خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا    الحكومة تصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    وفاة ضابطين في حادث تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمثيلات جديدة للقصة العربية
بين سحر مندور وشهلا العجيلي
نشر في العلم يوم 09 - 04 - 2010


1
سيلاحظ قارئ القصة العربية اليوم أن تبدلات عديدة اعترت بناءها وشكلها ومنظورها، وتحويرا، بل تحريفا في القصدية الواقعية المعتمدة منذ نشأتها الحديثة، وعلى أساسها نهضت وخاطبت القراء. سيلحظ أظهرَ التحولات في حجم أو كتلة النص، الذي لم يعد فضفاضا ولا طويلا، وغدا ضئيلا، مقتضب الصفحات، بصرف النظر عن ما إذا جاء أم لا متقشفا ومشذبا وفق مقتضى الحال. وإن الكم ليأخذنا بالضرورة إلى مساءلة النوع، وكأن هذا التقليص "التقزيم" وهو ينحو إلى تكييف للأدب مع حياة لم تعد تتحمل الطول والتمديد، يسائل في الآن عينه النوع الأدبي(= الرواية)، يناوشها ليناددها دون أن يقطع حبل السرة منها.
2
ليست الأنواع الأدبية نزوات، ولا الأشكالُ تقليعات لأمزجة الكتاب والفنانين،كما يخال بعضٌ، وإنما خضعت وتخضع دائما،إلى جانب الشروط السوسيو ثقافية، لحاجة توفير قوالب وأدوات أكبر من الزينة لتنضيد القول وإنتاج الخطاب. هذا ما يجعل نصوصا معينة ضرورية، تشغل موقعها الحاسم إن في تاريخ الأدب،أو التعبير عن حساسيات وبنيات عصرها، فيما تتهافت أخرى،لا تعدو مستوى الاستنساخ الفج. لذا لا قلق من الكثرة، مثلما هو بيِّنٌ عندنا في المرحلة الراهنة مع مزعوم رواية، وشعر،أيضا، فللفن دوما غرباله الناخل. ثم إن التحول إذا كان حتمية موضوعية، فإنه يستلزم في الفن انتقالات، إما هادئة، أو قطعية، وفي الأحوال كلها مشروطة بواقع شمولي، بصيرورة تاريخية، نفحص هذا بوضوح شديد مع مسلسل تكون الرواية الغربية في عديد أطوارها، وبدرجة أقل مع نتاجات محيطية لاحقة، منها الرواية العربية. فهذه الأخيرة إذ استعارت الشكل الأجناسي الغربي، سعت إلى التعبير ما أمكن عن خصوصيات محلية، وعن محتوى واقعي، هو الأنسب للجنس. لا عجب أن تأتي طولية، مركزية البطولة، متعددة الشخصيات، ثنائية الصراع، قيمها أخلاقية بالدرجة الأولى.
3
لاعجب في أن الرواية العربية، من هذه الناحية، واقعية بامتياز،فقد كان همّ روادها، ثم ُمطوِّريها،الإحاطة بمجتمعاتهم تصويرا وتشخيصا ونقدا،حول بؤر تبلور طبقات وفئات صاعدة وذهنيات ثقافية متجاورة ومتصادمة في آن. إنه التشكل الاجتماعي في تمظهرات متواترة ومفروزة، يناسبها السرد الطولي، بقدر ما تحتاج إلى استعراض طويل النفس، من نواح شتى. باختصار، هذا شأن ثلاثية نجيب محفوظ، ومدن الملح لعبد الرحمن منيف، اللذين كانا يعتبران الرواية مجتمعا نصيا موازيا، بصيغة العرض والتركيب، ودائما حول أزمات محددة تثوي خلفها قيمٌ معنية. لقد صنع أمثال هذين العملاقين الرواية العربية الكلاسيكية، في الزمن العربي الذي كان مهيئا ليكون عملاقا، مهادا للجماعات الخارجة من الإقطاع والاستعمار والاستبداد، ذهابا نحو التحرر والعدالة، وحق الرزق ثم كرامة الوجود بعد ذلك.
