مهما طال تنقل الروائي والدارس التشيكي الأصل ميلان كونديرا بين أروقة الكتابة الروائية،مجترحا نصوصا تأخذه من زمن المنفى والغربة إلى زمن الحياة المتجددة في قوالب غرب الحداثة الذي احتوى معيشه وتجربته الثقافية،إلا ووجدناه يعود إلى المنبع الثر للدراسات والتأملات التي ما انفك منذ بحثه الأم:» فن الرواية»(غاليمار،1986)، ثم الموالي له»الوصايا المغدورة» (غاليمار1993)، مثابرا بدأب،ويتخذها الواجهة النظرية والمختبر الفكري للسرد التخييلي الذي أخلص له، بين ما هو مكتوب بلغته الأم:«الدعابة» (1967) أو ما أضحى ديدنه منذ انتقل إلى الكتابة باللغة الفرنسية التي احتضنته،وأصبح من مواطنيها، لنذكر على سبيل المثال شهيرتاه:«خفة الكائن اللا تحتمل» (1984) و«الهوية» (1998). وإن كنا معه قد اعتدنا على هذا التراوح بين النظري التأملي، والسردي التطبيقي، لو صح، يظل المتبعون لنتاج هذا الكاتب الفريد يفتقدون غياب أو تأخر أحدهما قياسا بظهور الثاني، أو يبحثون عن صدى هذا في ذاك، لأنهما فعلا نتاجان يتصاديان، ويتلاقحان حد أن يسأل كل باحث عن المصدر الأصلي، أو أين يوجد المنجم الأول للكاتب التشيكي الفرنسي. الحق أن كونديرا لا يحس بأي ورطة هنا خلافا لمن عاكسوه طويلا بالأسئلة طوال مساره الأدبي، ومثلهم ممن يحلو لهم ضبط الكاتب في خانة مجمدة مستكثرين عليه حرية ونبوغ التنقل، بل الترحال بين ألوان شتى من الكتابة، منها الدراسة الموسيقية والتعليق على نصوصها/ألحانها بثقة ومصطلحات العارف لا الهاوي، أوالمتطفل العابر،فالرواية والموسيقى والتاريخ وإيقاع الحياة بتقلباتها،كل هذا عنده نص،شأن ما عدّه رولان بارت الذي فكك الدرس العادي للأنواع الأدبية، مبتدعا مصطلح النص بصيغة التكوين والفهم والتقويم. ومع كونديرا بالذات يصعب قراءته في واجهة واحدة، أو من مدخل نصي مفرد، فهو صاحب القلم المركب،وإن نحن ركزنا على نصوصه الروائية خاصة سنجد،بل من حقنا اعتبارها في كثير من تجلياتها مضمارا لتطبيق قراءات ونظرات له في حقل الرواية، لنقل بالدرجة الأولى متن الرواية الكلاسيكية وزمنها السيد هو القرن التاسع عشر،المتسلسل عن نصوص آباء سابقين يعرفهم جيدا، أعرقهم رابلي وثربانتس، ولابأس بديدرو في شجرة الأبوة. ولا أرى غضاضة من القول نتيجة متابعة منتظمة لأعمال صاحبنا أني أجد جهده وعطاءه أفضل وهو ينجز حفرياته في الحقل المذكور،يفعل ذلك بثقافة موسوعية،واطلاع شمولي بلا ثغرات قط،وبحس حضاري تاريخي،يزاوجه ذوق يتحسس جلد النص الناعم بقدر ما يكون قد اشتبك بعظمه وسرى في شريانه،إن وجدت طبعا. رأي لا أبنيه في إطار المفاضلة بين متنين إواليات اشتغالهما مختلفة جدا،ومنحاهما متباعد بين التعيين والتقرير والتحليل، وبين الإيحاء والتلميح والتمثيل،وإنما أساسا من كون هذا الأخير يكاد يتحول عند كونديرا إلى مختبر نصي لفحص واستجلاء جملة من عناصر ومكونات السرد التخييلي،خاصة منه الكلاسيكي الراسخ ولإجراء ما يشبه الافتحاص (Audit) لضبط