"حوار" يناقش مستقبل الجالية بهولندا    تناول كمية متوسطة من الكافيين يوميا قد يقلل من خطر الإصابة بألزهايمر (دراسة)    إيداع مستهدف للموكب الملكي "بقنينة مشتعلة" مستشفى الأمراض العقلية    الأغلبية البرلمانية تناقش آليات تفعيل خطاب الملك بشأن الوحدة الترابية    أزمة دبلوماسية بين الهند وكندا بعد اغتيال زعيم انفصالي في فانكوفر    غلوري توقف بنصديق ل10 أشهر بعد ثبوت تعاطيه للمنشطات    كأس أمم إفريقيا 2025 بالمغرب.. الجزائر تحجز بطاقتها إلى النهائيات رفقة الكاميرون وبوركينافاسو        بتنسيق مع المخابرات.. الأمن يوقف مزوراً للأوراق المالية بسلا    جوزيب بوريل يجدد التأكيد على "القيمة الكبيرة" التي يوليها الاتحاد الأوروبي للشراكة الاستراتيجية مع المغرب    أزيد من 3 ملايين مسافر عبروا الموانئ المغربية خلال عملية مرحبا            آيت الطالب يعلن عن قائمة جديدة من الأدوية التي سيتم خفض أسعارها        إصابة لامين جمال تربك حسابات برشلونة قبل قمتي بايرن ميونيخ وريال مدريد    بعد 10 سنوات زواج...طلاق فرح الفاسي وعمر لطفي    رئيس مجلس الشيوخ البرازيلي: بلادنا تتطلع إلى الارتقاء بعلاقاتها مع المغرب إلى مستويات أعلى        فيضانات تازة تودي بحياة سيدتين وتخلف خسائر مادية جسيمة    الكاتب العام لعمالة إقليم الناظور يترأس الذكرى 26 لوفاة الملك الحسن الثاني    "البام " يرشح إبن برلماني من "الأحرار" لخوض غمار الانتخابات الجزئية بخريبكة    الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء – سطات تطلق عملية واسعة النطاق لتنقية شبكة التطهير السائل بالجهة    تعليق الدراسة اليوم في مدارس العالم للقروي بورزازات بسبب الأمطار الطوفانية    مجلس المالكي يُؤكد سطوة الخيار الفرنسي على التعليم باتفاقيات جديدة للشراكة    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية مصحوبة بحبات البرد وبهبات رياح مرتقبة اليوم الإثنين    عجز الميزانية بالمغرب يتراجع إلى 26,6 مليار درهم عند متم شتنبر (الخزينة العامة للمملكة)    تحذير من أمطار عاصفية هذا اليوم    دولة إفريقية تعلن تسجيل أول حالتي إصابة بفيروس جدري القردة    "لوموند": المغرب لديه "أكبر مسرح" في إفريقيا كلف بناءه 200 مليون أورو لكنه مغلق    فيلم "تيريفاير 3" يتصدر شباك التذاكر    دارون أسيموغلو وسيمون جونسون وجيمس روبنسون يفوزون بجائزة نوبل للاقتصاد لعام 2024    ماريا نديم تظهر لأول مرة مع مولودها وتكشف عن إحساسها بالأمومة (فيديو)    هذا موعد الدورة المقبلة من مهرجان موازين إيقاعات العالم    هزالة الأجر ومدة التعاقد وقضايا أخرى تدفع الأطباء المقيمين والداخليين للإضراب    تراجع أسعار النفط بفعل مخاوف بشأن الطلب في الصين    دراسة: تناول كميات طعام أقل قد يكون له تأثير إيجابي على متوسط العمر المتوقع        الكاف يحدد موعد انتخاباته الرئاسية    حزب الله يستهدف ثكنة في وسط اسرائيل    "الفوارق في الثروة" تفوز بنوبل الاقتصاد    ترتيبات جديدة تنظم "إسعاف السفر"    دراسة: الذكاء الاصطناعي ساعد في اكتشاف آلاف الأنواع من الفيروسات        جامعة كرة