«ماذا يمكننا قوله في بضع دقائق عن تجربة أزيد من نصف قرن من العمل البرلماني بالمغرب، وكيف نستحضر الممارسة البرلمانية الوطنية في تطورها التاريخي في احتفال سياسي وأكاديمي كهذا. بداية نسجل أن وفاء المملكة المغربية لاختيارها الذي لا رجعة فيه والمتمثل في بناء دولة ديمقراطية يسودها القانون وتثبيت هذا الاختيار في دستور 2011، هذا الاختيار تزكيه وتكرسه اليوم الرسالة الملكية الموجهة لهذه الندوة التي تنظم تحت الرعاية الملكية السامية. نسجل أيضا و باعتزاز هذا الحضور المتميز في هذه الندوة التي يمكن اعتبارها انطلاقة ورش تقييمي لمسيرة أمة نحو الديمقراطية، و ككل ورش من هذا المستوى لا اخالني إلا أن أجزم بأنه ورش سيستمر عبر منتديات الهيئات السياسية و الحقوقية و النقابية وفي مدرجات الجامعات و نقاشات المجتمع المدني فمن أين يبدأ تاريخ الخمسين سنة على اعتبار أن لا نهاية لحلم الأجيال. إن المنطق التاريخي والسياسي والمنطق المطلق للحياة يفترض تهييئ الأرضية المادية والفكرية, فبالأحرى السياسية لعمل من مستوى التأسيس الديمقراطي. فسواء أحببنا أم كرهنا، اتفقنا أو اختلفنا، فالفضل كل الفضل يعود لجيل المؤسسين من باب العلمية أو على الأقل من باب الإنصاف. إننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وفي أحزاب الحركة الوطنية والديمقراطية بمعية الشعب المغربي, نعتبر أن واحدة من أهم محطات التجربة تبقى هي مرحلة المجلس الوطني الاستشاري 1956-1959 التي وإن لم يكن المجلس فيها منتخبا فقد ضم نخبة وطنية ذات كفاءات وأنتج الكثير وهيأ الأرضية اللازمة لاستقبال ما سيأتي في مجتمع حديث العهد بالاستقلال. إن أي تجاهل لمرحلة بهذا الحجم يعتبر بترا للتاريخ وهي مساهمة غير ذات جدوى في جعل الشعب المغربي ينسى جريمة اختطاف واغتيال الشهيد المهدي بن بركة أول رئيس للمجلس الوطني الاستشاري. إنها قضية مركزية بالنسبة إلينا, قضية لا يطالها التقادم. إن أية قراءة سياسية أو حزبية تحاول اختزال تاريخ البرلمان المغربي وحصره في محطة 1963-1964 والمحطة الحالية، هي قراءة مرفوضة لا من وجهة النظر الاكاديمية ولا سياسية ولا الحزبية وحتى بمنطق الذاكرة. لا يمكننا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن نقبل باختزال تاريخ البرلمان المغربي مثلا في تجربة أسست للقمع ولميلاد الحزب الإداري الذي جر على البلاد قمعا شرسا امتد من 1965 ولم ينته في 1977 مع استئناف ما سمي آنذاك بالمسلسل الديمقراطي، برلمان تم حله بعد ان فقدت ما كان يعرف بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية FDIC أغلبيتها، بعد أن هز أركانها ملتمس الرقابة الذي قدمته المعارضة الاتحادية في يونيو 1964. من الصعب اختزال الحديث اليوم في محطتين أو أكثر، مع ذلك أبادر بالقول بأن التجربة البرلمانية المغربية لا ترتبط فقط بالتطور الدستوري ولكنها ارتبطت بالأساس بالصراع السياسي الذي شهدته البلاد بين القوى الوطنية والديمقراطية من جهة، والقوى المناهضة للديمقراطية من جهة أخرى وبالتالي لميزان القوى في معادلة الصراع هاته. لسنا بصدد تحليل أسباب ومآلات هذا الصراع ولكننا في هذه المحطة مطالبون بالوقوف على أسباب تعثر الممارسة البرلمانية الديمقراطية التي يجب أن تتوفر فيها عدة شروط هي معايير كونية للديمقراطية: أي الاقتراع الحر والديمقراطي، والتعددية السياسية، ومشاركة الناخبين التلقائية وتمكين البرلمان من ممارسة السلطات الرقابية والتشريعية والتمثيلية. وإذا كان الشرط الثاني قد توفر دائما في الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب باستثناء برلمان 1970-1971 