يُنتظر أن يصدر مع نهاية أكتوبر الجاري، تقرير اللورد «ليفسون» حول ممارسات الصحافة البريطانية التي اعتبر التقرير أنها بحاجة ّإلى سياج قانوني يحول دون تكرار الفضائح التي هزت ثقة البريطانيين في مؤسساتهم. و يتبين من المهمة التي قام بها اللورد «ليفسون» بتكليف من الوزير الأول «ديفيد كاميرون» و التي دامت سنة كاملة ،قدرة المملكة المتحدة على مراجعة نفسها و على مساءلة مستقبلها و إعادة النظر في نموذجها المجتمعي. مارك روش بعد سنة كاملة من البحث و الاستماع، يُنتظر أن يقدم اللورد «ليفسون» ، نهاية أكتوبر الجاري، تقريره الفاضح حول ممارسات الصحافة البريطانية. و ينص التقرير -حسب ما تسرب منه - على ضرورة فرض قيود على الصحفيين من أجل إعادتهم للصف.و قد جاء تحقيق القاضي المعين من طرف الوزير الأول «ديفيد كامرون» نتيجة لفضيحة التنصت التلفوني الذي قامت به الصحيفة المندثرة «نيوز أوف ذو وورلد» (أخبار العالم) للمليونير الأمريكي «روبرت مردوخ». و سيظهر تقرير «ليفسون» مدى تأثير «مردوخ» على الطبقة السياسية و الشرطة. و تندرج قضية «مردوخ»، و هي نوع من الويترغيت الانجليزية، التي انفجرت قبل أربعة عشر شهرا، في السياق الأوسع لإصابة عدد من المؤسسات البريطانية بالوهن، و انعدام المصداقية. فالفضائح المتوالية التي ضربت سمعة المؤسسات الكبرى لبريطانيا العظمى، زعزعت العلاقة بين الحاكمين و المحكومين. و في هذا الإطار يقول «توني ترافرس» و هو عالم سياسة في «لندن سكول أوف إيكونوميكس» : «نادرا ما شهد تاريخ هذا البلد أزمة مؤسسات مرتبطة بالإدارة». و أول هذه القضايا ما قامت به صحيفة «نيوز أوف ذو وورلد» من قرصنة الرسائل الصوتية لآلاف الأشخاص، من بينهم مئات من المشاهير، مما أدى إلى إلحاق الضرر بسمعة الطبقة السياسية برمتها.و من هؤلاء «ديفيد كامرون» نفسه المتهم هو و عدد من وزرائه بالقرب من عشيرة «مردوخ».و لا يبتعد البرلمان أيضا عن الرذاذ الذي أثارته فضيحة المصاريف المفرطة التي استفاد منها أعضاؤه. كما توجد الشرطة في قفص الاتهام ،بسبب محاولات بعض كبار الضباط المرتبطين ب»نيوز كوربوريشن» (امبراطورية مردوخ) خنق التحقيق حول تجاوزات عدد من الصحفيين الباحثين عن السبق. فيما يتعلق بالإعلام، فعلاوة على تقرير «ليفسون» حول أساليب «صحافة الرصيف»، فإن ال»بي بي سي» المحترمة قد تجاهلت الأخبار حول ماضي «دجيمي سافيل» أحد صحفييها المشهورين و تحرشه بالأطفال. كما أن فشل الترخيص لاستغلال الخط السريع بين لندن و إدمبورغ و التأخير في تسليم الإرهابي أبو حمزة إلى الولاياتالمتحدة قد أضرت بسمعة الوظيفة العمومية، التي كانت تُعتبر لحد الآن هي أفضل الإدارات في العالم.و علاوة على هذا الانهيار تنضاف الأزمة غير المسبوقة للسلطات المحلية بسبب الاقتطاعات من الميزانية التي قامت بها الحكومة. هذه الصعوبات المالية تفسر رفض ناخبي كثير من المدن اتباع نموذج لندن التي عينت عمدتها عن طريق الاقتراع العام.و لم يتم ملاحظة هيمنة العاصمة على باقي المدن مثل ما لوحظ خلال الألعاب الأولمبية الماضية. أما بخصوص الكنيسة، المنقسمة حول المثلية الجنسية للرهبان و حول تعيين النساء كقسيسات و حول وضعية دين الدولة، فقد ازدادت انقساما بين التقدميين و المحافظين بمناسبة اختيار خليفة ل»روفان ويليامس» في منصب مطران كانتربوري. و لتكليل جميع هذه القضايا جاء الإعلان عن استفتاء 2014 حول استقلال اسكوتلاندا مما يؤشر على ضعف سياسة الجهوية التي زادت في الاستياء المتبادل داخل أمة أكثر تشرذما من أي وقت مضى. أما بالنسبة للباقي،فإن الانتماء للاتحاد الأوربي لم يعد هو العمود الفقري لدبلوماسية وزارة الخارجية البريطانية.