ولقد استمر هذا السير في هذا النهج بالحفر فيه عميقا،والتمدد طولا وعرضا،ما أعطى تمثيلات نصية، وتمثلات دلالية، أغلبها ذو منظور واقعي، أي لا يؤمن بالقطيعة الشكلية ولا
قلب مقاربات المعنى. أعتقد أن الرواية العربية جلها رواية تعلم، وسعي للقاء بقارئ وتكوينه.
4
لقد أدى الفشل في تحقيق تطلعات تلك الجماعات،امتدادا إلى انكسارات النفس ورجات الوعي، وقد تحول الجنس الروائي إلى محفل قولي وخطابي أساس،إلى ألوان من التغيير ضربت التماسك الشكلي والنمطية التصويرية، وهزت بدون رجعة كل يقين،بالأحرى نشرت رؤية سوداوية لا تستسلم للمعطى، والإيمان هارب منها مطلقا،لأنه لاشيء أمامها وحولها إلا التفسخ، من خلال واقع وقيم تتشظى يوما فآخر. لم يعد كافيا القول بأن مرجع هذا التكسير في الإيقاع والمنظور والمرجعية ككل هو هزيمة حزيران الشهيرة، مما يقيم علاقة ميكانيكية بين الحياة والإواليات السياسية. هذه الهزيمة إنما فضحت توافقات عسفية وسفّهت مقولات آلية عن مفهوم الأدب ودلالة الواقعية، وبينهما الجنس الأدبي الروائي بالشكل التقليدي الأقدر على التعبير عن الواقع (كذا) حسب أنساق فنية ودلالية نمطية غالبا. ما صنعته الهزيمة هو كشفها للمحجوب، المُمَوَّه، وكسر سطوة المتعاليات والكليات، إيديولوجيات وعقيدية، موروثة ووضعية وملفقة،بالتالي دفعها الكتاب والمفكرين إلى الإبداع والتأمل على نحو مغاير، وبالنسبة للرواية تحديدا فُتِح الباب مشرعا لضروب تجريب، هي المتواصلة منذ أربعة عقود، في البلاد العربية جمعاء،لا مصر ولبنان المستبدتين بمركزية واهمة، لا تنبس ببنت شفة أمام الأنوية المركزية الأوروبية صانعة الرواية الحديثة التي ترى أنها تصنع الصحو والمطر!
5
أخطر ما اهتز في النسق الواقعي التقليدي، شكلاً ورؤيةَ عالم،هو التداعي التدريجي لفكرة وصورة الجماعة (بعديد تسمياتها) لصالح ذات ما انفكت تتكون حلقة مفردة،بؤرة مستقلة بزعم أو حقيقة، لتصبح المرجع والمنظور،لا خلاص خارجها، والجاذبية باتجاهها، عبر عملية تذويت ما حولها، بإدماج الكل في مجالها،وإرساء عناصر اللاشعور والحلم والنسبية مداميك لبنائها. إن تحولا من هذا القبيل أنتج مباشرة تطويحا بمعنى البطولة ككل، وبمفهوم البطل خصوصا، بوصفه مكونا أساسا للقص التقليدي(غربيا وعربيا، إنسانيا عامة).
دعونا من فكرة الهامش، والأبطال الهامشيين، والبطل المضاد(L?anti- heros ) ولنتحدث عن الفرد الذات، كإبدال، كبراديغم مختص بموضوعه،هو موضوعه ( Objet ?Sujet).
يتطلب ذا كثيرا من الوعي، من غير شك، وعلينا أن نبحث عن درجة تناغم وعي انفصال الذات وإبداليتها،وهي في سيرورة التحول،لا إلى مرآة (رواية) ستندال التي تنعكس الحياة على تجوالها، إنما إذ تنعكس أنويتها بأطوار عيشها وزخم مشاعرها على مرآ تها هي تحديدا.