كيف توجد البوليفونية (تعدد الأصوات) وحيث تقوم الأسلبة والتهجين، في السرد الحديث،وما هي مظاهر التشظية والتفضية، وما شاكل.. زعمنا أن الروائي، وهو يحتاج لا شك،إلى البضاعة النظرية لا يمكن أن يبدع حقا وهو يرزح تحت عبئها، أو ضرورة على هدي تعاليمها، وهذا عندي مأزق كونديرا،الذي،رغم كل شيء، لا يفوتني نص من سرده، وأختلف مع الفرنسيين الذين لا يحبذون تنظيره، أجد فيه، إلى جانب ثقافة الناقد الأدبي الحصيفة،ومنهجيته السديدة، المتعة التي لا غنى عنها للأدب، مبدعا أم مقررا، هي ذاتها ما عمّده بارت اصطلاحيا ب « متعة النص». أخيرا أصدر كونديرا كتابه المعنون: « Une rencontre»(غاليمار،2009)،عنوان لا يتأتى ترجمته إلا بعد الاطلاع على مضمونه شاملا ليحيل،حسب هذا المضمون إلى عنوان: «لقاء»، وسنعود لهذا لاحقا. قبل ذلك نريد تسجيل ملحوظات أولية في المدخل: تنتمي كتب كونديرا السابقة،من فئة الدراسات،إلى مصنفات مختصة بمواضيع محددة، ومسائل نظرية يجري فحصها على ضوء نصوص روائية،لأن السرد هو مجال درسه بالدرجة الأولى،وإن اختلط باهتمامات أخرى كالفلسفة، والإيديولوجيا،بحكم تربيته الشيوعية السابقة والمنبوذة،وكذا شغفه بالموسيقى،السمفونية أساسا. أما العمل الجديد فهو،وإن راعى تسلسلا مفهرسا،فإنه لا يمضي على سنة السابقة،ونجده يتراوح بين البحث المنهجي منصبا على قضية محددة بتوثيق وسند،وبين الارتسامات،حيث تتدخل الذات في الفهم والذوق. بالطبع فإن المزج بين هذين النهجين،وتقاطعهما أو تداخلهما أحيانا لمن شأنه توليد طريقة مستجدة في القراءة،ومن ثم في التحليل،تطبعها شخصية الباحث،لتصبح عَلَماً عليه،ما لا يمكن بلوغه في ظننا إلا لمن أوتي عمر تجربة بحثية ونقدية،ووصل إلى مدرك التمثل والفطنة حد البداهة،لا يملكها إلا الحكماء، ولكل ميدان حكمته. ليس الارتسام،إطلاق الأحكام،ولا الكلام على عواهنه،بل هو نوع من القول يأتي على السجية، أو عفو الخاطر لحد أنه يوحي لقارئه أنه غير مفكر فيه، بينما تم تعمقه، وتدبر الرأي فيه إلى درجة تخفي كل عسر، وتستبطن التعقيد، ليعطى إلى القارئ لقمة مستساغة. إن شئنا هناك خاصية أخرى تميزه عن الكلام من ضرب التحليل والنظر الفاحص ميل قائله إلى تذويته على سبيل الذوق الشخصي، ووجهة النظر التي لا يلزم أحدا بها،ويخضعها في الأخير لتأوله الخاص. إنه سجل من القول يعيدنا في الحقيقة إلى البساطة المحنكة،القائمة على المزاوجة بين الملكة والفطرة،فهذه ذوق واستعداد،والأولى مثلها وتزيد عليها بالاكتساب وشحذه ليتحول إلى أداة للتلقي والأداء،وليس أفضل من ابن خلدون تعريفا لها ووقوفا على سرها، ويقدم لنا كونديرا في كتابه الجديد تعزيزا لاستخدامها لدى كل باحث وأديب متذوق. وكما ألمعنا فإن فهم العنوان متأت من استيعاب المضمون الشامل للعمل، و»لقاء» يحيل أول مرة، وعلى سلم الترتيب، إلى العلاقة، إلى نقطة التواصل بين الكاتب، بين المؤلف والقارئ، تلك التي تتم في مساحة قراءة محددة،وحول