عقدت اللجنة الدولية للحقوقيين والفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان ندوة صحفية الاسبوع الماضي بالرباط قدمت خلالها مذكرة بشأن إصلاح السلطة القضائية بالمغرب . قد أبرزت هذه المذكرة القضائية مدى امتثال الإطار القانوني الخاص بالسلطة القضائية في المغرب للمعايير الدولية في ميدان استقلال القضاء وحياده. وتحلل المذكرة بشكل خاص وضعية المجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة واستقلال النيابة العامة واستخدام المحاكم العسكرية. كما تضم المذكرة جملة من التوصيات الهادفة إلى التوفيق بين الإطار القانوني المغربي والقانون الدولي والمعايير الدولية الخاصة باستقلال السلطة القضائية وحيادها. في الجزء الاول الذي ننشره اليوم، تتناول المذكرة موضوعي «المجلس الاعلى للسلطة القضائية» و «النظام الاساسي للقضاة» .وفي الجزء الثاني الذي ننشره غدا تتطرق ل«النيابة العامة» و «المحكمة العسكرية» . النيابة العامة يؤدي أعضاء النيابة العامة دورا أساسيا في إقامة العدل وتمثيل المصلحة العامة والحفاظ عليها وحماية حقوق الضحايا. وهذا يفترض وجود سلطة قوية ومحايدة ومستقلة تتكفل بإجراء التحقيقات وبملاحقة المخالفات. وداخل هذه السلطة يجب أن يكون كل أعضاء النيابة العامة مستقلين ومؤهلين لتأدية واجباتهم المهنية بصفة مستقلة ومحايدة وموضوعية. وقد أكدت لجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان على ضرورة ضمان استقلال النيابة العامة: "يجب أن تكون النيابة العامة هيئة مستقلة عن السلطة التنفيذية ويجب أن تتوفر فيها كل معايير عدم القابلية للعزل وكل الضمانات الدستورية الأخرى الممنوحة لأعضاء السلك القضائي". وتشجع مبادئ الأممالمتحدة التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة الدول على "ضمان وتعزيز فعالية وحياد ونزاهة النيابة العامة في الإجراءات الجنائية". وفي المغرب، مع أن دستور 2011 يضمن استقلال القضاة دون أي شكل من أشكال التمييز بين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة فإنه لا يضمن عدم قابلية قضاة النيابة العامة للعزل. إذ جاء في المادة 108 "لا يعزل قضاة الأحكام". وتنص المادة 110 على أنه "يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها". وبحسب التشريعات السارية يترأس وزير العدل هرم سلطة النيابة العامة. إذ تنص المادة 56 من قانون 1974 على أن "يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة وزير العدل ومراقبة وتسيير رؤسائهم الأعليين". كما تنص المادة 51 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "يمكن لوزير العدل أن يبلغ رئيس النيابة العامة عن انتهاكات القانون الجنائي التي يعلم بها ويطلب منه إجراء ملاحقات أو الأمر بها أو التماس المحكمة المختصة ". ويتجلى نقص استقلال النيابة العامة تجاه السلطة التنفيذية في أشكال أخرى ولا سيما في الدور الأساسي الذي يلعبه وزير العدل في الحياة المهنية لقضاة النيابة العامة. على سبيل المثال، يخول حق تنقيط قضاة النيابة العامة "لوزير العدل فيما يخص وكلاء الملك لدى محاكم الاستئناف". وترتبط ترقيتهم في الدرجة والرتبة بهذا التنقيط. وعلاوة على ذلك، فوفقا للمادة 56 من قانون 1974 فإن نقل قضاة النيابة العامة يتم "بظهير باقتراح من وزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء". وتجدر الإشارة إلى أن هذا الرأي رأي غير ملزم، ومن حق الوزير تجاهله. يجب على السلطات المغربية أن تقوم بإصلاح وضعية النيابة العامة بصفة عميقة، ولا سيما عبر وضع حد لخضوع أعضاء النيابة العامة للسلطة التنفيذية وعبر إلحاق النظام القانوني لقضاة النيابة العامة بنظام قضاة الحكم . وقد أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عدة مرات على أن النيابة العامة في فرنسا، التي تشبه في هيكلها وفي طريقة عملها النيابة العامة المغربية، "ليست"سلطة قضائية" وفقا للمعنى الذي يحمله هذا المفهوم في الاجتهاد القضائي للمحكمة (...) إذ هي بحاجة بوجه خاص إلى الاستقلال عن السلطة التنفيذية لكي ينطبق عليها هذا الوصف". وعليه، يجب على السلطات المغربية : ضمان استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية ووضع حد لسلطة وزير العدل على أعضاء النيابة العامة؛ ضمان عدم قابلية قضاة النيابة العامة للعزل وجعل وضعهم القانوني مطابقا للوضع القانوني لقضاة الحكم؛ ضمان عدم تحويل وزير العدل أي سلطة في القانون أو الممارسة تمكنه من حق التدخل أثناء الإجراءات القضائية أو في القرارات المتعلقة ببدء متابعات قضائية أو وقفها؛ ضمان أن لا يتخذ أي إجراء متعلق بالحياة المهنية لأعضاء النيابة العامة ولا سيما اختيارهم وتعيينهم وترقيتهم والأمن المتصل بمنصبهم وبوجه خاص نقلهم إلى وظائف أخرى أوالإجراءات التأديبية في حقهم، إلا بما يوافق القانون وعبر المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ استخدام المحاكم العسكرية في المغرب لم يشر دستور 1996 ولا دستور 2011 إلى المحاكم العسكرية وإلى استخدامها لمحاكمة المدنيين. غير أن الظهير رقم 280-56-1 بتاريخ 10 نوفمبر 1956 م بمثابة قانون القضاء العسكري يوسع عبر المادة 3 صلاحية المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية (المحكمة العسكرية) لمحاكمة، إضافة إلى العسكر، " جميع الأشخاص، أية كانت صفاتهم، المرتكبين جريمة تعتبر بمثابة جناية مقترفة ضد أعضاء القوات المسلحة الملكية وأشباههم؛ وجميع الأشخاص كيفما كانت صفتهم المرتكبين جريمة تعتبر جناية فيما إذا اقترفها عضو أو عدة أعضاء من القوات المسلحة الملكية بصفة عملية أو شاركوا فيها". وتنص المادة 4 أيضا على ما يلي: "تجري أحكام المحكمة العسكرية على جميع الأشخاص أيا كانت صفتهم الذين اقترفوا مخالفة تعتبر تعديا على الأمن الخارجي للدولة". توسع المادتين 3 و4 من ظهير 1956 صلاحية المحكمة العسكرية في المغرب إلى ما وراء الاستخدام الوارد في القانون والمعايير الدولية. إذ وفقا لتلك المعايير لا ينبغي للمحاكم العسكرية محاكمة المدنيين. يجب أن تقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على العسكريين والجنح العسكرية، ما يعني بشكل أساسي الإجراءات التأديبية في حقهم. ووفقا للمبادئ الخاصة بإقامة العدل من قبل المحاكم العسكرية (مبادئ ديكو) "لا ينبغي أن تملك المحاكم العسكرية، مبدئيا، صلاحية محاكمة المدنيين. وفي كل الأحوال، تسهر الدولة على يحاكم المدنيون المتهمون بارتكاب جناية، مهما كان طابعها، أمام المحاكم المدنية". ولا ينبغي للمحاكم العسكرية أيضا أن تحاكم أفراد الجيش وأفراد قوات الأمن في حال تعلق الأمر بانتهاكات لحقوق الإنسان. وتنص مبادئ ديكو على أنه "في كل الأحوال، يجب استبعاد صلاحية المحاكم العسكرية وتفضيل المحاكم العادية من أجل السير الحسن للتحقيقات بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كالاغتيالات خارج نطاق القانون وحالات الاختفاء القسري والتعذيب ومن أجل ملاحقة ومحاكمة مرتكبي تلك الجرائم". في ملاحظتها العامة رقم 32 بشأن الحق في محاكمة عادلة بموجب المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أشارت لجنة حقوق الإنسان إلى أن "محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية أو استثنائية من شأنه أن يتسبب في مشاكل خطيرة فيما يخص الطابع العادل والحيادي والمستقل لإقامة العدالة". إن عدم استقلال المحاكم العسكرية والقضاة