6
وعندنا أنه ليس تغيرا في الدرجة،بل في النوع،ولا بالإمكان الاستمرار في تغليط عملية التلقي، صنيع أغلب النقاد، إذ الأصح القول بأننا لم نعد إزاء الرواية نفسها التي قرأها، قبل ذلك كتبها الرواد،وسلفهم الواقعيون، سواء من حيث المبنى، أو المعنى أو المرمى. الأدق أن نعيّن اصطلاحيا ما أضحى إبدالا عند جيل مختلف للرواية، دون أن يعني هذا أن الجنس المعنيّ قد أصابه البوار،أو غدا متجاوزا(كذا)،فلا شيء يوجد دون أن يتسمى،حتى ولو تواضعنا على اسم مؤقت، ولغاية إجرائية بحت، تلائم مراد هذه القراءة. القصد أن كثيرا مما يتجنس منذ سنوات "رواية" هو تدبير لا تقرير، لعله يطاوع الناشر، ويتماشى مع انتظار القارئ (= السوق) وليس ضرورة مع جمالية النوع ونسقيته الخطابية. هناك من ارتأى أن يسمي كتابة تقع في تخوم القصة القصيرة والرواية،ولا تلتزم بمقتضياتهما،وتخرق المواثيق،
أو ترسل سردها أحيانا كيفما اتفق،"محكيات"(إدوار الخراط،)، ومن جهتي أسمي هذا الكتابة قصة بالمطلق لاعتمادها عنصر الحكي(Récit) تتعين به ولا تذهب بعيدا في غابة الرواية.
7
هي كذلك قصة بالتخصيص،لأنك ستلاحظ أنها على الأغلب مخصوصة بصاحبها، سواء تنزّلت مباشرة سيرة ذاتية،أو اقتبست من حياة مؤلفها،أو جعلت المحكي مداره وموضوعه ذاته. لا يذهبن الظن أن المقصود كتابة السيرة الذاتية،إذ النوع الأتوبيوغرافي موجود، مترافق في أدبنا تحديثيا مع السرد التخييلي، وهو بطريقة ما جزء منه، نحسب يحتاج إلى النظر إليه كذلك، خاصة ونحو السرديات يقر أخيرا بأن" أنا هو آخر" مع تداعيات الرأي.
و" الأيام" لطه حسين وحدها تصدع بحق في هذا المضمار، وإن كنا بحاجة إلى مزيد توسع.
والقصد مختلف كذلك عن كتابة تذكرنا بصاحبها، أو هو يسردها فيها على بيان ما اصطلح عليه ب "التخييل الذاتي" (L?auto-fiction)، فهذا نوع متفرع من الشجرة الأتوبيوغرافية، وبكل ما يتلاعب فيه مؤلفه، ويقيم من أقنعة ويحوك من أزياء ومناورات نحتكم فيه لا محالة إلى الشجرة. وعلى العموم، فقصة المحكي قد تكون بعض هذا،الدليل ما استشرى في المطبوعات العربية، وغيرها،أيضا، من انتشار مستفحل لهذا النُّوَيْع، واستسهال له،فظن غير واحد أن احتلاب الذات، واستسقاء أطوار من حياة شخصية لكتابة جافة كفيل بفقس رواية، شبيه رواية، ما ضيّع النقاد، ولم يعد يهتدي به القراء، ليختلط حابل السرد بنابل أيّ كلام!
8
القصد عندنا أخيرا، ولا نلغي تداعيات ما يندرج في كتابة الذات، ما يتنزّل ويتوسَّم بعنونة " تخييل الحميمي" (La fiction de l?intime)، نراه أنسب ما تتصف به تمثيلات القصة العربية الجديدة،الخصائص المؤشرة عليها،والمتولدة عنها تباعا،إلى أن تكتمل وتموت، إما تفنى أو تموت كالرواية، حين تنال مجد الكلاسيكية، أي مجد! إنه النوع الشامل، المفرد المتعدد، حيث الأنا بؤرة والجسد بذاكرته وهواجسه وأعضائه أفعال وحكايا ومرايا، ولا شيء في آن. وهذا لا يتأتى إلا حين يضيع كل شيء تقريبا ويستتب الفراغ، وتتحول الأجساد إلى أشباح تطوف بين الأطلال، تستفّ التراب، وتنشق الغبار، والكلمات تصير مثل صورة طرفة بن العبد: " لخولة أطلال ببُرقة ثهمد / تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد". يتحدد الحميميّ حسب دارسي هذا النوع بالخصائص التالية:"القرب،الألفة،والكتمان" وكتابته تتأسس على نزعة التحفظ، ووجود أمور على درجة عليا من الغور، ومن تم تنأى عن التوصيل والدعاية العاجلة. هو نوع نهضَ على الصعود التدريجي لمقولتي الفردية، والذات المستقلة، اللتين شرعتا في التبلور عند الغرب منذ ق 17،وتحدد معهما قطاع العام والخاص.