القدم تكرم لاعبين دوليين بالمنطقة الشرقية    المعهد المغربي للتقييس يخلد اليوم العالمي للتقييس    رحيل المفكر اللبناني مصطفى حجازى صاحب كتاب "سيكولوجية الإنسان المهدور" عن عمر ناهز ال 88 عاما    قتلى وإصابات خلال قصف حزب الله لإسرائيل    السلاح النووي والصراع بين إسرائيل وإيران يدقان ناقوس الخطر في المنطقة    توقيف شخص مسلح قرب تجمع انتخابي لدونالد ترامب    قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مركز توزيع أغذية في جباليا    من التصيد إلى الاحتيال .. هكذا تحمي نفسك في العالم الرقمي    أعراض داء السكري من النوع الأول وأهمية التشخيص المبكر    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض مني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 01 - 2012

يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1979 ذهبت رفقة وفد وزاري وحزبي مغربي كبير في طائرة عسكرية من نوع هيركوليس سي 130 من القاعدة الجوية بمدينة سلا إلى مدينة الداخلة ، للمشاركة في الإحتفال الذي قرر المغرب تنظيمه يوم غد ( 29 ) يمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني ? وهو اليوم الذي أقرّت فيه الأمم المتحدة تقسيم فلسطين عام 1947 ، وتكفيرا عما اقترفته بحق الشعب الفلسطيني أصدرت قرارا بإعتباره يوما للتضامن مع الشعب الفلسطيني . كانت مدينة الداخلة قد التحقت قبل أشهر قليلة بوطنها الأم ، ولم يكن فيها سوى بيت واحد مبني من الإسمنت كان مخصصا للحاكم الإسباني ، وعدد من مهاجع الجنود العالية الواسعة المقوّسة السقوف ، وبعض الأكواخ بسقوف على هيئة قباب يستخدمها الأهالي بيوتا وحوانيت في آن واحد ، مما اضطر السلطات المحلية لأخذنا إلى إحدى الثكنات العسكرية لنتعشّى ، وجعل كل اثنين منا يبيتون في غرفة واحدة في البيت السالف ذكره والذي تحول إلى مقر للعامل ( المحافظ ) ..
في الغد أقيم الإحتفال ، وألقيت كلمة ضمن كلمات المتحدثين ، نقلتها الأذاعة والتلفزة المغربية مما أثار غضب الإخوة الجزائريين الذين كانوا يساندون البوليساريو في هجماتها على المغرب . فكتبت صحيفة الشعب الرسمية الجزائرية افتتاحية تهاجم فيها ( واصف منصور الرجعي العميل الذي يسيرفي ركاب الملوك ) ، وتمت إذاعة هذه الإفتتاحية عدة مرات على أمواج الإذاعة الرسمية الجزائرية .
وبعد إنتهاء الإحتفال أخذنا نتجول على شاطيء الداخلة الجميل الذي لم أر في حياتي شاطئا مليئا بكل أنواع السمك مثله . كنت برفقة مصور جريدة العلم الأخ حمادي العوفير، فطلب مني مرافقته لشراء بعض الأشياء التي تباع بثمن رخيص نظرا لكونها تأتي تهريبا من جزر الكناري الإسبانية وتباع بدون جمارك . ومع أنني لم أرغب في شراء أي شيء ، فقد ذهبت معه ووقفت بباب الدكان انتظره . كان يقف بباب الدكان صبي بدا لي أنه في العاشرة من عمره يحملق في وجهي ، فسألته لماذا ينظر إلي هكذا ؟ فقال : الست ممثل فلسطين ؟ فقلت نعم ولكن كيف عرفت ذلك ؟ فقال : عرفتك من وجهك حيث سبق لي أن رأيتك في التلفزيون . فقلت لنفسي أنه إذا كان هذا الصبي في أبعد مدينة مغربية يعرفني ، فما عليّ سوى الإستقامة ثم الإستقامة ثم الإستقامة .
