لا يمكنه أن يلتقي المرأة إلا إذا تجاوز ذاته)، يذكر بأن اللا تماثل، لما كان غير قابل للذوبان في ذاته، وجب أن ينتظم داخل فكر يفكر الاستحالة القابلة للقسمة وللإشتراك، وداخل (خرائطية الرغبات) وأبهة الآخر وعظمته وفي الجانب المعتم من الجسد والذاكرة التي تشكلنا بصورة مبهمة وأبدية رغم ذلك .
إن مجمل الأفكار الخاصة ب(خرائطية الرغبات) وبتدبير المغايرة هي التي قادت الخطيبي نحو وجهتين مختلفتين لكنهما يتقاطعان في العمق. وإذا كانت الوجهة الأولى تنحو نحو فكر يتأمل المواقع الأنتروبولوجية للمغرب وما يكون الهوية والذاكرة الجماعية والتنوع الثقافي والتعدد البنيوي للمجتمع ومجازات الغريب والتضاد المؤسس والإنشطار المخصب ...، فإن الوجهة الثانية تنطلق من فكرة (التحاب) التي تدل على مبدأ إعادة تحديد العلاقات بين الرجال والنساء على ضوء الإنجذاب الذي يبنيه التعاون داخل صمت الإشتهاء وبمساعدة وسائط تسعف في التدليل وفي صناعة المعنى وحيازة موقع في اللقاء.
إن الأمر يتعلق فعلا بنوع من تنظيم الحياة النزوية للكائنات المتحابة عبر ترخيص دائم للأطراف المتورطة في التحاب الذي يستند التبادل فيه إلى التوسط والمودات النزيهة والمترفعة. التحاب، لدى الخطيبي، عبارة عن شعرية للعلاقة تنمو داخل مقاومات ملينة ( صيف في ستوكهولم ) وداخل أنواع متآلفة من الأحاسيس والانفعالات و داخل حوض الرغبة والانشداه. انه تجربة افتنان تنطلق من موقف بياني وخطابي مسبق يركز، أساسا، على لغة الذات العاشقة ويقود إلى تمجيد معتدل لأطراف الشغف المتبادل. التحاب، إذن، لون من الشغف البارد الذي يتحول إلى بيداغوجيا للقوة الإفتنانية - الفاتنة والجاذبة للإختلافات: الأجساد والغرابات والفضاءات والنساء والبلدان...
إن قسوة اللاتماثل أو عنف التملك أو الانفصال هي التي ينقحها المتخيل الحرل(التحاب) بوصفه فنا للحب يدعم دفقه المتجدد بالاستناد إلى التراث الثقافي لفنون الغزل والآداب الغزلية وبالاعتماد أيضا على الذاكرة المنضدة والمتراكبة للذات. فالتحاب بهذا المعنى فن يضاعف التشابهات، انه يشبه ذاته وهو يحتال على المغايرة العاشقة، احتيالا متدرجا، بغية العثور داخل الكلمات على قوة الحياة التي تجعلها ملفوظة وداخل العلائق المميزة للمباهج الحسية التي تجسدها.
ومن هنا تتأتى كل القيمة التي تمنحها كتابات الخطيبي (صيف في ستوكهولم - إهداء للسنة القادمة - كتاب التحاب...) للشكل الشهواني للمس. لقد تحدث الشاعر في (إهداء للسنة القادمة) عن (مقالة في اللمس) بوصفه (بحثا عن وثاق حيث يضع الكلام نموه وتجدده موضع الفعل والحدث) وحيث تقدم ذات الكتابة نفسها، وهي تبني شفرتها الإستلذاذية داخل تشظيها المتعوي، باعتبارها استضافة محترمة للآخر وذلك في اللحظة الشبقة التي يتكلم فيها الكاتب، في تحققاته الشعرية والسردية على السواء، عن الوضعات الايروتيقية التي يلتبس فيها الجسد بالروح وتتحول فيها المباهج الحسية والإستمتاع الملموس إلى حالة للمعنى، دونما قناع ولا فسق داعر ودونما ألم رومانطيقي زهيد أيضا ..
ولا تكتمل المجازات الباهرة لهذه التجربة الفذة للإفتتان والشغف الإنخطافي لدى الخطيبي إلا باستدعاء جملة من الروائز القيمية التي تصاحب سيرورة التحاب والمتمثلة أساسا في الشغور والهشاشة والرغبة والقدرة على الحب والوضوح والعاطفة والجمال والحضور والفطنة والانتباه وروح القلب والفردوس وذوق اللعب وتحولات الحواس ....