(أنظرسالادور، وآخرون، أتلاند،2001،ص18). نجد هذه الخصائص متمايزة بتفاوت في نصوص سردية عربية من الجيل الحديث، ونزعتها الفردية عالية، لها مسببات قرينة بالنسق الموضوعي العربي، ويمكن أن يندرج فيها السير الذاتي المباشر، والتخييل الذاتي، وهو كثير،والأقرب إلى بحثنا،الأذكى،المتصل بالنوع تدقيقا هو ما صار يندرج في المحكيات الفردية وقد طفق يستمد روائيته من معيش الفرد وحده كبؤرة، وهي بمثابة إبدال عن كلّ فقد مركزيته ليضحى تابعا لتجربة الذات،أو أوهامها،تزعم انغراسها مهمازا في ترابها (Terrioire ) الشخصي. إنه عموما منظور ما نسميه القصة العربية الجديدة، تخلت عن استراتيجية العمل الروائي الكلي،المركّب،أو تخلى عنها، وتركب عربة التخييل الحميمي، وهذا الرائج اليوم غَثُّهُ أكثر من سمينه، من هذا الأخير:"حب بيروتي" لسحر مندور، و"عين الهر"لشهلا العجيلي،هما معا عملان حديثا الصدور، وما نحسب أن كاتبتهما إلا على حداثة سن، أيضا.
9
في "حب بيروتي"(دار الآداب،2009) تحضر خصائص التخييل الحميمي في نص يدور حول محاور: القرب بين الشخوص(ماجدة وأحمد) وبين مسافة القرب الشديد، الالتحام، والتباعد اللازم لصنع توتر في العلاقة ليس موضوعه إلا المحافظة ما أمكن على مساحة القرب، وعدم توسيع شقة خلاف، من طبيعة سيكولوجية، وعاطفية بالدرجة الأولى، ما تنفك تقوم بين الفاعلين؛ هما معا يقيمان في حالة الألفة، الجسدية والنفسية، هي السكنى المرغوبة، ورهان العيش كله عليها، أما الباقي في حياة كل شخص/ شخصية فأشبه بتفاصيل نافلة، وما هي موجودة إلا لترسيخ الحالة،والعمل أكبر قدر على ديمومتها. فالرسم الذي هو مهنة أحمد (رسام بمزاج فنان، وكائن حر يأنف من القيود) لا يمثل إلا بعدا من كينونته التي تظهر، رغم بضعة"أفعال"جزئية أشبه بتجريد، من قِبَل من يعرف ولا يعرف ما يريد في آن،متنازع بين إيروسيته وسجن ألفته، فيما خلفيته العائلية تسلسل من التلاشي، وتفكيك قيود لخدمة بؤرة وجود حميمي لذاته أولا، ولها ثانيا من خلال آخر(حب ماجدة ومشروع الاقتران الدائم بها في سياق الألفة، ومعاشرة كارمن جنسيا لاختبار جدوى المشروع، والمقامرة به في آن). واحتراف المكتبية عند ماجدة،لا يعدو بدوره، أن يكون أحد الأطر الخارجية لوجود اجتماعي سرعان ما ينحسر إزاء العلاقة الإشكالية التي تقيمها مع المعشوق أحمد، المرغوب كُلاًّ لا جزءاً، لديمومة إقامة القرب،ولأن العالم الخارجي بدون ألفته هو عدم. وكذلك باقي الإرتباطات والنزوات، هي لمجرد اختبار رهان المشروع الحميميّ، الوحيد الممكن لديها.