مثل هذه الواقعة حصلت في مدينة الرشيدية ، حيث ذهبت في اوائل الثمانينات رفقة الأخ أبو طارق لإلقاء سلسلة من المحاضرات في منطقة تافيلالت. أرشدنا منظمو المحاضرات إلى فندق متواضع ولكنه نظيف يملكه أحد الإخوة الجزائريين الذين يقيمون في المدينة منذ عشرات السنين ويعيش كأي مغربي واسمه الحاج المير. بمجرد دخولنا رحبّ بنا صاحب الفندق وقال : أعتقد أن الأخ ممثل فلسطين ؟ فقلت نعم ، فأعطانا أوسع وأنظف غرف الفندق ، وأخبرنا بأننا ضيوفه وسنأكل معه مما يهيؤه له عياله في البيت . ولما انتهت زيارتنا وأردنا أن نسدّد أجرة الفندق ، أقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يتقاضى درهما واحدا ، قائلا بأنه إذا كان لا يستطيع المشاركة معنا في الجهاد ، فعلى الأقل أن لا يتقاضى أجرة إقامتنا في فندقه وهذا هو أضعف الإيمان .
وحدثت حادثة شبيهة أخرى ولكنها مضحكة إلى حد ما ، فقد كنت وبعض أصهاري في مدينة مراكش ، وأشار عليّ أحدهم بأن نذهب لنأكل الحلزون في ساحة ( جامع الفنا ) ، فاعتذرت بكوني لا أريد أن أتواجد في ذلك المكان الغاصّ بالناس ، تحسّبا من وجود أحد يعرفني ، فاقترح أن نذهب في ساعة متأخرة من الليل حيث يقلّ عدد المتواجدين في الساحة . ولما ذهبنا حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا ووقفنا أمام عربة بائع الحلزون ، وقبل أن يقدم لنا البائع صحون الحلزون ، صاح به جاره قائلا ( ديربالك على ممثل فلسطين ) فضحكت والتفتّ إلى صهري وقلت له : هذا الذي كنت أخشاه ، وها قد حصل .
ولكي تتأكد حكاية الإستقامة هذه ، فقد ذهبت رفقة عمي أبو نزار لنتمشّى على كورنيش عين الذياب بالدار البيضاء مساء ذات يوم ، ولكننا لم نستطع المشي على راحتنا ، حيث كنا نمشي ونتوقف ، لأننا كنا نجد أشخاصا يتعرّفون علينا ويصرّون على مصافحتنا رغم عدم معرفتنا بهم ، مما أزعج عمي فدخلنا أول مقهى صادفناه . ولما هممنا بالخروج وأردنا دفع ثمن قهوتنا، قال لنا النادل : كان رجل يجلس هناك ،عرفكم ودفع ثمن قهوتكم وخرج . فقال لي عمي بتأثر : يا ابن أخي ، لقد أصبحت كالثور الأبلق لكثرة ما رآك الناس في التلفزيون ورأوا صورك في الصحف على مدار أكثر من ثلث قرن ، مما يستدعي أن تكون مستقيما رغم أنفك ، وويل لمن أشارت إليه الأصابع ولو بالخير .
لعل سبب إحترام الناس للطاقم القديم الذي استمر في عمله بمكتب ثم ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية ثم سفارة دولة فلسطين بالمغرب ، هو هذه الإستقامة ، التي عزّزت التفاف المغاربة حول قضية فلسطين ودعمهم لها ، ولا زال الوضع كذلك رغم فترة قصيرة بين تقاعد الأخ أبو مروان الذي يندر أن تجد مغربيا لا يكنّ له احتراما بالغا لنضاليته وصدقه واستقامته ، وتسلّم الأخ الدكتور أحمد صبح ( الذي أشهد أنه يسير على نفس الطريق) مسؤولية السفارة ، حيث اختلّت الموازين قليلا ثم ما لبثت أن عادت كما كانت . هذا الإلتفاف الذي لم يرق الإدارة الأمريكية . فقد حدّثني الفنان المبدع عازف العود الحاج يونس أنه في أعقاب جولة فنية له في الو لايات المتحدة الأمريكية ، أقامت له المستشارة الثقافية للرئيس جورج بوش الإبن ? وكانت سفيرة بالرباط قبل مدة ? حفل تكريم في البيت الأبيض . ولما بدأ الحفل طرحت عليه سؤالا مفاجئا : لماذا تكرهون أنتم المغاربة أمريكا ؟ فرد عليها دون تردد : نحن لا نكرهكم ولكننا نكره مواقفكم المتبنّية لمواقف الصهاينة الذين نكرههم بسبب إحتلالهم أرضنا الفلسطينية وتشريدهم أشقائنا الفلسطينيين.
