أطفأ مُؤخرا «ميلان كونديرا ? Milan Kundera «، المزداد في 01 أبريل 1929، شمعته ال 85 وصدرت له مع مطلع شهر أبريل الماضي، عن دار «غاليمار»، رواية جديدة تحت عنوان «احتفال التفاهة - Fête de l?insignifiance La».. ويأتي هذا العمل بعد مرور ما يناهز عشر سنوات لم يَصْدُر فيها للمؤلف أي كتاب بعد رواية «الجهل - L?Ignorance « (غاليمار) في 2003 .. وتدور أحداث الرواية الجديدة حول نفس التيمة المعلنة في العنوان : «التفاهة».. لكن بأي معنى ؟ هل بمعنى أن «التفاهة» تافِهةٌ، اسما على مُسَمّى؟ أم العكس؟ يقول أحد شخوص الرواية مُؤكِدا: « إن التفاهة جوهر الوجود.. فهيَ تلازمنا دوما في أي مكان وحاضرة حيث لا يرغب أحد في وجودها.. حاضرة حتى في أقصى الفظاعات والصراعات الدّامية؛ وفي أسوء المصائب.. لكن الأمر لا يتعلق بالتعرف عليها والاعتراف بها؛ بل يجب عشقها وتعلم محبتها.. «.. يحتل صدارة المشهد في هذا العمل الجديد كل من «ألان» الذي تخلت عنه أمه منذ أن بلغ سن العاشرة والمنشغل بمراقبة مناطق حساسة من أجساد الفتيات كشفت عنها موضة اللباس بشكل سافر محاولا صياغة نظريات حول رأي المجتمع في شبقية هذا العري ... و «رامون» الذي كان يعمل مُدرِّسا ويرغب في حضور معرض تشكيلي للفنان «شاغال» بمتحف «اللكسمبورغ» فلا يستطيع إلى ذلك سبيلا بسبب تنازله كل مرة أمام الطابور الطويل ؛ و «شارل» الذي لا يكف عن سرد نادرة مطوّلة عن «ستالين» ونكاته الفاشلة دوما في إضحاك مستمعيه، إذ يعتبر هؤلاء أنه من غير اللائق أن ينشغل «أبُ الشعوب» بالمزاح والدعابة ؛ ثم «كاليبان» الممثل الذي لم يلعب قط دورا؛ لكنه يتسلى كخادم في الحفلات باختراعه لهجة خاصة به يدعي بأنها الباكستانية ويمارسها كخدعة طالما تعالى ضحكه بفضلها إلى جاء اليوم الذي بدت له كئيبة وحزينة حتى الموت.. يحب هؤلاء الأصدقاء التجوال في «اللكسمبورغ « ويجمع بينهم نوع من الخفة والرعونة؛ لكنهم يسجلون بأن الأجيال الشابة قد نسيت من كان «ستالين» أو «خروتشوف» أو حتى لأي من الملِكات نُصِبت تلك التماثيل بالحديقة الباريسية... مثل سابقاتها من الروايات ( «البُطء- La Lenteur « 1995 و «الهوية- L?Identité « 1997 ) تقتبس هذه الرواية بنيتها ولحمة نسيجها من شكل «السوناتا» كقطعة موسيقية مركبة من عدة حركات وتغيّرات.. ولقد انتصب « م. كونديرا « في إحدى دراساته النظرية الصادرة تحت عنوان « الستار- Le Rideau « (2005)، ضد طغيان القصة المَحكية كالتزام يقضي بإعداد حبكة مُتقنة يرى أنها تخنق الرواية مدافعا عن حرية الكاتب.. لذا نجده، في « احتفال التفاهة «، يمارس حريته بشكل مطرد ومتسلسل على مدى النص الروائي.. يتنقل من «باريس» اليوم إلى «الاتحاد السوفيتي» بالأمس بدون إعطاء أي مبرر، ساهرا على تسيير وتنظيم جوقة شخوصه الذين يتقنون الثرثرة بشكل يثير الإعجاب، متدخلا من حين لآخر.. فتجده يتطرق على لسانهم ومن خلال أحاديثهم إلى مسالة « الدعابة» عند «هيغل» أو تجده يتخيّل «ستالين» وهو يتكلم عن فكرة «الشيء بذاته « عند «كانط».. بل أنه يصرِّح أحيانا بحيرته وتردده وعدم قدرته (كمؤلف وسارد) على تحديد مكان تواجد شخوصه (...) كما انه يبسط، بوضوح واقتضاب، كل موارد السخرية الممكنة.. و عن السخرية كنمط من أنماط التعبير يقول في كتابه « فن الرواية ? L?Art du Roman» (غاليمار- 1986): « إن الرواية، بالتحديد، فن ساخر: الحقيقة فيه مُضمَرة وغير منطوقة ولا يمكن النطق بها «.. لكن، هل من الممكن تحديد ما إذا كان «كونديرا» يستمتع حقا بانتصار التفاهة في روايته الجديدة هذه؟ أم هل هو غير راض عن ذلك؟ يبدو أن الجواب من الصعوبة بمكان.. فإذا كان « كل شخوصه في وضعية بحث عن البشاشة والابتهاج «، فإنّ صاحب رواية « الدُعابة - La Plaisanterie» (تمت ترجمتها إلى الفرنسية سنة 1968 بقلم «مارسيل ايمونان - M . Aymonin «، ثم من طرف «ميلان كونديرا» و «كلود كورتو ? C. Courtot « في 1980) لا يبخل ببشاشته ويوزعها بسخاء كما لو كان مدفوعا إلى ذلك بواجب اللياقة والمجاملة؛ لا يهمه إن كان هذا العصر قد فقد روح الدعابة؛ بل يجد في ذلك مصدر تسلية ويُهدي قارئَه احتفالا بالذكاء ورواية جديدة تتظاهر بالخفة والرعونة لكي تُحلِّق عاليا... حياة في الظل وكتابات تحت الأضواء.. عُرف عن «كونديرا» كرهه الدائم للاحتفال بذكرى عيد ميلاده.. فهو مثل «دي أَرديلو»، أحد شخوص روايته «احتفال التفاهة»، يَحذر الأرقام وما توحي به من «خجل واستحياء إزاء الشيخوخة».. لكن، هل شاخ فعلا هذا الكاتب التشيكي الأصل و الفرنسي الجنسية (منذ يوليوز 1981) ؟ هيأته الأنيقة وقامته الطويلة توحيان لمن يراه يتجول في حيه بالمقاطعة السادسة بمدينة «باريس» ، بدوام الشباب لديه .. فهو وَصُول ومُتفتح حينما يرتاد حانة «اللوتيسيا» لاحتساء «الفودكا»، مشروبه المُفضل ؛ يتحمس في الحديث عن الموسيقار التشيكي «ياناتشك - Janacek» وعن المكانة التي يحتلها التركيب الموسيقى في أعماله ويعرض ، بابتسامة غامضة، آخر رسوماته التي تصوِّر كائنات مطاطية نصفها قردَة ونصفها الآخر انسان .. ولعل السر في دوام شبابه هذا هو نمط عيشه والنظام الذي يتبعه بنجاح: الكتابة والرسم والدعابة صحبة زوجته والسفر بعيدا لاستنشاق هواء سواحل بحر «المانش» للاحتماء، على وجه الخصوص، من تلوث الإعلام ووسائطه.. ف «كونديرا» قرر منذ صدور كتابه « فن الرواية «، أي منذ ما يناهز ثلاثين سنة، عدم التحدث علانية أو إجراء حوارات صحفية مُبرراً ذلك، في رأيه، بكون الأعمال والمؤلفات وحدها تهم، وليس الأشخاص.. فهو، مثل «فولكنر»، يحلم ب «إلغاء الكاتب كشخص» ، وذلك لكي «يتمّ حذفه من التاريخ الذي لن يحتفظ بأية أثار سوى الكتب المطبوعة .» .. لكن هذا الصمت هو الذي جعل منه في 2008 هدفا سهلا حينما نبشت مجلة تشيكية في وثيقة مؤرخة في 1950 توحي بأن «كونديرا» قد يكون وشى آنذاك بأحد مواطنيه فكانت النتيجة أن حُكم على هذا الأخير بالسجن .. فتبنى عدد كبير من المؤرخين والكُتاب القضية من أجل الدفاع عن الرجل وعبّرت الكاتبة «ياسمينة رضا» يومها عن رأيها في جريدة «لوموند» (18 أكتوبر 2008) قائلة « بإننا نغفر بصعوبة لإنسان كونَه كبُر واشتهر.. لكننا نصبح أقل استعدادا من ذلك حينما يكون هذا الشخص صموتا.. ف «كونديرا» لم يدْعن أبدا لأمر أو إيعاز ضمني يُراد به تحويل الكاتب إلى قائد أو فيلسوف أو مؤرخ أو ، بشكل أكثر إيذاءً وضرراً، انسانا مَدينا تجب محاسبته «.. إلاّ أن «كونديرا»، رغم تلك الظروف التي مزقت قلبه ، لبِث لوحده متمسكا بصمته في عزة نفس.. ثُم إن ما يزيد في تبرير وتفسير هذا الصمت هو تلك العادة الآتية من أمريكا والتي أضحت هوسا يقضي، كما يقول «كونديرا» في كتابه « فن الرواية»، « بإعادة كتابة كل الحوارات والمقابلات الصحفية (...) وسيأتي يوم، يتابع قائلا، تصبح فيه كل الثقافة منسية ومطمورة بشكل تام بسبب إعادة كتابتها «.. ليس هناك إذن سوى المصدر والمَعين المتجسد في الأعمال والمؤلفات.. لكن، أيٌّ من هذه الأعمال يستحق الاهتمام؟ تلك التي كُتبت باللغة التشيكية أو تلك المكتوبة بالفرنسية؟ لقد غيّر «كونديرا» لغة الكتابة؛ مثل «كونراد» و «نابوكوف» وهكذا اصبحنا نتحدث عن « المرحلة التشيكية « لديه (ابتداء من مجموعة «غراميات مُضحِكة - Risibles amours « إلى رواية « الخلود ? L?Immortalité «) وعن « المرحلة الفرنسية» (ابتداء من رواية « البُطء - La Lenteur « - غاليمار- 1995) .. ولتفسير ذلك، يقول «فرانسوا ريكارد»، الذي أشرف على إدارة وإعداد المُجلدين المُخصصين ل «كونديرا» ضمن موسوعة «لابلياد» بأن « مجموعة «غراميات مضحكة» و رواية « الدُعابة - La Plaisanterie « هما العملان الوحيدان، من بين كل ما كتبه المؤلف باللغة التشيكية، اللذان نُشرا على أرض تشكوسلوفاكيا في أواخر الستينيات (1963 و1967 بالتتالي).. ولقد تعرضا للمنع ثم فُقِدا ولم يظهر لهما أثر لمدة تناهز عشرين عاما.. أما بالنسبة للروايات الخمس التالية (*) فلم يكن لها قط وجود بتشكوسلوفاكيا قبل سقوط النظام الشيوعي هناك؛ إذ لم يُكتب لها أن تر النور إلا بفضل الترجمة.. من هنا تأتي هذه الوضعية الغريبة لنصوص بدون مرجع أصلي معروف ومؤلف يكتب بلسان يُعرف عنه مسبقا أنه لن يكون اللغة التي سيُقرأ بها..» .. وإنّ ما لم يتغيّر لدى «كونديرا»، مقابل كل ما ذكِر، هو إعطائه مكانة وأهمية للوضوح والاقتضاب في كتاباته أياً كان جنسها: رواية أم دراسة نظرية أم نصا مسرحيا.. و لقد سبق له أن صرّح قائلا في هذا الصدد بأن لغته تتوخى البساطة والدقة وتكاد تكون شفافة؛ ويتمنى أن يكون كذلك عبر كل الألسن واللغات.. ومن هنا تأتي تلك العناية المفرطة التي يوليها لترجماته، إذ أنه ينكب بلا كلل على مراجعة وتصحيح بعضها إلى درجة أنه يفعل ذلك مرارا وتكرارا وعلى مدى عدة أعوام في بعض الحالات مما أعطاه أيضا وعيا مبكرا بكون أعماله ليست مرتبطة بلسان مُعيّن.. ف «كونديرا»، كما يقول «فرانسوا ريكارد»، واع بالطابع «العبر - لسني» لفنه.. وتُعتبر هذه التعددية الألسنية لأعمال «كونديرا» حالة فريدة في الأدب؛ كما أن سيولة نتاجه الأدبي هذه لا تعطي، عن قصد، أية خلاصة أخلاقية؛ بل تعطي امتيازا للشك والذكاء والثقافة وأيضا للرفض الجاد واللذة والحرية؛ مما يُفسِّر بلا شك نجاحه وتصاعد أرقام مبيعات بعض كتبه ويُعطي شرحا لكون «كونديرا» قد تُرجِم إلى ما يناهز ثلاثين لغة وقُرأ من طرف جميع الأجيال ويمشي على خطاه مؤلفون شباب من كل أنحاء العالم كما عبّر عن ذلك الروائي البريطاني «آدم ثايرويل» مُعتبِرا بأن «ميلان كونديرا» أب روحي له فيما يخص الكتابة الروائية وأن كتاب «فن الرواية» قد غيّر حياته... ? هوامش: (*) La Vie est ailleurs,1970 ? La Valse aux adieux,1976 ? Le Livre du rire et de l?oubli,1979 ? L?Insoutenable légèreté de l?être,1984 ? L?Immortalité,1990 وكلها عن دار «غاليمار» بتصرف عن جريدة «لوموند»