9.1
لقد سقطت، إذن، إيديولوجيا الجماعة الكلية. بيروت لم تعد مسرحا للحروب الطائفية، ولا هي مضمار لقراع خطوب الثوار من كل نوع. تهافتت البطولات القديمة،على الأقل في النص السردي، أصبح محفلا لبطولة المنكفئين على ذواتهم، تقودهم رغبات ومشاريع فردانية بحت،هي الإبدال الحقيقي عندهم عن فشل عام وعائم. والطريف أن البراديغم الجديد لايحتمل أي يقين، هو في مسافة المابين، الحب ليس رومانيسة،أي غير مأساوي، بل مقامرة، وجود محتمل، ممكن، ومستحيل. اذ ترى الحكي تلقائيا، منسابا كاليومي. غرام ما بعد الحرب. لا تمطيط فيه ولا ترهل. المحكي الجديد عكس الرواية بلا أفعال، وفعله بين مد الذات وجزرها حول موضوع ذاتها. خطابه متقشف جدا، وشاعريته من إضماره وصعوبة تجاوزه حدود الكلمات، بعد أن سقط قناع البلاغة(الفروسية) القديمة. من هنا يمعن هذا القص الحب في الخفاء، التغوّر،وهو يستعمل حوارا مخصوصا. إن استعمال العامية، مبدهة ومسنَّنَة ( Codé) منزع آخر للبعد عن الخارج، واللامبالاة به حد الاستخفاف. منه ضمور ما لا يفضي إلى الداخل، ولأن "هناك شيء ما يغري بالخفة في بيروت"(147).
9.2
لاعجب، فهذه الكتابة،القصة،أيضا، خفيفة. هي إذ تعدد إمكانات حكيها،الموروث، أولا، ثم الأسلوب غير المباشر الحر الذي يجدل أقوال وأفكار الشخصية مع السرد،وبعض المونولوغ الداخلي، من لوازم صناعة الحميمي(م.س 20) لا تحيل إلا على طيفها، ولا نظن أنها تحفل كثيرا بالأدب(رواية الغرام،ولا الحرب المترهلة) ذاك الذي تربّت عليه أجيال، إخالها
تنقضه،لاتريد إلا بصمة صغيرة على أديم الكلام،بتجنيس محتشم(رواية)على الغلاف.
10
في "عين الهر"(الهيئة العامة لقصورالثقافة،القاهرة،2009) نقف على شكل آخر من تمثيلات القصة الجديدة، عبر تخييل الحميمي، يقع في منتصف الطريق بين التحرر من سنن السرد التقليدي بتبئير الذات،وإرسال الخطاب دون وسائط، ووجهة النظر هي للكاتب السارد، وبين قص موضوعي يتولاه سارد عليم يسرد فيه قصة شخصية بحياتها وأوزارها في صبرها العنيد(أيّوبة"مؤنث أيوب")، لكنها لا تعدو في هذه الرواية المحتملة أن تكون تعِلّةً،أي تسويغا حكائيا وحدثيا مفتقدا لهموم (معيش) سارد الذات، فعلية أو ذهنية، فكأننا ننتقل من الحقيقة إلى المجاز، وهذا يحيل على تلك، ما يصنع ثنائية تعوّض التوتر الدرامي في القص التقليدي،الخ.
10.1
يغلق الحميمي عادة على نفسه، ويمكن أن يتمترس خلف التجريد،لذا تبدأ القصة بأطروحة:"أسوأ حب، هو الذي يباغتك متأخرا.."(5). ها مفردة حب تعين من البداية مسار الحكي ومادة البحث. ما يأتي بعدها يفكك ويفصل مشروعها بعبارات كلية، تقريرية لرسم علامات الطريق، ليست واضحة تماما، والكتابة إذا كانت وعيا بهذا الغموض، فهي في الآن، بالنسبة لذات كاتبها، طريقة هروب من الوعي، بالتملص منه عبثا،أو بإسقاط معناه على الآخرين، أي تجسيده في محكيات صغرى، هي بمثابة برهنة على متعاليات كبرى!