في ايلول / سبتمبر 1982 اكتمل الطوق العربي الحامي للكيان الصهيوني ، فبعد ثمانين يوما من الحصار والقصف الجوي والبري والبحري على بيروت ، لم يسمع فيها المحاصرون من قوات الثورة الفلسطينية وقوات الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية إلا ما قاله الشاعر احمد دحبور وغنّته فرقة أغاني العاشقين الفلسطينية ( ثمانين يوم ما سمعناش يا بيروت غير الهمّه الإذاعيه .. بالصوت كانوا معانا يا بيروت ، والصوره ذابت في الميّه ) مما اضطر قوات الثورة الفلسطينية للرحيل ، فأغلقت آخر حدود عربية مع فلسطين المحتلة في وجه مقاتلي الثورة الفلسطينية الذين تم توزيعهم على الجزائر وتونس وليبيا والسودان واليمن والعراق وغيرها من البلدان العربية ،وحرموا من الإستشهاد على ثرى وطنهم .
كان المقر العام لجامعة الدول العربية قد انتقل إلى تونس مباشرة بعد توقيع الرئيس المصري أنور السادات على إتفاقيات كامب ديفيد . وبعد الخروج من بيروت استقرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس ، وتمّ تكليفي من قبل الدائرة السياسية لمنظمة التحرير بتمثيل المنظمة في اجتماعات اللجنة القانونية الدائمة ولجنة القانون الدولي ولجنة حقوق الإنسان في الجامعة العربية ، الأمر الذي ترتّب عليه ذهابي ست مرات على الأقل سنويا إلى تونس . وأثناء ترددي الدائم على تونس عملت على إنشاء الجمعية العربية للمحامين الشباب إلى جانب مجموعة من المحامين مثل عمر كتيلة من فلسطين وسامح عاشور من مصر وعبدالوهاب الباهي ومحمد المكشر من تونس وخالد السفياني من المغرب وآخرين من لبنان وليبيا . كما عملت إلى جانب الإخوة خليل الزبن ونبيل الرملاوي وكمال قبعة ويحيى يخلف ورياض الحسن على تأسيس الجمعية الفلسطينية لحقوق الإنسان ، وقمنا بالتعاون مع الأخ منصف المرزوقي رئيس الجمعية التونسية لحقوق الإنسان والذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية التونسية ، والأخ فتح الله الذي اغتالته الجماعات الإسلامية في الجزائر والأخت سعيدة بنحبليس التي اصبحت فيما بعد وزيرة شؤون المرأة وحقوق الإنسان في الجزائروعدد من المناضلين الحقوقيين العرب على عقد مؤتمر دولي تحت شعار ( نعم للفلسطينيين حقوق ) وترأسه المطران المناضل كبوجي .
كان من الطبيعي بعد إنتقال مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس إنتقال مقرات كل المنظمات المتخصصة المتفرّعة من الجامعة العربية إلى عواصم عربية أخرى وعقد اجتماعاتها في أية عاصمة تعرب عن إستعدادها لإحتضان الإجتماع . وقد ترتب على ذلك أن العاصمة المغربية احتضنت مقر المنظمة العربية للدفاع الإجتماعي ضد الجريمة ، والمنظمة العربية للثروة المعدنية التي اندمجت مع منظمات اخرى واصبحت المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين ، والهيئة العربية للطيران المدني ، والأمانة العامة لمجلس وزراء العدل العرب . وعقدت بعض المنظمات إجتماعاتها في الرباط مثل منظمة الزراعة العربية والمنظمة العربية للسياحة وغيرها . وقد كلفتني الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتمثيل فلسطين في إجتماعات هذه المنظمات ، وبما أن التكليفات لم تكن تتضمن سوى إرسال نسخة من الدعوة للإجتماع ونسخة من جدول أعماله ، فإنني كنت مضطرا للبحث في المواضيع المطروحة على جداول الأعمال ، مما أكسبني معرفة في مجالات عمل هذه المنظمات ووسّع مداركي وثقافتي .
