في قصيدتها ( وقالت المحارة للبحر)، من ديوانها الثالث ( سماء تشبهني قليلا)، تقول الشاعرة ثريا ماجدولين : على حافة الليل أسير وحدي إلى القصيدة يتبعني خطوي ، يسبقني صداي ، ألاحق همسة النجم الوحيد أجلس قبالة الورق أخط : للبحر لوعة الموج الظامئ دوما للرمال ولي هذا الانتظار / ص . 67 ? 68 من الدوال الحاسمة والكلمات المفاتيح التي تلفتنا في هذين المقطعين / الليل ?وحدي ?القصيدة ?صداي ? النجم الوحيد ? البحر- لوعة الموج الظامئ ? الإنتظار ... لعل هذه الدوال ? المفاتيح هي النوابض المركزية أو بعض النوابض المركزية في تجربة ثريا ماجدولين الشعرية ، والأوتار الساخنة التي تعزف عليها بوحها وشدوها، ولعل المقطعين 1 الآنفين اللذين أثرناهما عتبة وحسن استهلال لتجربتها الشعرة ، يكثفان ويجلوان مناخ هذه التجربة الندية الثرية المنحدرة إلينا دأبا وبهاء من ضفاف الثمانينيات من القرن الفارط. ويهمني في هذه الورقة /الإطلالة أن أتأمل قليلا، كيف تسير ثريا إلى القصيدة، وكيف تسير القصيدة إلى ثريا. وما مبتدأ وخبر هذا السير. ما الهواجس والأشواق الشعرية التي تتناسل وتتصادى في هذا السير أو السرى الشعري ؟ ! وبكل بساطة وسلاسة أقول:ان الشاعرة تسير الى القصيدة منتشية جذلى بحس شعري رهيف وحصيف، ومعجم لغوي رقيق أنيق، مفردة وجملة وصورة، وتوق روحي وجسدي الى السامي والمثالي تنضح أنفاسه بين السطور. وقبل هذا وبعده، تسير إلى القصيدة بحب مكين للقصيدة، وفرح عميق بالشعر. لنقرأ لها هذه النفثة الجميلة عن ( الشعر ) في ديوانها ( سماء تشبهني قليلا ) ثمة شاعر ينفض ذاكرته على حاشية النهر يبدل حاضرا أنهكته الثقوب بجناحي فراشة يطير إلى غده العسلي يحمل قميص المحبة تفاحة لأميرته المشتهاة قصيدة ضرورية كي يأخذ النفس الأخير ويملأ دمه بالهواء قد ينقذ الشعر ما تبقى من الأكسيجين في رئة الأرض ويؤجل موت المحبين بضع دقائق هكذا قال، وانثنى نحو النهر .(ص.51) أجل، قد ينقذ الشعر ما تبقى من الأوكسيجين . تقول ثريا ماجدولين، وما يتبقى يؤسسه الشعراء. يقول هولدرلين. وذلك هو صنيع الشاعرة بالضبط، في مسارها الشعري الحفيل، أن تقاوم قبح هذا العالم، بشيء من الشعر. وما أضيق العيش، لولا فسحة الأمل.. والشعر. تأتي الشاعرة إلى القصيدة إذن، مسكونة بحب القصيدة. تأتي إليها بإحساس شعري رهيف باللغة ، وإحساس شعري رهيف بالأشياء .تقول في ( فاتحة الكلام ) من ديوانها ( سماء تشبهني قليلا ) / ( لا أحب الشجر الشوكي لأنه يجرح الهواء ) وهذا الكلام بحق ، ذروة الإحساس الشعري بالأشياء . ثريا ماجدولين : صوت شعري دافئ جاءنا على حين فجأة، كنوارة الربيع، عشية الثمانينيات من القرن الفارط وقد أصدر تباعا الأعمال التالية : - أوراق الرماد . - المتعبون - سماء تشبهني قليلا. - أي ذاكرة تكفيك. - وما يزال النبع ثرا، والماء جاريا. وهي إلى هذا مناضلة حزبية في الاتحاد الإشتراكي وناشطة جمعوية في منتديات عالمية، كجمعية النساء المبدعات لبلدان البحر الأبيض المتوسط. لكن ما يتبقى من ثريا ، هو شعرها ، إنه الأنقى والأبقى . وتلخص لنا رحلة ثريا الشعرية من عشية الثمانينيات إلى الآن، رحلة القصيدة المغربية بعامة والنسوية منها بخاصة . كما تشف لنا عن مخاضات وتحولات هذه القصيدة من نهايات القرن إلى الآن .وبخاصة ، التحول من هموم وأسئلة المجتمع والوطن، إلى هموم وأسئلة الذات والوجود. وهو ما نجده مجلوا ومبلوا في أعمالها الشعرية . ومعلوم أن الإبداع يبقى هو الرادار الأصيل اللاقط لإيقاع الذات وإيقاع التاريخ . في ( أوراق الرماد ) ، وهو عملها الشعري الأول الصادر في 1993 ، تطلع علينا ثريا ماجدولين جمرة شعرية متلظية، تجلو وتعكس سخونة المرحلة وجيشانها. من هنا يواجهنا أول نص في المجموعة ( البسمة المستحيلة ) بوهج ورهج أحداث يناير 1984 التي أججت الشارع المغربي وبخاصة في الدارالبيضاء . وهو نص مهدى ( إلى أطفال يناير 1984 ). نقرأ : (يناير جاء ، يناير ثانية ، كيف لا أذكر الرعب في كل العيون ؟ ! صراخ .. أجساد تركض.. عيون متعبة ! عيناك تاريخ آخر، رسائل تحملني إلى وجوه غابرة أتلمس وجها متآكلا بالذكريات يروي عن الريف الذي غاب الريف الذي عاد محملا بالرهجة والدم .) ص 9 ? 10 ومع هذه الفورة الشعورية، تبدو دهشة البداية واضحة في هذه النفثات. وأول الغيث قطر .. ثم ينهمر .وكذلك كان . وفي قرن واحد مع الهم الوطني، يحضر الهم العربي ? الفلسطيني في وجدان وحنجرة الشاعرة، في هذه المرحلة المبكرة ? الساخنة من إقلاعها الشعري. لنستمع إليها في هذه الغضبة العربية الساطعة / - ( أقول لكم : تعالوا نعجن هذه الخارطة العربية وتلك البحار الشرقيةالغربية نكنس ظل هذا الرعب من أحداقنا ! هاكم وجهي يشهد على أرقي وعيناي تتساقطان على الرايات الفاجرة والقبب الفاجرة واللعنة المسطرة على ستين ناصية .) ص 49 يبدو الشوق إلى الإبحار واضحا في هذه السطور، وتبدو الفورة الشعرية متأهبة للإنطلاق. تلك بعض تراجيع من نداءات الشاعرة الأولى، وهي تطرز أبجديتها الشعرية . وفي قراءاتي ومقارباتي الشعرية، أتوخى دائما الإنصات إلى النصوص، فعندها الخبر اليقين. في مرحلة لاحقة من مسار ثريا الشعرية، يخفت وجيب الهم الوطني والقومي، بعد مسلسل الإنكسارات والإنهيارات، ليحضر الهم الذاتي والوجودي، أو بالأحرى ليحضر الهم الأنثوي لكن في حلة شعرية جديدة منقحة ومزيدة.وهي المرحلة التي أثمرت دواوينها: المتعبون ? سماء تشبهني قليلا ? أي ذاكرة تكفيك. في أعمالها هذه أصبحت القصيدة على حد تعبيرها ( نقشا للروح ) . وهنا نقع بالفعل على شجون وشؤون صوت الأنثى وهي تغوص في ذاتها وتبوح بمواجدها، وإنه لصوت أنثوي متميز وملغوم، بقدر ما يطفح أنوثة، يطفح بجموح نيتشوي نحو السامي والمثالي، وجنوح مشبوب إلى الأعالي والأقاصي، وإلى الذي يأتي ولا يأتي. وهي التيمة الشعرية التي سبرتها واجتليتها في معظم أشعار شواعرنا . وتبدو جلية وحساسة في شعر ثريا ماجدولين تبدو لها نغمة وبصمة . والإنصات هنا فرض شعري، كما أسلفت. نقرأ في نص ( لا وقت لاختلاس الأنفاس ) في ديوان ( سماء تشبهني قليلا. ) مع الإنتباه لهذا الشبه الشعري العجيب بين السماء والشاعر/ - ( يا امرأة تقيم في جسدي تملأه بالأسرار تطرز حواشيه بخيوط الصمت ارحلي من جسدي أقيمي خارجي دقي غيومك في حاشية الصخر هناك اهجري أقبية الجسد يا امرأة في ارقصي فوق أجنحة الريح غادري حقلك الموحش اركبي فرس النسيان لست من هذا الزمان.) ص./81-82-85 ذلك ما قصدته بالجموح النيتشوي عند الشاعرة. وجدير بالإشارة أن ديوان (سماء تشبهني قليلا )يعد في رأيي من غرر الدواوين الشعرية المغربية الحديثة. في هذا الديوان الجميل، تحقق ثريا نقلة جمالية ودلالية في مسا رها الشعري، حيث تصقل لغتها وتدق رؤيتها وتينع صورها وأخيلتها، وتعترم أشواقها وأحلامها وشجونها، بعد مراس شعري وشعوري وئيد ومديد. كما تعقد في هذا الديوان قرانا جماليا بين القصيدة واللوحة، من خلال لوحات الفنان الفلسطيني زهير أبو شايب، حيث تصير القصيدة لوحة وتصير اللوحة قصيدة .. ويكتمل للإبداع بهاؤه. لا تلتزم الشاعرة نمطية إيقاعية محددة ومنتظمة، بل تسلس القياد لبوحها الشعري، مع صقل العبارة وتنغيمها. لا أريد الإستفاضة في الحديث عن تجربة ثريا ما جدولين الشعرية ، وهي مرتع خصب ومغر للحديث ، إن هي إلا إطلالة وجيزة على هذه التجربة ، وإنصات إلى بعض بوحها الشعري الدافئ الشجي . وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.