في صيف عام الفين دعا الرئيس الأمريكي كلنتون إلى عقد قمة أمريكية إسرائيلية فلسطينية في منتجع كامب ديفيد ، وكان الطرفان الأمريكي والإسرائيلي يراهنان على أن الجانب الفلسطيني في وضع ضعيف يتيح لهما تحقيق مكاسب هامة . واضطر الرئيس أبوعمار للمشاركة رغم تصريحاته المتكررة بأن الظروف غير مواتية وأن من الأفضل أن يتم التحضير لها جيدا حتى لا تفشل . وطيلة أيام القمة كان الأمريكيون يتوعّدون الوفد الفلسطيني بأن عدم التوقيع على إتفاق سيعني قطع المساعدات الأمريكية والعمل على إنهاء التعاطف الدولي مع شعب فلسطين . وقد أكد ذلك الأخ أبومازن عندما قال ( إن الأمريكيين قالوا للوفد الفلسطيني إنكم ستحصلون على مليارات كتعويضات ضخمة ، لكننا رفضنا ذلك) . وفي الكثير من الأحيان كان الأمريكان يقولون للرئيس أبوعمار بأنه برفضه التوصل إلى إتفاق فإنه يخسر فرصة تاريخية لا تتكرر ، وأن كل المطلوب منه أن يعلن عن إتفاق على القضايا المتفاهم عليها وترك قضية القدس لمرحلة لاحقة . وفي اليوم الثالث عشر من القمة ذهب الرئيس كلنتون ومساعدوه إلى مقر إقامة الأخ أبوعمار وحاول أن يجبره على توقيع إتفاق ، أخطر ما فيه إبقاء الحرم القدسي تحت السيادة الإسرائيلية ، ورفض تحميل إسرائيل أية مسؤولية تجاه مأساة لاجئي 1948 . وفي مقابل ذلك فإنه مستعد على الفور لعقد ندوة صحفية يعلن فيها إعترافه بدولة فلسطينية مستقلة وتقديم أربعة ملايير دولارلها . وقد رفض الأخ ابو عمار هذه المقترحات وأصرّعلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي ينص على الإنسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس ، وحل قضية اللاجئين على أساس قرار الأممالمتحدة رقم 194 الذي ينص على عودة لاجئي 1948 إلى ديارهم وممتلكاتهم والتعويض على من لا يرغب في العودة . وقد روى لي الأخ هاني الحسن الذي كان ضمن الوفد الفلسطيني أنه عندما بدا كلنتون وكأنه يملي الموقف على الأخ أبوعمار قال له ( يبدو أن سيادة الرئيس لم ينم بالأمس جيدا ) ، فقالت له وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت ( يجب أن لا تنسى أنك تخاطب رئيس أعظم دولة في العالم ) ، فقال لها ( ألم تسمعي ماذا طلب مني ؟ ) . وبحسب رواية الأخ هاني فإنه بعد انسحاب كلنتون عاد مدير الإستخبارات المركزية الأمريكية وقال للأخ أبو عمار مهددا ، بأن عليه أن يوقّع على ما طلبه منه كلنتون الآن وإلا . . . وكان رد الأخ أبوعمار : إنكم لن تجدوا ولو بعد مئة عام فلسطيني واحد يوقّع على ما تطلبون . وانا لن أوقّع ، وبإمكانكم أن تسبقوني إلى غزة للتحضير والمشاركة في جنازتي . في اليوم التالي عقد كلنتون مؤتمرا صحفيا أعلن فيه إنتهاء القمة ، ورغم أنه قال « أنا لا أدين عرفات « إلا أنه قال ( إنني أشيد بإيهود باراك الذي أعتقد أنه تحمّل مجازفة وأظهر شجاعة وحكمة ، فقد أتى إلى هنا ليقوم بعمل في مصلحة إسرائيل ولا بد أن يكون شعبه فخورا به وأن يمنحه الدعم) . وفي المؤتمر الصحفي قال باراك إن مواقف الرئيس أبوعمار حالت دون التوصل