ومن طرائف هذه المؤتمرات والإجتماعات أنه بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية حضر إلى المغرب وزير السياحة الفلسطيني الأخ إلياس فريج وهو مسيحي الديانة ، وكان وزير السياحة المغربي حينها السيد سيرج بيرديغو وهو يهودي الديانة ، وكنت أرى في ديانتي الوزيرين تأكيدا على أن في العروبة متسع لكل الديانات وأننا لم نعرف العنصرية والطائفية إلا مع إحتكاكنا بالأوروبيين والمستعمرين منهم . وكنت قد أعددت مع السيدة زهية دادي الصقلي مديرة التكوين بوزارة السياحة المغربية والتي تعرّفت عليها أوائل الثمانينات ومنذ ذلك الوقت أصبحنا أصدقاء لا ينقطع تواصلنا وتربطني بزوجها وأسرتها علاقات وثيقة ، أعددنا إتفاقية تعاون بين بلدينا في المجال السياحي . ولكن الوزيرين تأخرا في المجيء للقاعة لتوقيع الإتفاقية ، فسرت نكتة طريفة تقول بأنهما ربما أسلما وذهبا إلى ضريح محمد الخامس بصومعة حسان لصلاة لجمعة.
وبعد مأساة الخروج ومجزرة صبرا وشاتيلا وكارثة الإنشقاق التي شهد تها حركة فتح والثورة الفلسطينية ، كان لا بد من البحث عن صيغة جديدة للعمل المسلح إذ اصبح استئناف العمل المسلح أول الأولويات بالنسبة للقيادة الفلسطينية . فكانت إنتفاضة أطفال الحجارة التي انطلقت شرارتها يوم 7 كانون أول / ديسمبر 1987 ، ووقف العالم مشدوها أمام الطفل الفلسطيني الذي واجه بيده الغضّة ممسكة بحجر صغير دبابة الميركافا الإسرائيلية . وأعلن الرئيس ياسر عرفات في 15 تشرين الثاني / نوفمبر 1988 في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عن قيام الدولة الفلسطينية ، التي اكتسبت اعتراف عدد من الدول يفوق عدد الدول المعترفة بالكيان الصهيوني ، ورفع الأمير محمد ولي عهد المغرب علم فلسطين على مبنى ممثلية منظمة التحريربالرباط إيذانا بتحولها إلى سفارة.
قبل إعلان الدولة الفلسطينية ببضعة أسابيع حضر إلى المغرب الأخ الرئيس ياسر عرفات، وكان منتشيا ببطولات الشبان الفلسطينيين في الإنتفاضة . وبينما نحن نجالسه في بيت الأستاذ أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي المغربي ، سألني عن أبنائي ولامني بلطف لأنني لم أمكّنه من رؤيتهم وطلب مني إحضارهم ليراهم مابين العصر والمغرب حيث ليس في برنامجه لقاءات . ذهبت إلى بيتي وأحضرت أبنائي : سفيان 12 سنة ودلال 8 سنوات وسارة 4 سنوات . وقد شدّ إنتباهي أنه أخذهم وبدأيجول بهم في الحديقة ونحن بعيدون عنه ، يحادثهم ويحتضنهم بحرارة لافتة للنظر . لم يكن معنا أي صحفي أو مصور ليدّعي البعض بأنه يفعل ذلك أمام وسائل الإعلام ، مما يعني أن مشاعره نحوهم كانت عفوية ، وأنه يحمل في قلبه نبعا من الحنان المتدفق يظهره على هامش لقاءاته وإجتماعاته عندما تسمح له ظروفه وارتباطاته بذلك .