فكرة أو رؤية بعينها. لنعتبر أن قيام هذه العلاقة، وإبرام عقدها الضمني، ثانيا،هو ضمان لوجود الكتابة،وتوكيد على فاعلية الأفكار أو التعبير. ذلك أنه لا وجود لكتابة أو قراءة تتم من جانب واحد، أو هي ستشكو إما النقصان أو البوار. لنسم هذه الصلة،اللقاء،بالعلاقة الحوارية، حيث يستثير النص لدى قارئه فضولا أو تجاوبا، أو قلقا ما،كما قد يستفزه وأحيانا ينفره منه، أما اللقاء الخلاق فهو حصول جاذبية الاشتراك في محور فهم وذوق وخيال،اللقاء المولد للأفكار والثقافة المترسبة، وشحذ الذاكرة، ومن ثم صنع أبعاد غير متوقعة للنصوص؛ إنه بمعنى ما تاريخ آخر للأدب وللتأويل. ليأخذ اللقاء بعد ذلك معنى التوسط بين كاتبين أو ثقافتين،فكونديرا يصنع صيغة ما أسميه «أنا في أو بين آخرين»،بذا يصبح حديثه عن غيره تنفيسا وإعلانا لخطاب الذات،ما نستجليه في أكثر من موقف. فلو أخذنا،مثلا،ما كتبه عن مواطنته التشيكية فيرا لينارتوفا لوجدناه يمس الوتر الحساس لوضعه الشخصي في المنفى،فهي تعتبر المنفى،حيث تعيش في فرنسا، «ذهابا نحو مكان آخر، مجهول، ومفتوح على كل الاحتمالات»، وتشدد على حرية الكاتب» الذي هو قبل كل شيء إنسان حر، وضرورة الحفاظ على استقلاله ضد كل إكراه يمر قبل أي اعتبار آخر» ولذلك ترى لينارتوفا أنها اختارت» المكان الذي أريد العيش فيه، وكذلك اللغة التي أريد التكلم بها(...) إن الكاتب ليس سجين لغة واحدة». يعلق على كلام مواطنته بأنها «محقة ألف مرة، وإلا كيف نفهم الواقع الصادم شكلا المتمثل في أن لا أحد سارع من كبار الفنانين بالعودة إلى بلده بعد نهاية الشيوعية». غني عن القول أنه يعني حاله، هو الذي وصل إليه عتاب أبناء البلد، كما صارع طويلا الذين لم يفهموا انتقاله للكتابة بلغة ثانية، الفرنسية هنا، بل وبعض الوسط الفرنسي الذي لم يستسغ تحوله إلى البحث الأدبي إلى جانب الرواية. إلى جانب ما سبق «لقاء» معنى رصد واستكناه لقاءات تمت بين أدباء وفنانين، وحصل فيها تجاوب أو تقاطع رأي أو تغاير، وهي مختلفة ترسم مسارات أعلام وتيارات أدبية كبرى، من قبيل السوريالية، (اندري بروتون) والزنوجة (إيمي سيزير)، وهو حوار أنجب تحولات عجيبة، ومتناقضة أحيانا، كما الشأن بين تأثير بروتون في الوسط الأدبي، الشعري خاصة لجزيرة المارتنيك من خلال مجلتها المؤسسة» تروبيك»، ونزوع الشعراء والفنانين هنا إلى الشيوعية، والنعرة الوطنية عموما برمزها التاريخي سيزير، أبي الزنوجة، بكل المعاني. يتكون الكتاب الجديد (204ص) من تسعة أقسام، يستقل كل قسم بموضوع، أو وقفة تأمل، وأحيانا لمحة دالة. والنصوص المنشورة إما حديثة تماما، أو أعيد تحديثها لتنسجم مع الرؤية الكلية للعمل بالفهم المشار إليه أعلاه. ولتوضيح أكثر يضع المؤلف هذه العتبة... لقاء بين تأملاتي وذكرياتي (الوجودية والجمالية) وأهوائي القديمة (رابلي، جاناسيك،فلليني، مالابرت). ولا نرى هوىً أشد علوقا بكونديرا من رابلي،الذي عده دائما من أقوى أعمدة التأسيس