لإتفاق . فرد عليه أبوعمار بالقول لصحيفة عكاظ السعودية يوم 27/7/2000 ( إذا كان تمسّكي بالقدس الشريف وبحقوق الشعب الفلسطيني تسبّب في إفشال القمة فأنا سعيد بذلك). على إثر ذلك اتخذ الأمريكيون والصهاينة قرارين: الأول بإعادة إحتلال الضفة والقطاع ، والثاني بمحاصرة الرئيس أبو عمار في مقرّه بمقاطعة رام الله ومن ثم التخلص منه بأية وسيلة ، وفي المقابل انطلقت الإنتفاضة الثانية . وبدأ الصهاينة بتنفيذ مخططهم حيث إجتاحت قواتهم أراضي الضفة والقطاع وحطمت غالبية مقرات السلطة الفلسطينية المدنية والعسكرية ، وفرضت حصارا شاملا على الأرض الفلسطينية وأحاطت دباباتهم بمقر الرئيس أبو عمار ، ودام هذا الحصار قرابة ثلاث سنوات لم يجرؤ خلالها معظم الحكام العرب على مجرد الإتصال به تلفونيا للإطمئنان عليه وليس التضامن معه . وفي 27 سبتمبر / أيلول 2003 نظمت الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني تظاهرة مليونية تضامنا مع الرئيس المحاصر ومع الإنتفاضة ، وكانت أضحم مسيرة من نوعها في العالم . لما عدت إلى البيت لم أستطع أن أحدد لماذا نحب أبو عمار بالضبط ، فقد اختلطت كل المشاعر من تقدير واحترام وإعجاب منطلق من ممارساته ، حيث شكّل طائر الفينيق الذي كلما أحرقوه انطلق ثانية من تحت الرماد ، ومثّل الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه أو القفز عنه ، ولأنه وهو قائدنا نشعر بأنه كأي واحد منا . ووجدتني أردد ما قاله شاعرنا الكبير محمود درويش . . . نمشي ونختلف . . . نمشي وأكتشف . . . أني معك . . . إني لأعترف . . . بعض الحرائق عرسنا الناريّ . . . لكن بعضها ترف . . . ولقد نقاوم أن تساوم . . . أو تداوم عند منطقة اللعب . . ونموت من ضجر أمام تداخل الأضواء مابين الحقيقة والكذب . . . لكننا نحميك منك لنتبعك . . . وإذا تطاول منحن لينال من كوفية الحلم المحرّم . . . أنشبت أظفارنا أظفارها . . . حتى نراه بعاره المسحوب يلتحف . غفوت قليلا ، ولكن ما يغلي في داخلي ظل يعتمل ويتشكل حلما. .رأيت فيما يراه النائم كل الأعلام العربية مرفوعة في الناحية الغربية من الحرم القدسي الشريف ، ورأيت موكبا طويلا من السيارات الأمريكية الفارهة تتوقف في ساحة البراق المواجهة لباب المغاربة أي على الساحة التي أقامها الصهاينة على أنقاض حي المغاربة وخصصوها لغلاة المتدينين للصلاة أمام الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي يسميه الصهاينة حائط المبكى . ورأيت اريئيل شارون يجلس على كنبة ضخمة موضوعة على منصة عالية مبنية أمام الحائط ، بكرشه المتدلي كتل صغير أمامه ، والذي لم تفلح البدلة العسكرية المشدودة في إخفائه ، ويضع قلنسوة سوداء تبدو كخف كبير على مؤخرة رأسه، وبيده ما يشبه عصا الماريشالية أو صولجان الملك . توقف موكب السيارات ، وبدأ ركابها بالنزول، بعضهم يلبسون أزياء عربية تقليدية وآخرون ملابس عسكرية . اقتربت من المكان وحقّقت في الوجوه ، فعرفت لكثرة ما رأيتها في التلفزيونات والصحف والمجلات أنهم حكام الأقطار