ففي 15 أكتوبر، أشارت «تيريزا مي» وزيرة الداخلية إلى أن المملكة المتحدة تعتزم فرض حقها في عدم الالتزام ب 130 مقتضى من المقتضيات الأوربية المتعلقة بالعدل، من ضمنها تلك الخاصة بالاعتقال. و على خلفية أزمة الأورو , رغم أن البلاد ليست عضوا في منطقة الأورو, إلا أنها تُعتبر ضحية جانبية له , فإن الانسحاب من الاتحاد الأوربي أصبح ضمن جدول أعمال يمين مهووس بشياطين القومية القديمة. على الصعيد الاقتصادي، أخيرا،فإن الكشف عن تلاعبات بعض التجار و البنكيين في معدلات الفائدة البنكية و انعكاسات كثير من الفضائح المالية المدوية قد سودت وجه البلاد المتضرر أصلا بسبب الأزمة. من المحقق أن هذه القضايا ليس لها سبب وحيد.كما أن هذه الأزمة ليست خاصة ببريطانيا/ كما توضح ذلك المظاهرات التي تغزو منطقة الأورو ضد سياسات التقشف،. إلا أن هذه المخاطر تلقي أضواء كاشفة حول التحولات الجارية فيما وراء المانش.و على مستويات عدة، فإن انهيار امبراطورية «روبرت مردوخ» البريطانية، مثلها في ذلك مثل التقلبات المؤسساتية، تعكس نهاية مرحلة. و من المفارقات، أنه إذا كانت الأركان التقليدية للنظام (الباطرونا و النقابات و الأرستقراطية ) غير مسموعة اليوم, فإن ثلاث مؤسسات من مؤسسات «النظام القديم» تحظى بالإجماع و هي المؤسسة الملكية و القوات المسلحة و العدل،التي تجسد استمرارية الدولة و الشعور بالواجب.فنجاح اليوبيل الماسي للملكة، البالغة 86 من العمر، و الشعبية التي حظي بها الجنود خلال الألعاب الأولمبية و القضاة الذين تميزوا باستقلاليتهم كلها شكلت بوصلة لشعب تائه وسط الزوابع السياسية و الاقتصادية التي تهز العالم. و كما يشير إلى ذلك النائب العمالي «تريسترام هانت» فإن «التشنجات الحالية ليست نتيجة للعمل الحكومي بقدرما هي نتيجة للمجتمع المدني، و للغضب ضد النخبة». فهذا النائب المؤرخ يحاول وضع هذه التحولات في سياق المملكة التي أفلتت من الثورات ,باستثناء الحرب الأهلية بين 1642 و 1649 ,و الغزوات التي اجتاحت القارة و جددتها في نفس الوقت. و يتحدث النائب عن تغيير مخملي يجري حاليا لا علاقة له بالاضطرابات المؤسساتية في الماضي و لا بالمعارك التي غيرت وجه تاريخ المملكة مثل إصلاح قانون الاقتراع سنة 1832 أو إلغاء التشريع الحامي لتجار الحبوب سنة 1846 أو تقليص سلطات مجلس اللوردات سنة 1909 أو إقرار الدولة المنقذة سنة 1945 أو تحرير الآداب سنة 1960. و قريبا منا فإن «مارغريت تاتشر» قد حاولت ما بين 1979 و 1990 ،تقويم الوضع الاقتصادي من خلال الخوصصة و مكافحة المكتسبات النقابية. و من جهته قام العمالي «توني بلير» بمحاولة إعادة تنظيم السلطات و أدخل تعديلات على استقلال بنك انكلترا و الجهوية و حرية الإعلام و هي كلها ساهمت بعمق في تغيير وظائف الدولة. هذه الفضائح الحالية التي تهز المؤسسات البريطانية و لجان التحقيق البرلمانية حولها كيف ستكون بريطانيا بعدها, بالنسبة ل»بيتر يورك» الخبير في الطبقة العليا للمجتمع فإن « مفهوم المؤسسات المشكلة من الحزب المحافظ و الكنيسة و النبلاء و الملكية. هذه الطبقة الحاكمة الجديدة مشكلة اليوم من مهنيي الدولة بمفهومها الواسع و من الإعلام و الصناعات الثقافية و كذا من