وعبر هذا السجل المعجمي والشعري والفلسفي يؤلف التحاب بين أبعاد مختلفة ويؤسس العلاقة مع الآخر انضباطا لنظام يمنح أهمية للحضور وللمرونة وللقابلية للتأثر وللفطنة. وهي المقومات التي تدعم المضاعفة الملموسة للإصغاء والانتباه داخل العلاقة الواقعية أو الممثلة. وهذا ما يجعل الذات ترتد إلى كائن قادر على الاعتراف برغبته وبرغبة الآخر وأهل للاندماج في لعبة توافقات تمكنه من تبجيل الاختلافات واحتواء النشاز.
إن مثل هذا التصور قد يبدو واهما ومغالطا في غياب فعلى لضرورة جديدة تضطلع بالرواية حيث ينكتب التحاب، وهي ضرورة تنزع نحو إعطاء أساس صلب لفكرة العلاقة غير التناظرية عبر استفهام عميق للمغايرة العاشقة. وهذا ما يفسر جيدا أن الغير متعدد لأنه مشكل من كائنات متفردة تستدعي معرفة فريدة، ولا شيء هنا بمكنته تجاوز ما هو إنساني .
وفي هذا الإطار، يبدو المتعدد الأنثوي أو الأنثى المتعددة مما لا يقبل الاختزال في تجريد مفهومي أو افتعال نظري، كما انه غير مشعشع داخل دونجوانية بذيئة وكلبية. بل إن هذه الأنثى -التعدد مرتبطة، ارتباطا وثيقا، بمجازات الكينونة وتنقلاتها وبتجديد دائم الألق للسان العشق. ومن هنا يتضح أن التحاب لا يمكن أن يعني، لدى الخطيبي، شيئا آخر غير تفاعل ايجابي وتجاذبات نشيطة بين المتحابين. فكل متحاب يرغب في الآخر متوسلا بمبادرة التحاب التي تتجاوز الانفعالات والأهواء وتتعالى أيضا عن كل لذة فظة وعنيفة. إن الأمر يتصل بعلاقة ملموسة بالجسد المؤنث الذي ينوجد في تقاطعات الشعرية والإيروتيقا والانجذاب. وإذ يحول عنف الرغبة إلى لعبة متبادلة للجسد والروح، يصبح التحاب اعترافا بالمفارقة التي تقيم دوما في كل علاقة ولقاء. انه الانمحاء والتجدد معا، وإيقاع الحياة وإيقاع المجون والفسق كذلك.
إن علاقات التحاب ومفارقاته لا تعرف الثبات ولا الاستقرار بالمرة، بل فقط ثمة انتقالات ومعابر ومجازات. ولكنها مجازات مؤسسة لروح اللقاء. التحاب، إذن، شعرية للمجازات وعبور من الطوية الحميمة إلى الزهد الطفيف عبر التوسل بإرادة تعيد ابتكار الرغبة غير النهائية العابرة للتقلبات والانشطار، للحضور والغياب.
وبمعنى ما يؤول التحاب إلى نوع من الامتناع الزاهد لأن ثمة، في كل إنسان، جزءا غير قابل للتملك والحيازة وخارج عن كل مصادرة واستيلاء. وباعتباره تخيلا ومعيشا شعريين، يؤكد طقس التحاب، مدعوما ببعده الشعائري، اضطلاعه بمراجعة تعيد قراءة النماذج المثالية للعلاقات. إن التحاب، أيضا، يعمل على معاودة ابتكاراغراء الآخر وفتنته مع الحفاظ على حالة تنتفي فيها كل الأطراف داخل تلك أل(نعم) المفارقة. انه يبرز ما يحتويه العشق، في عمقه، من ملجأ وملاذ وقابلية نشطة للانفعال والتأثر، وذلك لأنه يضيف ملحقا آخر لتناقض العلاقات. ولهذا يدقق الخطيبي، لمن يرغب في فهمه، أن التحاب لا يلغي الحب، ولكنه المفردة الأخرى له المنقطعة الصلة به والمتوسلة بالكتابة وبالكلام الحي الذي يجدده النظر، وهي أيضا الكلمة الأخرى الناهضة على تشعب العلائق الشبقية ووسطاء الاتصال والانقطاع وأشكال اللياقة وشفرة الشعائر والمجاملات ...
