الكِبارُ ليسوا حطباً يُقْتَدُّ من الدهاليز السفلى لغابة المجتمع السوداء، لإطعام نار الإشاعة؛ بل هم الذين يحولون الإشاعة المغرضة مهما استطالت بأسلاك ألسنها الإذاعية في الآذان وانمسخت بكل الأقنعة الجوفاء، إلى مادة أدبية قد تصيب الجماجم الصغيرة في ماكنتها الاستعارية الموقوتة بالسخرية، بذات الهشاشة التي في جماجم الأجنة؛ لذلك نفخ الكاتب التشيكي الكبير «ميلان كونديرا» المقيم في فرنسا، كل رماد التهم التي حاولت أن تطمره في فحمها البارد، عرض الرياح، وعاد إلى خفة كائنة غير المحتملة كي يتسنم الملاذ الجمالي للكتابة، بإصدار عمل جديد آثر له اسماً التئامياً هو: «لقاء» (دار غاليمار، 240 صفحة، يصدر اليوم الخميس 26 مارس 2009). أما التهمة التي استنفرت كل هذا النحل من الأسئلة في قفير الأوساط الثقافية العالمية، فتوجز في بضع كلمات: ميلان كونديرا، وشى في شبابه، بأحد الرفاق بالجامعة؛ ولكن - حسبما سطر جان بول أوتوفين في عدد 23/3/2009 من مجلة لوبوان الفرنسية - لم تستثر مؤلف «السخرية» كل الإتهامات، بل رد عليها في كبرياء وسخرية أيضاً، بإصدار كتاب جديد وسمه ب «لقاء». كان يمكن لكونديرا مثل أي نجم، أن يستدعي التلفزيونات، والمراسلين الصحافيين، والقضاة، والشهود؛ وكان يمكنه أن يسافر إلى براغ ليستنفر الجماهير، ويقصف الرقبة في خمس دقائق للكلاب المحليين الذين ينبحون دون أن يستطيعوا عضاً، مُحَمِّلينَهُ دونما أدلة، تبعة القضية القاتمة والمتمثلة في «الوشاية» التخييلية التي تعود إلى الخمسينيات؛ كان يمكنه أن يغتاظ ويُرْعد، ويمنح صورته (الفوتوجينيك) إلى مئات كاميرات المهرجانات العالمية، لكنه آثر ببساطة أن لا يفعل، لأن استراتيجية كونديرا، كانت دائماً هي الإدبار عن كل خصام، والانسحاب عن الغوغائية، والصمت بدل الضجيج. لقد لقحه التاريخ مبكراً، فكان فيه دائماً شيء من «بارتلبي» البطل الأسطوري للكاتب «هيرمان ميلفيل» الذي يكتفي بالهمهمة حين يريد أن يشرح فكرة، قائلا: prefer not to... IWould كان كل شيء بالنسبة لكونديرا، سؤالا بسيطاً عن الأسلوب والأخلاق: فهو لم يرد لكبريائه أن يتخبط في الافتراء الذي خدم محرري المجلة المدعوة سيئاً (Respekt) والتي تتغذى من أرشيفات البوليس الستاليني؛ ولا غرابة أن تتهم كونديرا، بأنه وشى برفيق له في الجامعة. ورغم أن هذه القضية قد تكون كلفته عدم حصوله على نوبل الآداب، فالأمر في العمق ليس خطيراً؛ بل لم يستحق أي قلق يؤثر على عاداته الكامنة في: الموسيقى، الحرمان من الإعلام، القراءة - الكتابة، الصداقات المختارة، والنظر المسلي إلى عالم تخترمه الرداءة (kitsch)، والعشاء يومياً مع زوجته بيرا الجميلة في الصالة الخلفية لمطعم حيه.. بل إن كونديرا ينشر أيضاً هذه الأيام كتاباً حتماً سيرصدون فيه، صدى هذا الجدل المستشيط، ولكن دونما جدوى، لأنه آثر ل «حياته الحقيقية» أن تقيم بين رابلي، كافكا وفليني، بين موزيل ومالابارت، بين براغ ولانفرانت ومارتينيك الناعمة. ولاينسى «جان بول أو توفين» الذي استبق صدور مؤلف كونديرا بالكتابة عنه في مجلة «لوبوان الفرنسية» أن يحاكي بعضا من السخرية التبكيتية للكاتب التشكيلي، فيجزم أن كونديرا يتسلى عبورا، بتفكيك الميكانيزمات العقلية والاجتماعية للنميمة والرعب، والعاطفة المصطنعة للغباء. ذلك أنه من النادر أن نجد في هذا الزمن الردئ، كاتبا غاية في التماسك وليس متفائلا!. يورق هذا الكتاب الجديد لكونديرا بحوالي ثلاثين مقالا (منقحا أحيانا)، وهو عمل ينصرف عن سجلات سبق استكشافها في فن الرواية. هنا نبصر كونديرا في مصهره الحديدي. بين أنداده، في سجال مع الأسلاف المشهورين؛ (بروخ، نيرفال، ميلوز، هرابال...) ومع معاصريه؛ (فوينتس، شاموازو، سكفوركي، غومبرويز...)، ومع موسيقييه؛ (جاناك، شونبيرغ، كسيناكيس...)، ومع رساميه ؛ (باكون، ماتيس...)؛ مع هؤلا وعبر هؤلاء، يتأمل، يختبر، يستطرد، يتفحص. إنه رجل تقني يتحدث بكفاءة مع الزملاء، مما استورق طبعا، كتابا ليس بالطريف جدا ولكنه يستثير الضحك العاشق، وأقل نحتا من الكائن الذي لاتحتمل خفته؛ إن يومية هذه السفينة، تبدي لنا كونديرا المتربص، الذي يقوم بدورية في أعمال المعجب بهم، من أجل استثارة طرائد الأجوبة عن أسئلة ما فتئ يضعها من مثل؛ لماذا أبطال الروايات الكبرى؛ (فالمونت، رجل بدون قيمة، الدون كيشوت، السارد البروستي، إلخ.) لم يكن لهم أطفال؟ . متى، وكم مرة، مارست آنا كارنينا الحب مع فرونسكي؟. لماذا يلح مؤولو بريخت كثيرا على إفراطه الارتيابي في النظافة؟ لماذا اعتذر أراغون لأنه روائي؟. في أحد نصوص الكتاب، يجيب كونديرا سلفا، نماميه التشيكيين بالسؤال: ماذا لو كان المنفى بالنسبة لكاتب، أحد أشكال الحرية؟.. وماذا لو لم يكن أي شخص «ملكية لأمته ولا لغته»؟. نفهم إذا أن هذا الكتاب، هذا «اللقاء المتعدد» ليس في الحقيقة سوى طباق حاذق لكل عمل كونديرا؛ فقد أوضح بمائة طريقة، أن الفن، ليس تبعية للأخلاق، أو السياسة، وأن ثمة المضحك في الغياب العام للمضحك؛ وأن الكاتب الحقيقي، صديق ل «غير الجِدِّي» وللجمال الذي هو «المنظف من الوسخ العاطفي» ، وينتهي كل هذا بأن يرسم في العمق، بورتريها وفيا، لكونديرا المتعذر، حتما، استرداده من أجل غاية.. أو حماسة قطيعية!.