10.2
تحدد شهلا العجيلي مسبقا أفق بحثها، في آخر، يظل استغراقا أكثر منه كائنا متحققا،
مع ذلك في القلب، رغم تقلّبه، في دائرة القرب، وهو مقيم في المساحة التي صنعتها الذات ولا مهرب منه:"فإنك كالليل الذي هو مدركي/ وإن خلت أن المنتأى عنك واسع!". ألفتُه ضرورية،هي العمود الفقري للقصة التي تبنى بتوليد محكي سنادي،قصة أيّوبة الموضوعية، إبدال وتضعيف للذات في وقت واحد. ذات تتعدد، تتكرر، تتناسج وتتفاعل، في كل مرة توسع مدار الحميمية ومساحة القرب والألفة، وتصر على التقوقع بعد أن خانها العالم الخارجي بدواله ودلالاته الفظة والمتجبرة بالتسلط والهيمنة وابتذال الأرواح، لذا لا تتساكن أيوبة، التي عاشت كل المحن، إلا مع الأسرار وغبطة العشق الصوفي: الأذكار، وحرفة ضم السّبح مع تفكيك شفرة الحجر الكريم،مثوى الجمال،ببلاغة رسولية، فيما تذهب ضحية الخديعة (حجرة عين الهرالمغشوشة التي ستهداها)، كما ستُخدع ساردتها، الذات الأم، بحرف واحد فقط.
10.3
إلى جانب الخصائص المذكورة في قصة التخييل الحميمي، يمسك ضمير المتكلم الزمام. بيد أنه وهو يتولى مهمة السرد يتماهى مع موقع المرسل حدا يتطلب يقظة حادة تجنب الوقوع في فخ الاندماج في إرساليته كنها صادرة عن المؤلف. على أن القصة الجديدة المعنية تتقصد هذا الخلط المكتوبة بقلم المرأة خاصة،لا علاقة لهذا بالتسمية الشعارية للأدب النسائي(كذا) ويعود القص كله مداره تاريخ صاحبه، وما هو خارجه مسوّغ لشعوره وسيرته الذهنيية. وبالمقابل،أيضا، نرى الحميميَّ ومناخَه خلفية تعلة تنبني منها تخييلات سردية، وبخاصة،
فبقدر ما يمثل علاقة بالذات ينفسح لحضور العالم، وينفتح على الآخرين.
10.4
حسن. إنما الخاصية الأهم، لنجدد التأكيد،هي إعلاء الفردية قيمة فوق أي إيديولوجيا أو متعالية سابقة، وبالتالي تغدو الكتابة، حتى وهي تنضح بموروث، تصنع تاريخها، أدبيتها الخاصة، بموازاة الذات التي تتموضع في قلب فعل سردي مصنوع للتو، على أنقاض خراب
الرواية العربية، وعالمها القديم، صنيع فرجينا وولف والتيار الحداثي لما بعد الحرب الأولى في "مسز دولوي"مع الفارق، في الرؤية والشكل،وهو ما ينبغي أن نحلم بولاداته القادمة.