الروائي، تحمس له في دراساته السابقة إلى جانب ثرفانتس، ديدرو، دوستويفسكي، وفلوبير، ليلحق بهم في القرن العشرين حداثيون مثل كافكا وبروست، سيمد الحبل ليصل به إلى أمريكا اللاتينية مع ماركيز، وكارلوس فوينتس. هوى رابلي، للمرة الألف، مصدره ما يمثله نصه المؤسس:»غرغانتوا بانتاغروييل» بوصفه، حسب تعريفه:»لحظة معجزة، حيث ثمة فن قيد التشكل ولم يتحدد بعد بضوابط» فهو رواية حافلة بإمكانات تفتح هائلة، يؤمن بها كونديرا لنفسه، بالطبع، يجترحها في إنتاجه، وهو بذا يرد على جمارك الروائية، يسميهم المراقبون الجماليون. يمثل عنده رابلي،أيضا، وأساسا دائما أهمية توفر السرد على المشهدية الاحتفالية، ما نعته باختين عنده بالنزعة «الكرنفالية»، وما يتوفر عليه من أجواء الإثارة والألاعيب الفنية، في قلبها إثارة المتعة والفكاهة، هو في عرفه «رائد ومؤسس اللا جدي». يحرص صاحب «كتاب الضحك والنسيان»كثيرا على العنصر الأخير، واضعا إياه في صدارة المعايير المحكمة للسرد الكلاسيكي، نعني الذي حسم فيه تاريخ الأدب. إن الإلحاح على تذكّر رابلي في كل حين هو، من نحو آخر، تذكير برجحان هذا السرد، وبالمقابل تنقيص من نتاج عائم في الحاضر ينتسب إلى الرواية بعنوانها لا أكثر، وغمز من قناة فصيل من الحداثيين الجدد. في هذا المنحى يحاول القصاص لأسلافه، وهو يستعيد مجد أناتول فرانس، ثم أفول نجمه في عيون الكتاب المعاصرين، هؤلاء الذين وضعوا ما يسميه ب»اللوائح السوداء» يدرجون فيها من يرون أن الموضة تجاوزتهم. والمعاصرون يوجدون في كل وقت،إنهم الطليعة قبل الحرب العالمية الأولى، منهم أبولينير صاحب البيان الذي وزع فيه الألقاب على الأدباء، بين «الورود» و»البعر» هذه لدانتي، شكسبير،تولستوي، وإدغار بو، وبودلير، أيضا، أما الوردة فله أولا، لبيكاسو، وسترافنسكي. فعل أبولينير هذا وهو لا يعلم أن تيودور أدورنو قبله كان قد وسم سنة 1946 شونبرغ بالوردة بينما قذع سترافنسكي علنا بالبعرة. لا يملك كونديرا إلا التعجب أمام النسيان السريع لجيل ما بعد أناتول فرانس للرجل الذي يقول إن تشييع جنازته امتد عدة كلومترات، وهو يقصد جحود السورياليين الذين هجوه بعد موته، بل وبول فاليري الذي خلفه في كرسي الأكاديمية الفرنسية،إذ عدّد جميع مناقبه ولم يسمه ولو مرة واحدة. ترى لماذا؟ ولم هذا التركيز على فرانس؟الحقيقة أنه انتصار للرواية بالدرجة الأولى، فالمناهضون لصاحب» الآلهة عطشى» كلهم شعراء (أرغون، بروتون، إلوار، سوبو). ويلاحظ أنها المرة الأولى،مع خطاب فاليري،يحدث تكريم للرواية في مجمع الخالدين،الذي لم يكن يعتبر الروائي أهلا معنويا لتمثيل الأمة. ما كان يتطلبه المجمع من أعضائه لا يتناسب مع شخصية الروائي، الغامض، الساخر،، ذاك المتستر خلف شخصياته، وبالتالي يصعب ضبط اقتناعه أو موقف له،حتى ولو وجد روائيون من فئة الكبار،نظير توماس مان،غوركي وسولجنتسين. هذا ما يريده من وراء إثارة التنكر لأناتول فرانس في الظاهر، في ما يترك الجوهر للنهاية، إذ يتعلق الأمر بسلسلة الأحكام السريعة أو المتداولة في الحقل الأدبي الثقافي،يقول بالحرف: «إننا نتحدث جميعا عن تاريخ الأدب، ونعلن انتماءنا له، موقنين من معرفتنا به،إنما ما هو عمليا تاريخ الأدب في الذاكرة المشتركة؟ إنه نسيج من خِرَق مرتقة،اتخذها، بصدفة محض، آلاف القراء لنفسه. [لذا] فتحت السماء المثقوبة لمثل هذه الذاكرة فإننا جميعا واقعون تحت رحمة اللوائح السوداء، لأحكامها العسفية وغير الممحصة»(74). في هذا المصنف نلاحظ ربما للمرة الأولى أن كونديرا يوسع «التراب الوطني» للرواية، على الأقل كما يعترف بها هو،وفي ضوء نصوصها الأمهات استخلص مفاهيمها ونظم قواعدها. لنشر،أولا،إلى الاهتمام الخاص الذي يوليه لروائيي أوروبا الشرقية،لا من باب الحنين إلى الوطن الأصلي،وإنما في عودة للوعي تكسر المركزية الروائية الغربية التي ساهم هو نفسه في ترسيخها،إذ باستثناء كافكا،الذي كتب أصلا بالألمانية،يبقى الشرقيون محجوبين. التذكر ذاته يوليه لفناني غفلت عنهم هذه المركزية،في بلاد ما وراء البحار التابعة لفرنسا، بالوقفة عند الرسام الاستثنائي إرنست برولور، يلتقي معه في جرح الانتماء أو اللا انتماء، المتمثل في ثقافة زنوجية تنعكس على اللوحات في صورة أجساد معلقة في الهواء بلا رؤوس،في محيط آهل بالموت وألوان الطبيعة،حيث الهلال معلق في شكل قارب مبحر، والناس ما زالو،خلافا للغرب،يرفعون رأسهم نحو السماء. ثم هذا اللقاء الفريد مع الكاتب المارتينيكي الآخر، باتريك شاموازو، المختلف في نسيج الرواية الفرنسية التي بجلته بجائزة الغونكور، والذي غذى هذه الرواية أو أعادها إلى جذور الشفوية والحكائية الأصلية،تلك التي لما قبل الكتابة ومنبع المحكيات،وفضاء الاحتفالية، نعود معها، طبعا،إلى رابلي جد كل روائيي العجب. ما أكثرها لقاءات كونديرا الجديدة، المتميزة، في النهاية، بكونها تلتقي حول جوهر الأدب انطلاقا من تفاصيل وعلامات فارقة لا يقتنصها إلا أديب فَطِنٌ ومجروح مثله. منها جراح الصداقة،هذا الموضوع الأثير،والمعضل،أيضا،في عالم الأدباء والمثقفين، لنتذكر المجال الذي يتحرك فيه أبطال دفيد لودج،هؤلاء الأساتذة الذين يقضون وقتهم في الغمز واللمز وصنع المكائد،ومن خلالهم ينفضح الجو الأكاديمي عبر المشاعر الملتهبة والمتطاحنة للنفس الإنسانية. وكونديرا الذي اصطلى بنار هذه المشاعر منذ قرر الإقامة في فرنسا،واتخاذ وضع جديد بدءا من قرار الانتماء إلى فضاء الأدب الفرنسي،صنيع تودوروف وكريستيفا قبله،وانتهاء بقرار اللاعودة، والخصام مع الفضاء المذكور حول أكثر من موقف، روائي وإيديولوجي؛ لم يجد بدا للتنفيس عن هذا الألم فعقد فصلا خاصا في الكتاب بعنوان: «الصداقة والبغضاء»خصصه لميزان الصداقات من كل نوع،مظهرا أن الخلاف الجوهري يقع في منطقة الذين يعتبرون العمل أو الكفاح السياسي متفوقا على الحياة العملية،على الفن، والفكر، والذين يرون أن على السياسة أن تكون في خدمة الحياة،والفن