لقد ذكرني هذا الموقف بشيئين جانبيين من أمور عايشتها مع الأخ الريس ياسرعرفات ، أولاها أنه إذا كان كما يقال عن خالد بن الوليد بأنه « لا ينام ولا ينيم « ، فإن الرئيس عرفات كان يؤاكل ولايأكل . فقد كان قليل الاكل جدا ويبتعد ما أمكن عن اللحوم ، وأكثر ما كان يأكله العسل والجبن والخس والزيتون الأسود مع الشاي الأحمر. وثانيهما أنه كان يمارس الرياضة كلما أمكنته ظروفه ، وخاصة رياضة المشي . وأذكر أنه كان عندما يزور المغرب ، يحرص بعد إنتهاء لقاءاته وإجتماعاته على المشي في حديقة دار الضيافة ، وكان يمشي كما يقال في العسكرية ( الخطوة السريعة ) . وبالطبع كنا نمشي معه ، ورغم أن بعضنا كان يصغره بعشرين سنة فإننا كنا نشعر بالتعب ومع ذلك نواصل المشي لأننا كنا نستحي أن نقول بأننا تعبنا .
في هذا المجال أتذكر أن الأخ الرئيس أبو عمار جاء للمشاركة في اجتماعات لجنة القدس بمدينة مراكش أوائل عام 1990 وحضر معه الأخوان أبو إياد وأبو مازن . ولما ذهبنا لقاعة الإجتماعات في القصر الملكي ذهب الأخ أبوعماررفقة جلالة الملك الحسن الثاني للمنصة لترؤس الإجتماع وذهبت والأخ أبو مروان رفقة الأخوين أبو إياد وأبو مازن لنجلس في مقاعد الوفد الفلسطيني . تقدم الأخ أبو مازن وسحب كرسي رئيس الوفد وطلب من الأخ أبو إياد الجلوس عليه ، فأراد الأخ أبو إياد التملّص بقوله ( يا خوي إنت عضو لجنة تنفيذية للمنظمة وأنا ماليش صفة رسمية في منظمة التحريرومن المفترض أن تجلس أنت ) فقال الأخ أبو مازن بحسم ( والله العظيم إذا لم تجلس سأعود إلى الفندق ). وفي مساء نفس اليوم عندما تحلقّنا مع الأخ أبوعمار على مائدة العشاء ، أخذ الأخ أبو إياد قطعة من اللحم وأراد ان يضع عليها شيئا من الملح ، فأمسك الأخ أبو عمار يده وجرّها إلى الصحن الذي فيه كامون قائلا : انت عندك ضغط والكامون أفضل لك .... هكذا كان يتعامل الرجال القادة الحقيقيون والمناضلون الحقيقيون الذين صهرهم النضال قلبا واحدا ويدا واحدة ، وكبرنا معهم وتعلّمنا منهم ... والله يرحم أيام زمان .
وفي شهر آب / اغسطس 1990 وقع ما لم يكن في الحسبان ، عندما اجتاحت القوات العراقية الكويت ، وأعلنها الرئيس صدام حسين الولاية العراقية التاسعة عشرة . فكانت فرصة ذهبية بالنسبة للولايات المتحدة لتبتديء مرحلة إنفرادها بزعامة العالم لضرب القوات العراقية داخل الكويت وداخل الأراضي العراقية ، بعد أن كوّنت حلفا دوليا ثلاثينيا ساهمت فيه بعض الدول العربية مما مكّنه من تحقيق النصر.