إن الخطيبي لا يتردد في منح التحاب معنى أكثر عمقا عبر إعادة إدماج فنون الغزل وقراءة الآداب الغزلية على ضوء القواعد الخاصة بالتحاب، التحاب وليس الحب. ففي هذه الخرائطية الأدبية لا وجود لغير متحابين لا يحبون نفس الكائنات. لا وجود هنا لأدنى تعارض بين المتحاب والمحبوب، وبين المبدأ السالب والموجب، بل ثمة فقط ذلك اللسان الداخلي الحشوي للتحاب.
بهذا الشكل إذن ينقاد التحاب إلى نوع من السجل اللساني الاستثنائي والخاص يدعوه الخطيبي باللسان الداخلي أو لسان الطوية (Inter langue)، واثر ذلك يرتبط التحاب أيضا بنسب مبدع وبمطاوعة لدنة وبفائض من المعنى المندلق من الخطورة ذاتها المائزة للمعابر والانتقالات ولصور الخارج. فالتحاب يجعل المتحاب يكتشف شرط مغايرته ذات الصيرورة البنائية المسترسلة على الدوام، ويؤهله لتشفير دليله الخاص والإذعان لذاته في قرابته النقدية من الآخر وفي انقطاعه الحميمي غير المنتهي وفي مواظبته الثابتة على الآخر أيضا. في نزوعه الشعري وفي فن التوسط الذي يثني على ما يعد به غموض الآتي ويطري على ما ينوجد في تقاطع الأشكال الشرسة، وذلك لأن التحاب، لدى الخطيبي، شأنه شأن كل صوت آخر يظل وعدا. ولذلك فهو لا يفك أي لغز ولا يستضيح أي إبهام. وبنفس الانبناء يحول التحاب الشكوك إلى مفارقات لأن المبدأ الأساس للتحاب هو دعمه لقدرتنا على الولوج الدائم في علاقات التحاب عبر الخيبات وانجلاء الأوهام . .... لأنه مؤسس على نوع من الحرج المنطقي والمفارقة المتشككة في اطمئنان التواصل وتواطؤ العلاقة الكسولة التي اسمها التناظر.
وفي هذا السياق لا يمكننا إلا أن نستشهد بمقطع جميل ل(غاستون باشلار) :
(..قديما، حين كنا نفتت قطع المغناطيس*، كنا نبحث عن فصل المغناطيس الأعلى عن المغناطيس الأسفل بغية الحصول على مبدأين مختلفين للانجذاب. لكن أملنا خاب لأننا كنا نجد، مع كل كسرة، و في كل الأجزاء المكسورة من القطع الممغنطة محورين غير قابلين للانفصال..إن كل علاقة منقطعة هي غالبا علاقة مؤمثلة..)
إن الفكرة الأساس في التحاب تبقى متمثلة في قوة الرغبة، وهو ما يؤكده البناء الصرفي للمفردة ذاتها ((AIMANCE، حيث يحافظ اللاحق المورفولوجي على المظهر الفاعل والنشيط لاسم الفاعل. وهي صيغة صرفية تحيل إلى نقيض الحالة الثابتة والمستقرة لمفردة من قبيل (((AMOUR وهو ما تعبر عنه أيضا الصيغة العربية: تفاعل/تحاب التي تؤكد بعد التفاعل والمشاركة والحركة والتحول -المترجم)
إن التحاب، في أفق مثل هذا، كناية غير نهائية عن الرغبة ذاتها. لذلك، يقول الخطيبي، (خلقت مفردة التحاب، فليس ثمة شهوة مجنونة بين أطراف الولع، بل فقط رغبات جوار الأفكار)، والتحاب أيضا، وهو الاجتراح المعجمي المثقل بالدلالة، يشارك في إرادة الاستمرار والتواصل من خلال أشكال شديدة التباين. ....
إن هذا المفهوم، الذي ليس مجرد بدعة اصطلاحية أو نزق مفهومي، يقدم نفسه بوصفه إرجاء أو تعليقا لافتراس الآخر والتهامه، وللمغالاة المفرطة، وللرعب الهلع من الجمال، ومن الوعيد المهدد ومن التضحية القربانية ..
