صدر للشاعرة ثريا ماجدولين، عن دار الثقافة، ديوان جديد اختارت له من العناوين «أي ذاكرة تكفيك؟»، وهو عنوان لقصيدة من بين عشر قصائد كبرى يتضمنها، وهي على التوالي: ظل الغائب، قوس فرح، سدرة البدء، الشاعر، أضئني أيها الليل، تقوى الفراشة، يقودني عماي إليك، عادة شوق شذرات. لاختيار عنوان ديوان «أي ذاكرة تكفيك» ما يبرره فنيا ودلاليا: فالعنوان جاء عبارة عن سؤال تتوجه به الذات الشاعرة نحو مخاطب مفترض في حاجة إلى ذاكرة تحمي شتات وقائع يخوضها ضد الذات أو الآخر المفترض. وهذا المتلقي المفترض لن يكون سوى الشعر ذاته. مادام وحده لا حد لوقائعه، ولا مساحة تحدد إحداثيات الذاكرة التي تقدر على استيعاب حمولاته الشعورية وقيمه المتدفقة إنسانيا. تقول الشاعرة متجهة صوب مخاطب مخاتل: «لن تحتاج إلى دالية كي/ تنسى/ أنت مهيأ منذ الآن/ للنسيان/ مهيأ لتكون ظل نعاس/ وظل غياب/ يتبع قزحيات المعنى/ في عري العالم» ص 14. ويبدو من خلال القراءة الأولية للنصوص أن الشاعرة تنصرف إلى تعرية المشاعر الحقيقية التي غالبا ما تستتر خلف لبوسات خارجية مفتعلة، معبرة عن مدى تذمرها من التصرف البشري تجاه ذاته والقيم التي وضعت رهن إشارته من أجل أن يبقى آدميا. وتشخص الشاعرة طيلة المنجز بليغ الكثافة الطرق الكارثية التي تداس بها المشاعر الإنسانية على مرأى ومسمع من الإنسان نفسه، متسائلة كيف تموت الغريزة المجبولة على الخير في هذا الكائن المتصدع، وكيف يبيح لضميره تغليب ما هو شرير على ما هو طيب في ذاته. ولكي تعزز طرحها بالنقيض، تذهب إلى امتداح القيم الجميلة وتبين بالصور دورها في حفظ الرونق المشع للحضارة الإنسانية، وكيف تسمو هاته القيم بالذات صوب الملكوت العامر بعيدا عن الأدران والأوساخ التي تحملها المدنية المادية الهوجاء. تحدو الشاعرة، وهي تمزق غشاوة الغياب عن المعنى، الرغبة العارمة في معانقة المطلق، والغوص في الأغوار الخبيئة هربا من تفاهات العالم العكر وتوقا إلى العالم الفوقي الذي لا تغريد فيه سوى لمعزوفات الروح المثلى. تقول الشاعرة: «لا ترسم قسمات الليل/ وحدك/ اذهب إلى سدرة الضوء/ خفيفا/ مثل ظل وردة/ مد يدك/ إلى سقف روحك/ تعلم بهجة الرقص» ص 9. وتحرص الشاعرة، طيلة بوحها الذي ينطلق من الذات ليتجه صوب الكون، على تحريض القارئ من أجل اقتحام مكامن الجمال في الوجود، والتغاضي عن التفاهات التي تحكمها همجية المادة، حيث تشكل ذات المخاطب الذي يسكن الذات الأنا والهو في الآن نفسه، وتبقى اللغة هي الوتر المتناغم الذي تبدل الشاعرة لحنه متى شاءت كي تعبر عما يجيش في الخاطر من رؤى وهواجس ومخاوف ومطامح. لكن هذه الانفعالات كلها لا تهبط دفعة واحدة بشكل منتظم، بل تمطر رذاذا متباعدا مشتتا كأنما تذروه عاصفة هوجاء. تستلهم الشاعرة عناصر كونها الشعري من مرجعية واقعية جوهرها الذات التي تمدها بكل المعاني، خاصة وأنها الذات الكسيرة الملفوفة بالصمت والحزن والغياب وكومة من المشاعر المتضاربة التي يؤججها مسلسل الخيبات المعلن عنها أو المسكوت. فهي الخزان الذي يفجر القول وينميه ويحفزه ويمنحه هوية معينة. ليبقى الشعر هو الملاذ والمتنفس الوحيد الذي تلجأ إليه الذات الشاعرة من أجل تفريغ الهم وتخفيف ضغط اليومي المتكرر. أما المخاطب الذي يتوجه إليه أغلب الخطاب الشعري، فهو الحصن الذي تتوق إليه الذات. إن التجربة هنا، تستدعي النزوع الصوفي في الشعر، حيث التوق صوب معال تخلقها القصيدة وحدها عن طريق اضمحلال الذات في بوحها وتماهيها في جوهر كلامها المقول، وبهذا المعنى تصبح القصيدة مطية للعبور من واقع معيش منبوذ نحو واقع متخيل محمود. وهنا تكمن صعوبة التجربة التي لن تصبح مجرد لعب بالكلام، ونسج بالصور، بل هو رؤيا تمر الذات من محن اكتشافها، وقيظ لفحها. «أعرني يديك/ كي أمحو الليل الكثير/ فوقي/ وأرسم وجه الصباح/ يا قطرة الندى الشفيفة/ أريد أن أغرق فيك/ وأردم في موجك/ ناري المقدسة/ فهل فيك متسع لغريق؟» ص 118. ويعزز ما ذهبت إليه، احتفال الديوان بالمعجم الصوفي الغزير «النار، المقدس، الحريق، الندى، الرواء، لهيب، الشوق، الالتحام، المطر، الحضور، الغياب، الحب، الضوء، التغريبة، الجبة...». كما أن معاني الانتثار والتلاشي والغياب تحضر بشكل ملفت، «لا أحتاج إلى أرض لأقف/ ولا أحتاج إلى سماء لأطير/ لا مكان لي/ لا زمان/ لا تشبهني صفاتي/ لا يكفيني اسم واحد/ أمشي مثل القصيدة الحرة/ لا قيد لي/ ولا أحن إلى قافية» ص 100. إن الإيقاع الذي تنتظم وفقه اللبوسات الشعورية للنصوص هو غير إيقاع البحر الشعري الخليلي، وإنما هو إيقاع الروح وهي ترقص في محفل الصعود إلى الذات طلوعا وهبوطا، وإنما هو هذا النغم الروحي المتدفق الذي يسمو على كل وزن خارجي. ليس الشكل إذن ما يتحكم، بل المعنى الذي يسيل دون هوادة بلا انتظام ولا حدود. تصير الشاعرة ناسكة متصوفة تروم العلى الخفية للكون «لست فراشة/ ولا أحب الحريق/ لكن/ لأمر ما/ تميل النار إلي» ص 121. كل هذا الانمحاء ناجم عن سخافة العالم السفلي الذي ضاقت به الشاعرة ذرعا: «نسيت الصبح مشتعلا/ في الأزقة/ ملأت عيني/ بعري العالم/ وأخفيت ورائي/ عتمة الحواس» ص 90.