العسكريين ينتهك حق المواطنين في محاكمات أمام محاكم مستقلة ومحايدة. في المغرب، يتجلى عدم استقلال القضاء في أشكال مختلفة. حتى إذا كانت المحكمة العسكرية يترأسها دائما قاض مدني فإن أغلب القضاة هم عسكريون. ووفقا للمادة 11 من ظهير 1956 تتألف المحكمة العسكرية من "قاض بالمحكمة العليا الشريفة أو من قاض بمحكمة إقليمية بصفته رئيسا ومن عضوين مساعدين عسكريين فيما يخص البت في الجنح والمخالفات". يتم تعيين القضاة العسكريين وفقا للمادة 5 من النظام الأساسي للقضاة العسكريين "بظهير باقتراح من السلطة الحكومية المكلفة بالدفاع الوطني". ووفقا للمادة 6 من النظام الأساسي فإن القضاة العسكريين، في إطار ممارسة وظيفتهم وبشرط استقلال تام لقضاة التحقيق، "يخضعون لمسؤوليهم وللسلطة الحكومية المكلفة بالدفاع الوطني.". وعلاوة على ذلك، فوفقا للمادة 7 "يخضع القضاة العسكريون لقوانين السلوك العام الساري على ضباط القوات المسلحة الملكية". وتعكس هذه الأحكام خضوع القضاة العسكريين للسلطة التنفيذية ولا سيما لإدارة الدفاع الوطني. وتؤكد إلى جانب ذلك على عدم التلاؤم المتأصل بين المحاكم العسكرية ومبادئ استقلال القضاء. وانطلاقا من نفس الملاحظات أكدت كل من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان واللجنة الأمريكية لحقوق الإنسان على أنه لا يمكن اعتبار القضاة العسكريين مستقلين ومحايدين لأنهم ينتمون إلى هرم السلطة العسكرية. وإضافة إلى ذلك، فإن الإجراءات المتبعة أمام المحاكم العسكرية كثيرا ما تخالف المعايير الدولية في مجال المحاكمات العادلة. تنص المادة 80 من القانون العسكري على "يبلغ مندوب الحكومة للمتهم مدة خمسة أيام على الأقل قبل انعقاد المحكمة رسم الاتهام مع نص القانون الواجب تطبيقه عليه وكذا الأسماء العائلية للشهود الذين يريد استدعاءهم وأسماءهم الخاصة وحرفهم ومقر سكناهم. ويجب عليه أن يعلم المتهم - وألا يؤدي خلاف ذلك إلى بطلان - بأنه إذا لم يختر من يدافع عنه في الجلسة فإن رئيس المحكمة العسكرية يعين له مدافعا من تلقاء نفسه ويجوز للمدافع أن يطلع بدون تنقل على المسطرة كلها أو جزئها أو أن يطلب على نفقته تسليم نسخة من ذلك من غير أن يؤخر انعقاد المحكمة العسكرية بسبب ما ذكر. ولا يمكن أن تسلم أية نسخة من المستندات التي تكتسي صبغة سرية". هذه المادة تنتهك حقوق دفاع المتهمين كما وردت في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وبوجه خاص حقهم في التمتع بالوقت وبالوسائل اللازمة لتحضير دفاعهم والوصول إلى مختلف عناصر ملفات التحقيق دون أي حد أو قيود. ولا يضمن قانون القضاء العسكري حق الاستئناف أمام محكمة أعلى درجة في أحكام الاتهام والإدانة. تنص المادة 109 على "إن الأحكام الصادرة من المحكمة العسكرية يجوز الطعن فيها بطلب النقض لدى المجلس الأعلى التي تبت بمحضر جميع غرفها في القضايا وضمن الشروط المقرر في الفصل 407 والفصول التي تليه من قانون التحقيق الجنائي". وتجدر الإشارة إلى أن الطعن لا يمكن اعتباره استئنافا أمام محكمة أعلى درجة. فمحكمة النقض لا تبت في الأفعال بل تفحص احترام القوانين الإجرائية والتطبيق الحسن للقانون فقط. يجب على السلطات المغربية إصلاح منظومة وقانون القضاء العسكري بشكل عميق، وعليه يجب: إصلاح قانون القضاء العسكري والنظام الأساسي للقضاة العسكريين بما يتوافق مع المعايير الدولية ولا سيما مبادئ ديكو بشأن إقامة العدل من قبل المحاكم العسكرية؛ وضع حد لصلاحية المحكمة العسكرية في محاكمة المدنيين؛ وضع حد لصلاحية المحكمة العسكرية في البت في حالات انتهاكات حقوق الإنسان التي تتورط فيها القوات المسلحة وقوات الأمن؛ تحديد صلاحيات المحاكم العسكرية لتقتصر على أفراد الجيش.