11
من الضروري الإشارة ة كذلك إلى أن هذه الكتابة المتوسلة غالبا بضمير المتكلم، بتعدد وظائفه، تتمثل رهانا مفتوحا لمن يتعاطاها، فهذا الضمير بقدر ما يسلس القياد يورط في خطاب مباشر، أي خارج محفل السرد، تختلط فيه الأدوار، فينقلب المؤلف نفسه إلى شخصية من غير أن يكتسب صفات شخصيات التخييل الذاتي. ثم ، ومن هذا المنطلق، نلاحظ انتقال مستويات القول بين السرد العادي،والمذكرات، واليوميات(حيث تنوب العناوين والفقرات الصغيرة عن التواريخ) والتعليق،مثله،الشيء الذي يضعنا أمام مختبر كتابة مفتوحة، مؤقتة، كنا نظن أن صاحبها حسم أمره مع أدواته قبل إطلاعنا عليها، على منتوجه. القصد أننا كما لو أننا نتعامل مع كتابة في طور تجريب هو أقرب إلى الشروع في التجربة لإحكام التمرين، وهذا طبيعي في كل عمل ناشئ، وهو يرقى سلم أدب يطمح إلى خصوصه، لو اقتدر، أو سيكون كظل عبر.ّ من هنا فتسمية القصة العربية الجديدة تحتمل جدّة مغامرة قابلة للتعديل والتطوير، تظل مفتوحة على تغيرات شتى، منها، لم لا، أن تبلغ"رشد" التراث الروائي المحكم، عندما تستنزف كل إمكانيات الذات أو تتخلى هذه عن زعانفها النرجسية، ما أكثرها في هذا الضرب من إبدال القص المفترض.
12
يتعلق الأمر بالعثور على عالم، إذ ينطلق من الذات المفردة لا يحول هواجسها إلى حلقة مفرغة "حب بيروتي"،وإذ يسعى لإيجاد المعادل الموضوعي للذات في قصة موازية،لا يستخدم هذه مجرد ذريعة لتعويض الحبكة المفتقدة،ما قد يبدو خللا في تركيب عناصر يحتاج في القص لحضور متشابك ومتفاعل، ومهما كانت بوحية وشعرية وتعددية وجهات نظر ضمير المتكلم فهو غير قادر على تمثيل وتمثل أزمة الذات في المجتمع، والوجود، على النحو الذي يتغياه النظام السردي،إلا بالاشتباك والأفعال،وتشخيص المعنى في المكان والزمان. لن نحتاج، بعد هذا، للقول بأن الأمر يتعلق دائما بالعثور على أسلوب،وهذا أيضا رهان آخر، ربما الأخطر، أمام قصتنا، نراها ذاهبة نحوه، بملء حماس فتوّة التجربة.
13
يبقى أن نضيف برسم الختام، أننا إذ نكبر هذه التجربة، تجلت في المثالين اللذين سقنا، ولها نظائر مساندة ومرسخة، بأن ثمة معضلة نراها تخص النص السردي العربي الحديث، وتكاد تكون لصيقة به من دون آداب أخرى. إنها تتمثل في دورة صعود ونكوص شبه متداومة، فعوض استمرار تراكم التجارب النصية، تفضي في النماء والتطور إلى بعضها، وهي تتناسغ وتتجاوب، وقبل ذلك تتلاقح كبرا ونضجا، تجد بين الكتاب من يتصور القص سيبدأ بيراعه ومخيلته، وسواء عرف كيف يغرف من التراث، أو قصر عن ذلك إن النهل من هذا الجانب غير متاح بداهة،إذ يحتاج إلى ثقافة ومقدرة على التمثل مضى وحده منازلا، بينا ما هكذا تورد الإبل. بعيدا عن إسداء النصح، ولا تعالما منا الدعوة إلى الانتباه للتواتر، وتعلم استشفاف تليد النصوص. هكذا حين نسمي القصة العربية الجديدة، ينبغي أن ينصرف الذهن مباشرة إلى متن مُحنّك، ومتجدد في آن، يريد أن يبلغ به مؤلفه شأو السرد، وإن على طرز مغاير،لا كتابة متعثرة، مقلقلة الشكل، مشوشة المعنى،حتى لا تكاد تمسك بأي معنى. لا تطور وتجديد إلا مع فارق وقياس، والحالتان تندرجان في سياق، كالأشكال والمعاني تماما في وجودها وتمايزها تصنع تاريخ الأفكار والرؤى ونسق الدلالات، إلى جوارها خطط البناء وتصاوير التمثيل والتعبير. بهذا يقنعنا تاريخ الأدب، وبذا، أيضا، يمكن أن يفحمنا كل سرد أصيل وهو مندرج بقوة في تاريخ القطيعة، بثقافة ودون تردد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.