إن التحاب، مرة أخرى، يروم إقامة علاقة حية تتجاوز الإشباع الغنائي الذي يتأتى من الارتباط بالآخر المؤنث ويترتب أيضا عن فشل الذوبان في هذا الآخر القريب - البعيد والمتصل - المنفصل. ولذلك يقبل التحاب التناقض المنطقي والازدواج القضوي ويقترن بالمرئي ويترجم الآخر في مختلف تنقلاته وفي انقطاعاته المتباينة بوصفها إمكانات للفكر ذاته. وهذا عينه ما تدعمه العودة إلى الفن الغزلي استنادا إلى فكرة الإغراء وتقديسه عبر قربان شعري عبر عنه الخطيبي في (إهداء للسنة القادمة):
عبر جاذبية منفعلة
وأجساد طرية متناظرة
تتلامس إذ تتداعب
يتخلق هذا الفن الشعري :
الشكل الغزلي للتحاب
إن الشاعر يحيل إلى فن الغزل بوصفه قرابة عاشقة للشهوة الحسية التي تمر عبر وسائط فاتنة تؤجج الشغف المتبادل والافتتان المعكوس. انه بهجة حسية وملموسة تشتغل مستندة إلى المنثني والنظر والصوت والاحتفال والبروز والمجيء والسر والابتهاج واليقظة والفجر والتفاهم وغير ذلك. وبهذا الإنتساب الذي ينهض على المثنى والازدواج والمفارقة لا يصبح الفعل العاشق كراهية للذات العاشقة أو إنكارا لها، ولا يؤول العشق ذاته إلى عنف مأتمي أو جحود ونبذ واعتراض أناني. وهذا التمثيل المجازي المتجدد للفعل الشعري العاشق هو عبور نحو الإغراء وانتقال إلى الكلام المشترك ومجاز إلى استعارات التهدئة واللاتناظر وإلى استضافة ما ينوجد هنا ويكون في الظل الرومانسي للآخر..
هل يتعلق الأمر لدى الخطيبي بتحييد الانفعال و( الباتوس) عبر توجه ما بعد رومانسي متأخر؟
في جميع الأحوال، يعمد الخطيبي إلى إدماج الفارق الدقيق ومعنى التناسب ونوع من مضادات البطولة الذكورية في لعبة اللقاء - التحاب. إن الأمر، لديه، بحث شعري دؤوب عن البصيرة الفاتنة الثاوية خلف التجليات المختلفة للمحبوب. لكنه أيضا رغبة دفينة في الحفاظ على ديمومة شعائر الانثى وتقديس المؤنث، ليس باعتباره هوية بيولوجية مغلقة ولا صيغة للوعي، ولكن بوصفه حدثا وتبادلا لخيرات شبقية وإيروتيقية، ولأنه أيضا فن للعيش داخل مفارقة الأحاسيس والانفعالات ( .. إن التحاب ليس بديلا للحب كمفردة، وليس كذلك جزءا من الواقع، لكنه ما يجعل الحب ممتدا. فهو حد إحراجاته التي غالبا ما تتجسد في الشغف و في أساطيره ..)
ليس هناك أدنى شك في أن مفهوم التحاب هو في الواقع (إشباع استبدالي )لأنه تمثيل ايجابي للتناقض وللانفصال، ولأنه أيضا نسيان للفتنة، وهي الكلمة الدالة على الحرب والإغراء معا، وللعته والجنون داخل الغرابة الهامة للسان الحب، وداخل فضاء تخفق فيه الأجفان خفقانا دائما وتصبح فيه الرغبة استعدادا مطلقا. وهاهنا يصير التحاب مقوما ينهض عليه فكر المغايرة كله لأنه يجد فيه نفوذا مدمرا أو عصابيا على الجسد، ولأنه يضمن الحياة - حياته خارج كل مصادرة للروح .
إن التحاب لا ينفي وجود الروح، ولكنه يظل قريبا من تحرر طائش منقب ومستعلم. إنه، اختصارا، يستدعي وجودا سريا ويفترض تعاونا استثنائيا بين المعرفة والرغبة في المؤنث القريب وبين الشعر.
التحاب هو الكلمة التي تأتي حين تفتقد العلاقة العلاقة...
--
ملحوظة: تم الاحتفاظ بالهوامش نظرا لإكراهات تركيب الصفحات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.