العربية . جاءت مجنّدة صهيونية قصيرة قميئة سمراء يبدو من ملامحها أنها من الفلاشا ، واستغربت من شكل هذه المجندة المختلف تماما عما في مخيلتي لأشكال المجنّدات الإسرائيليات الجميلات ، ولعل شارون ومستشاروه اختاروها بهذه المواصفات لتناسب المقام . نادت المجندة بصوت كالصفير وبلغة عربية مكسّرة : أيها الحكام العرب ، لقد استدعاكم سيدكم شارون الذي تنازل وأبقاكم على كراسيكم ولاة له على أقطاركم ، ويريد أن يتفرّج عليكم وأنتم تعقدون مؤتمرا للقمة في ضيافته وتحت حمايته ورعايته ، فهل التزمتم بما حدّدناه لكم في بطاقة الدعوة من حيث اللباس . . . عباءة من الحرير أرجوانية اللون وبرنس من وبرالجمال رمادي اللون ، أو بدلة عسكرية عليها كل النياشين التي أنعمتم بها على انفسكم رغم هزائمكم ؟؟ فأجابوا بصوت واحد : نعم يا سيدتي ، فقالت : هيّا تقدموا في طابور كي يستعرضكم سيدكم ، أما الذين لم يحضروا فسنعرف كيف نتعامل معهم . وهنا بدأت ضجة وصراخ تبينّت منه أنهم مختلفون على ترتيبهم في طابورالإستعراض ، فهناك من يطالب بأن يكون الترتيب حسب العمر، وهناك من يطالب بأن يكون حسب الأقدمية في الحكم ، ومن يطالب بتطبيق نظام الطابور العسكري أي أن يكون الترتيب حسب الطول . وسمعت المجنّدة تصرخ فيهم : كنا نعلم مسبقا بالفوضى التي ستحدثونها ، فوضعنا لكم ترتيبا بمواصفاتنا نحن . سنكرم أكثركم تعاونا معنا بوضعه في مقدمة الطابور ، يليه الأقل تعاونا . أخذت تنادي عليهم بالأسماء ليصطفوا ، ورأيتهم يهرولون ليقفوا في الطابور بنظام وانتظام ، بعضهم بكروش متهدلة وبعضهم بالكاد يستطيع المشي ، وبعضهم كانه أصيب بداء الرجفة/ الباركنسون . وبعد أن انتهت من تلاوة الأسماء مجردة من أية ألقاب قالت لهم : اتبعوا التعليمات التالية ، تبدؤون الطابور منكّسي الرؤوس ، وعندما تصبحون على بعد خمسة أمتار أمام منصة سيدكم تنحنون تماما كركوعكم وأنتم تصلون ، وتنزعون ما على رؤوسكم من كوفيات وعمائم وطرابيش وطاقيات ، وعندما يصل أحدكم أمام سيده يسجد ويقبل التراب الذي وطأه السيد ويعفّر وجهه بالتراب تبرّكا . وإذا خالف أحدكم التعليمات ، فإن مصيره سيكون كمصير زميلكم الإرهابي المخرّب ياسرعرفات . في هذه اللحظة صحوت مذعورا والعرق يتصبّب مني ، أبسمل وأحوقل وأحمد الله كثيرا أولا لأنني أفقت قبل أن أرى مشهدي الركوع والسجود لأنني لو رأيته فلربما لن أفيق أبدا . وثانيا على أن ما رأيته كان أضغاث أحلام . وعدت لأشخص بعيني إلى شاشة التلفزيون لتطالعني صورة مقر الأخ أبوعمار وهو محاط بالدبابات الصهيونية ، وأسمع المذيع يقول بأن القوات الصهيونية قد وضعت متفجرات على كل جدران المقر وتطلب من الرئيس الإستسلام هو وكل من معه وإلا فإن المقر سيتم تفجيره على رؤوس من فيه ، ثم سمعت رد الرئيس أبوعمار الحازم والحاسم . . . يريدونني أسيرا أوشريدا أو طريدا ، ولكنني أقول لهم . . بل شهيدا شهيدا . واستعدت الهتافات المدوية المنطلقة من حناجر الأطفال والنساء والرجال في المسيرة. . . عالقدس رايحين ، شهداء بالملايين .