والفكر. هما من غير شك مشروعان وإن كانا غير متصالحين بالمرة. في هذا الصدد يستشهد بلقائين اثنين: بالعلاقة التي جمعت بين أرغون وبروتون،والخلاف اللاحق بينهما طبعا. في تواصله مع كونديرا، في سنواته الأخيرة، أبدى حماسه الكبير للرواية، اعتبرها ضرورية للحياة، تماما مثل الخبز، ومعه أحس الروائي التشيكي الأصل بأن خلاف مجنون إلزا مع السورياليين لم يكن سياسيا البتة،لكن جماليا، وهنا اكتشف ما وصفه بالمأساة المزدوجة لحياته، متمثلة في تعلقه بالفن الروائي،وصداقته لبروتون. كل شيء يهون عنده إلا الجرح الذي لا يلتئم للصداقات المنكسرة، ولا شيء أشد غباء من التضحية بصداقة من أجل السياسة أو بسببها، وهو ما لم يقترفه أبدا،وقبله الرئيس الاشتراكي فرانسوا متيران، الذي قامت عليه زوابع في نهاية حكمه بسبب وفائه لأصدقائه القدامى. هو الوفاء عينه الذي لمسه كونديرا في لقائه الثاني مع الشاعر المارتنيكي الكبير إيمي سيزير الذي روى له قصة علاقة الشاعر التشيكي فيتزلاف نزفال من أتباع الحركة السوريالية بزعيم الحركة ذات مناسبة في المارتنيك. يقول سيزير إنه تأثر غاية التأثر وهو يسمع بروتون يكيل أجمل المديح لنزفال الذي كان قبل سنوات قد انضم إلى الحزب الشيوعي، وبدوره احتفظ دائما لرائد السوريالية بعميق الود. الواقع أن كونديرا يتحدث، من وجه آخر،عن اؤلئك الذين، من غير أن يسميهم، طعنوه من الخلف، آخر طعنة اتهامهم له بأنه تعامل على عهد حكم دوبتشيك مع الأمن الخاص، من خلال واقعة مزورة لتسويد سمعته الأدبية،وهو أحد أساليب الستالينية،وهو وما يصفه كونديرا كأكبر صدمة في حياته،ونحن نستحسن أن ننقل إليكم الفقرة الأخيرة من هذا الحديث عن الصداقة والبغضاء، في هذا المشهد الواسع،المتلون، الفجائعي والمدهش، من لقاءات بين قطبي الإبداع والحياة، وفي كل لقيا ثمة حاجة إلى التفكر بعد أن تكون قد ُغصتَ في النزيف: « إن أشد ما صدمني يقول كونديرا في المحاكمات الستالينية الكبرى،هو البرودة التامة التي يتقبل بها رجال الدولة الشيوعيون الحكم بإعدام أصدقائهم. فلقد كانوا جميعا أصدقاء. أعني أنهم عرفوا بعضهم بحميمية،وعاشوا جميعهم لحظات صعبة،منها الهجرة، ومعاناة الاضطهاد،والنضال السياسي الطويل. كيف والحالة هذه استطاعوا التضحية، وبهذه الطريقة الختامية المهولة، بصداقتهم؟ إنما، هل كانت فعلا صداقة؟عندنا في اللغة التشيكية كلمة تصف هذه العلاقة،هي»Soudruzstvi»( Soudruh = رفيق)، أي» صداقة الرفاق»، تعني المودة التي تجمع من يخوضون النضال السياسي الواحد. وعندما يزول الإخلاص المشترك للقضية فإن سبب المودة يزول بدوره. إن الصداقة الخاضعة لمصلحة أعلى من الصداقة لا علاقة لها بالصداقة. لقد تعلمنا في زماننا هذا أن نخضع الصداقة لما نسميه بالاقتناعات. وحتى مع عزة الاستقامة الخلقية، نحتاج في الواقع إلى نضج كبير لنفهم بأن الرأي الذي ندافع عنه ليس إلا فرضية مفضلة،ناقصة حتما،انتقالية ربما، وقصيرو النظر وحدهم يجعلون منها يقينا أو يتخذونها حقيقة. وعلى خلاف الوفاء الغر لاقتناع ما،فإن الوفاء لصديق لهو فضيلة،ربما الوحيدة، الفضيلة الأخيرة. وإنني لأنظر إلى صورة روني شار، إلى جوار قصير هيدغر. الأول اشتهر[إلى جانب شاعريته العبقرية، طبعا]كمقاوم للاحتلال النازي.