لقد دفعنا كعرب وفلسطينيين ثمن هذا الغزو غاليا : أولا بتحطيم القوة العلمية والصناعية العراقية الجبّارة والقوة العسكرية العراقية التي اكتسبت خبرة في الحرب العراقية الإيرانية فأخلت بميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط ، وأثبتت ذلك عمليا بقصفها تل أبيب وحيفا بالصواريخ لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني . ودفعنا ثمنها ثانيا بطرد خمسمائة ألف فلسطيني ممن كانوا يعملون في الكويت وأعداد أخرى من الفلسطينيين العاملين في بعض دول الخليج ، هؤلاء الذين كانوا يشكّلون الداعم الأساسي ماليا للثورة الفلسطينية ، فتحوّلوا عبئا ثقيلا على منظمة التحرير الفلسطينية لا بد لها من أن تساهم في تحمله . ودفعنا ثمنها ثالثا عندما اتهمتنا دول الخليج بأننا ساندنا الغزو العراقي للكويت ، فتوقفت عن دفع المبالغ التي تعهدت بدفعها للإنتفاضة في القمم العربية المتلاحقة ، وقد تأثرت الإإنتفاضة بشكل كبير من جرّاء ذلك .
ترافق ذلك مع انتهاء الحرب الباردة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو ، مما أدّى إلى تلاشي دور حركة دول عدم الإنحياز وتحول هيئة الأمم المتحدة إلى مجرد مديرية ملحقة بالإدارة الأمريكية ، ورضي معظم الحكام العرب بأن يكونوا أدوات أمريكية . وكان ذلك مؤشرا على بدء مرحلة جديدة استهلها الرئيس الأمريكي بوش الأب بعقد ( مؤتمر مدريد للسلام ) في نوفمبر من عام 1991 ، شاركت فيه كل الدول العربية وكان آخر من شارك فيه منظمة التحرير الفلسطينية ضمن وفد مشترك مع وفد المملكة الأردنية الهاشمية .
ومر أكثر من سنة على المفاوضات في مساريها الثنائي والمتعدد دون أن تتقدم خطوة واحدة للأمام ، بسبب الأداء العربي الذي غلب عليه وصف وزير الخارجية السوري ( كل واحد يقلع شوكه بإيديه ) ، وبسبب الأداء الإسرائيلي الذي لخّصه رئيس الوزراء الصهيوني اسحق شامير بقوله ( كنا نخطط لاستمرار المفاوضات عشر سنوات ونحن نراوح في مكاننا ) .
وهكذا تم فتح قناة سرّية للتفاوض بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني في العاصمة النرويجية اوسلو ، أسفرت في نهاية الأمر عن اتفاق ( إعلان المباديء الفلسطيني الإسرائيلي ) الذي غلبت عليه تسمية ( اتفاق اوسلو ) والعديد من التسميات الكاريكاتيرية مثل : اتفاق غزة اريحا أولا و ( اتفاق غزة اريحا أولا وأخيرا ) . وتم التوقيع عليه يوم 13 ايلول / سبتمبر 1993 في البيت الأبيض الأمريكي ، بحضور غالبية دول العالم. وقد كان من حسن حظي لتواجدي بالمغرب ، أنني كنت ألتقي الأخ أبو مازن مهندس إتفاق أوسلو كثيرا بسبب كثرة تردده على المغرب للقاء جلالة الملك والتشاور معه ومع قادات الأحزاب السياسية المغربية . وفي تلك الفترة أمكنني العلم بمفاوضات أوسلو دون أن أعرف التفاصيل ، ولكن الأخ أبو مازن كان لا يتوقف عن ترديد مقولة ( نحن بذلنا كل جهدنا وهذا ما استطعنا التوصل إليه ، وسنعرضه على القيادة الفلسطينية من لجنة مركزية لحركة فتح ولجنة تنفيذية لمنظمة التحرير ، وإذا لم يقبلوه ? وهذا حقهم ? سنعتبر وكأن شيئا لم يكن ) .
وهكذا دخل الرئيس ياسر عرفات إلى غزة عام 1994 ومعه عشرات آلاف المقاتلين بصفتهم أفراد لقوات الأمن الوطني ( حيث لم ينص الإتفاق على تشكيل جيش فلسطيني) ، وأصبح المسؤلون السياسيون والإعلاميون وزراء ووكلاء وزارات ومدراء ( رغم أن الإتفاق لم ينص على تسمية وزراء ) في السلطة الوطنية الفلسطينية ( التي لم ينص الإتفاق على تسميتها وطنية ) .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.