الأثرياء الأجانب. و قد مر هذا التغير بسلاسة و هدوء على الطريقة الانجليزية». و غير بعيد عن شارع أكسفورد يوجد نادي الشباب الثري و المحافظ «هوم هاوس». يجسد الشباب الذي يتناول قهوته في صالون النادي بوضوح الدائرة الحاكمة الجديدة. رجال في الأغلب الأعم، لابسين دجينات و قمصان بياقات مفتوحة، حاملين لحواسيب و هواتف ذكية يثيرون نقاشات صاخبة، هذا هو الوجه الجديد للنخبة البريطانية المحافظة. و من جهته يقول الفقيه الدستوري «فيرنون بوغدانور» أن هذه الطبقة تتشكل من مجموعات صغيرة مثل مجموعات الأميبيا، تخلق ثم تندثر و تغير إسمها باستمرار: «فالثورة الصامتة الحالية تعيد توزيع السلطات داخل نفس طبقة الضباط، و ليس بين ضباط و جنود». و رغم التغيرات الاجتماعية، فإن بناء مجتمع متعدد الثقافات و الأنماط يتم بالموازاة مع تعايش الطبقة القديمة مع القادمين الجدد. و غير آبه بهذه التغيرات تظل ال»كوينس انغليش» أي اللغة الانجليزية الصافية التي لا تشوبها لُكنة، هي المرجع الاجتماعي في بلد تتفاقم فيه الانقسامات الاجتماعية. و بخصوص تشكيل اللجان و تحرير التقارير و بطء المسطرة عموما، يشكك «سيمون دجنكنس» الصحفي المكلف برئاسة مؤسسة حماية التراث، و الذي شارك في عدد من لجان التحقيق، يشكك في جدواها حين يقول : « هذه اللجان تساهم في تهدئة الجمهور و تقلص من التأثير السياسي لقضية من القضايا، و لو كانت النتيجة ضئيلة» فهو لا يحب إضفاء الهالة الإعلامية على القضاة أو على رؤساء اللجان -كما هو الحال بالنسبة للقاضي «ليفسون»- الأمر الذي يضر بنزاهة النقاش. و يقول محاورنا ، الذي يعرف «روبرت مردوخ» أن هذا الأخير قد تعرض للنقد اللاذع طيلة التقرير و وُصف بأوصاف ليست فيه. أما آخر عقبة تواجه الثورة المخملية، فهي غياب المجتمع المتعدد الثقافات في السجال الحالي.فظاهريا تبدو المملكة المتحدة و قد نجحت في إدماج أقلياتها أكثر من نجاح دول القارة في ذلك.فميليباند زعيم الحزب العمالي يهودي مثلا كما أن البارونة وارسي رئيسة حزب المحافظين ما بين 2010 و 2012 مسلمة من أصول هندية كما أن العديد من مقدمي البرامج و من الصحفيين التلفزيونيين ينحدرون من الأقليات المهاجرة.و بفضل نظام الاقتراع الأحادي الإسمي ذي دورة واحدة الذي يقصي المتطرفين و أيضا بسبب التقليد القديم في التسامح, فإن الفاشيين الجدد او الإسلاميين المدعومين من اليسار يبقون تنظيمات مهمشة رغم الانكماش الاقتصادي. إلا أن هذا لا يمنع أغلبية الشباب الأنتيلي و البنغالي من الخروج في المظاهرات الحضرية للعام الماضي إلى جانب صغار البيض الموجودين في أسفل السلم الاجتماعي.و رغم تراجع الميز الجنسي في مجال الأعمال, إلا أن النساء أقل حضورا في الفئات العليا للصناعة و الإعلام و القانون... و يبقى مثال تعيين «جورج إنتويستل» في شهر يوليوز الماضي على رأس الإدارة العامة للبي بي سي على حساب ثلاث مرشحات أكثر منه خبرة دليلا على اصطدام النساء بالحواجز الذكورية التي تحد من طموحاتهن المهنية. و باستثناء «ريبيكا بروكس»، فإن كافة المسؤولين السابقين و الصحفيين السابقين لامبراطورية «مردوخ» و كذا رجال الشرطة المتهمين أو المشتبه فيهم بعرقلة عمل العدالة هم رجال بيض متوسطي الأعمار... و هذا وحده أبلغ من كافة خطب العرش الداعية إلى المساواة. و أمام هذا الوضع يتساءل «بيتر يورك» «هل بإمكان ثورة مخملية تغيير ثقافة بأكملها؟». عن صحيفة «لوموند» 22 أكتوبر 2012