والثاني[ الفيلسوف الألماني الكبير] المذموم بسبب تعاطفه في وقت من حياته مع النازية في بداياتها. تعود الصورة إلى نهايات الحرب العالمية الثانية. ونحن نرى الرجلين من الخلف، والقبعة على الر|أس، واحد طويل، والآخر ذو قامة قصيرة، وهما يمشيان في الطبيعة. إنني أحب كثيرا هذه الصورة.». أما أنا، بعد الختام، فقد أحببت كثيرا هذا الكتاب، هذه القراءة التي تصنع مساحة إضافية، غير مرئية،بين النصوص، فوقها،تحتها،حيث تتم لقاءات مرئية وخفية،وتواطؤات فهم وتأويل،هنا حيث يلتحق المتلقي النابه بالكاتب،الشاعر الكتوم أو الماكر ليعلي صوته الخبيء، ويشعل النارفي الحطب والهشيم،باللغة والفِكَر،والأحاسيس،ومنها،أيضا،من الومض والعتمة، بين دهاليز النفس الخفية، الحافلة بالجراح الصامتة. الكتابة هنا تكليم للصامت، المتربص في كمون الذاكرة، مزيج ثقافي وشعري وملحمي وحياتي،وفجائعي، فإن عجنتَ هذا كله فاض في يدك وعلى لسانك، ليعطي كتابة أخرى،لذلك لا يسميها ميلان كونديرا،ولا تضع دارالنشر أي نوع على الغلاف،لأن المهم هو ما داخل الكتاب،والأهم هو حرية الكاتب. فمتى سنفهم هذا، نحن الذين نكتب كأنما تحت وطأة قوانين وأحكام عرفية تحسبا من قراء مفترضين،لا مبالين،سيرجموننا إن خرجنا عن الخط،خطهم هم بينما الأدب قويّ بنظامه،ومواهب أصحابه، وقدرة اللقاء مع الزمن في حديثه الجوهري،وجراحه النازفة. أقواها، بعد ما نكأنا،النسيان،أشد أعداء الإنسان، والكاتب طبعا. ذاك ما تعلمنا قصة تولستوي «حجي مراد»لم يتذكرها أحد في مجازر الروس ضد الشيشان، وحده خوان غاوتيسولو بعد مائة وخمسين عاما سيجعل بطل روايته:» حين يسقط الستار»[ حيث يجلس رجل وهو يتذكر زوجته التي ماتت البارحة ومقاطع من حياتهما،ومن حياته مع أبيه، والزمن هارب، ثم فجأة لم يبق شيء،أحد،هو العدم] يتجول حاملا القصة بيده، بينما سيسائله خالقه:»خبرني ما الذي تغير فوق هذه الأرض التي يقال إني خلقتها في أسبوع؟ لِمَ تستمر هذه المهزلة بلا طائل؟ ولِمَ يعاند الرجال في مواصلة النسل؟»جواب كونديرا هو أن» فضيحة التكرار تمحوها دائما فضيحة النسيان( النسيان،»الثقب الكبير بلا قاع حيث تغرق الذكرى»،ذكرى امرأة محبوبة أو رواية عظيمة أو مجزرة)».هو الشعور ذاته الذي يعتريه كأنه يحس باقترابه من هذا الثقب مع إعادة قراءة»مائة عام من العزلة»لماركيز،التي تقع هواجس أبطالها خارج زمن المركزية الأوربية، وربما خارج زمن بيئتها،أو في زمن مستقبلي؛ يقول إن» الكائن سيندمج فيه مع خلية النحل البشري» إنما الأخطر هي نبوءة نسيان الرواية:»يخامرني شعور بأن هذه الرواية، التي هي ذروة هذا الفن، لهي في الآن تحية وداع موجهة لعهد الرواية؟، فأي نذير!