هل كنا في حاجة إلى أن تأتي منظمة دولية ، أو أن يظهر تقرير دولي أن الرشوة بلغت مستوى في قطاع التعليم يهدد كيان المجتمع وينذر بأوخم العواقب ؟ وهل نحن بهذا المستوى من الجهل والعمى حتى لا نرى ما يفتك بأوصالنا، ويعيق كل حلم بالنهوض بمجتمعنا ؟ وهل عدوى الرشوة وصلت مجال التربية والتعليم ، بعد جولاتها الحرة في قطاعات أخرى ، حيث اختارت أن تستريح في محطة تتسم بشساعتها وحجم عدد مرتاديها من أبناء المجتمع ؟ هل حمل التقرير جديدا حين وصف واقعا وأبرز ملامح وضع يبعث على الاشمئزار ؟ أسئلة كثيرة بقدر ما تحمل من الاستفزاز لكل من يتابع حال التعليم ببلادنا ، فهي تدعو من بقي له ذرة من ضمير حي أن يساهم في إيقاف هذا المرض الصامت الذي يشبه السكري وضغط الدم في شكل سريانه وخطورة عدم الوقاية منه . فإذا كانت للرشوة مظاهر شتى في قطاع التعليم ، واختلفت أشكالها وحدتها ، والمعنيون بها فاعلون ومنفعلون ، فإن خطورتها تكمن في كونها ذات تداعيات على كل مرافق حياة المجتمع والأمة ، إذ تستفحل في هذا القطاع أو ذاك بناء على نوع التربية التي يتلقاها الفرد في مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية ، وضمنها المدرسة أو مؤسسة التعليم بوجه عام . ولذلك لا مناص لكل من يريد البحث في الظاهرة أن يمر بالتأثيرات التربوية التي طالت حياة الفرد وحكمت توجهاته في الحياة ،دون نسيان لمختلف الآثار التي تمارسها باقي مؤسسات المجتمع . لقد عرف قطاع التعليم بمختلف أسلاكه آفة الرشوة عبر مستويات عدة ، ففي وزارة التربية الوطنية مثلا ظهرت الرشوة وانتعشت في علاقة الإدارة المركزية بمصالحها الخارجية (علاقة المركز بالهامش)، في علاقة الأكاديميات بالنيابات ، في علاقة النيابات بالمؤسسات التعليمية التابعة لها . عرفت الرشوة في العلاقة التربوية والعلاقات الإدارية ، في علاقة المدرسة بمحيطها وروادها ، في كل أنواع العلاقات القائمة داخل المدرسة ومع خارجها . غير أن أخطرها ما ينتج عن سلوكات أولئك الذين هم في مراكز القرار ، والذين باتت ممارستهم للمسؤولية ، في ظل الغياب التام للشفافية في تدبير الشأن التعليمي ، تضمر مظهرا من مظاهر الفساد ، وتفتح الباب على مصراعيه للرشوة ، ولو كلفت الوزارة نفسها عناء البحث لوقفت على حقائق رهيبة ومرة ، وجنبت البلاد والعباد بعضا من هذه الشرور . فالكثير من المتربعين على كراسي المسؤولية في مصالح مختلفة لم يأتوا إليها بناء على جهد أو مؤهلات علمية أو مهنية ، بل قذفت بهم رياح الزبونية والرشوة في سياق تأثيث العديد من الإقطاعيات التي تعرفها الوزارة. فالعديد من الأقسام والمصالح بل وحتى المديريات ، مثلما الأكاديميات والنيابات ، لها فريقها القار الذي تدعوه في كل المناسبات وتمرر عبره مخططاتها، حتى بات هذا أشبه بالمتخصص في هذا المجال أو ذاك ، وبات معه متابعو الشأن التعليمي يتساءلون عن سر وجوده الدائم في هذه المصلحة أو تلك . ومن مظاهر ما يفسر علاقة هذا الفريق المشبوهة بالمصلحة الفلانية، على الرغم مما يزخر به البلد من طاقات معطلة ، ما يلي : - انخراطه الدائم وحده في كل التكوينات الوطنية والدولية دون الاحتكام لمؤهلات معروفة؛ - استفاداته الدائمة في كل اللقاءات الوطنية ؛ - إسناد المهام والتكليفات دون مباريات أو تنافس ؛ - إشعاره وحده دون غيره بما تروم الوزارة القيام به من برامج أو تكوينات ؛ - دعوته دون غيره لكثير من المهام (إعداد المباريات ، المشاركة في التصحيحات ، إعداد الامتحانات ، القيام بأنشطة ؛ - قبول مشاركاته في كثير من التأليفات والتجاوز عن شوائبها. ولقد كان تنفيذ المخطط الاستعجالي فرصة أظهرت بوضوح هذه التكتلات غير المشروعة ، حيث انبرى بعض الجشعين للانقضاض على المشاريع التي أتى بها ، فاعتبر نفسه مكونا ومخططا ومنفذا ليستفيد دون وجه حق من التعويضات التي ما زلنا نحلم بالكشف عن من وجهت إليهم وعلى أي أساس ، وهو أمر لا يحركه إلا من كان قادرا على القبض على الجمر ، باعتبار تداعيات ذلك لا زالت قائمة . إن التفكير الإقطاعي الذي ما فتئ البعض يمارسه ، من موقع المسؤولية في وزارة التربية الوطنية، يستوجب نوعا من المساءلة ، إذا كانت الوزارة جادة في التأسيس لقيم نبيلة تجعل قطاع التربية يقدم نموذجا في التدبير ، إذ المسؤول مهما كانت الطريقة التي حصل بها على موقع المسئولية ليس في حل من المحاسبة ، وإن التداول على المسؤولية هو الذي يوسع من دائرة النخب ، أما صناعة الفريق دون أسس علمية ، فإنها لن تكون إلا وسيلة لإذكاء الزبونية ، وتكريس دوائر النفوذ . وتلك لعمري قمة الرشوة وآفة الآفات التي لا تعدلها رشوة في أي قطاع . فهل نحن جادون في محاربتها أم ننتظر المزيد من تقارير التشفي والازدراء ، ونستمر في تصدير الرشوة لقطاعات غير قطاع التربية . اللهم لا شماتة .