أو ما يسمى في الادبيات السياسية ببرلمان أفقير غير المأسوف عليه, والذي كان أردأ وأضعف برلمان في تاريخ المغرب ,إذ قاطعته المعارضة الاتحادية والاستقلالية، فإنه ليس من العيب في شيء أن نستحضر اليوم ما يمكن أن نسميه الأعطاب التي شابت مختلف التجارب وتنوعت حسب السياق السياسي للاقتراع. ولكن قبل ذلك دعوني، السيدات والسادة، أسجل تفرد المغرب في هذا الجانب أيضا. فرغم القمع ورغم التوترات السياسية ورغم الصراع الحاد، صمدت التعددية الحزبية والسياسية والنقابية وكانت المعارضة دائما قوية وبتعبيرات مختلفة وظلت صحافة الأحزاب الوطنية الديموقراطية معبرة عن طموح المجتمع إلى الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ودفعت القوى التقدمية ضرائب كبرى إلى أن تيسر التوافق الوطني وحصل الاتفاق على قواعد اللعبة السياسية. وفي إطار التوجه إلى المستقبل وتجويد مؤسساتنا,أرى أنه علينا قراءة تجربتنا من جوانب نقصها أو ما سميته بالأعطاب. أول الأعطاب هو ممارسة تحريف إرادة الناخبين بالتزوير الذي كانت تمارسه وزارة الداخلية لصنع الخرائط السياسية والأغلبيات البرلمانية بعد أن كانت تتدخل لصناعة الأحزاب السياسية نفسها. ثاني الأعطاب يتمثل في الفساد باستعمال المال في شراء الأصوات ,مما أفرز مؤسسات ضعيفة وغير ذات مصداقية. ثالث الأعطاب يتمثل في طبيعة النخب المنتخبة / مستواها وتكوينها ومصداقيتها ومشروعيتها وامتداداتها الاجتماعية وبالتالي القيمة التي يمكن أن تضيفها إلى السياسة والممارسة البرلمانية. رابع الأعطاب ويتمثل في أقوى نتائج هذه الممارسة, ألا وهي ضعف المشاركة السياسية للمواطنين في الانتخابات وطبيعة تمثل المواطن للانتداب البرلماني (الحالة الدالة هي نسبة المشاركة في 2007 ). إنني لا أفصل في هذه الإشكاليات وبلادنا تعيش محطة جديدة معززة بالإرادة الملكية للقطع مع ممارسات الماضي ولكنني اقترحها عناوين نرى في الفريق الاشتراكي أنها يمكن، إلى جانب أخرى أن تشكل مداخل للإصلاح ما دام الأصل في الفساد يوجد في السياسة والمؤسسات المنتخبة. فبعد حل الاشكالية الدستورية وتوفرنا على دستور متقدم، وما دام أمر النظام محسوما في المغرب على اعتبار الاجماع حول الملكية وشرعيتها ومكانتها المركزية في النسق السياسي المغربي، بعد كل هذا يبقى مطروحا علينا مسؤولية تجويد أداء المؤسسات وهو تجويد يجب أن يبدأ من الأحزاب السياسية نفسها. وسأكتفي في هذا الصدد بطرح بعض التساؤلات من قبيل: ألم يحن الوقت لتعيد الأحزاب النظر في طبيعة نخبها ومرشحيها؟ هل سنظل نستعمل القاعدة الميكيافيلية المتمثلة في الحصول بأية وسيلة كانت على الأصوات؟ هل النظام الانتخابي المغربي ونمط الاقتراع وحجم اللائحة وحجم الدوائر يلائم فلسفة الدستور الجديد؟ هل ييسر ذلك ولوج النخب إلى البرلمان؟ وهل ييسر ذلك تشكيل أغلبية منسجمة ومعارضة منسجمة؟ وبدون المس بقدسية حرية تأسيس الأحزاب، هل يفيد تشتت المشهد الحزبي، الديمقراطية في المغرب؟ وما الطريق إلى بناء أقطاب حزبية كبرى حقيقية بالمرجعيات والبرامج المختلفة؟ وإذا كان غير مسموح بالقانون إقحام الرموز الوطنية في الحملات الانتخابية، إلى متى سنظل نسمح بإقحام الدين وتوظيفه في قضايا السياسة؟ إننا في محطة تأسيس جد حاسمة للقطع ليس فقط مع ممارسات الماضي المنبوذة بل البحث عن توافق حول نموذج وطني للحياة السياسية، نموذج سياسي ثقافي، تنموي يبنى على التراكم الإيجابي تنخرط فيه النخب الواعية بكل مسؤولية تحتكم إلى منطق المواطنة حول كل ما هو مشترك على أن تشكل الخصوصيات وفي إطار الوحدة الوطنية روافد تغدي التوجه الوطني في مختلف أبعاده.