حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . كنت فرحا وأنا أطأ الأراضي اللبنانية ، حيث سيتاح لي أن أعيش حياة أبناء الثورة وألتقي العديدين منهم من مختلف المراتب ، فالتقيت العديدين ممن كانوا قادة وقضوا شهداء كأبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وأبو يوسف النجار وأبو علي إياد وغيرهم . ورغم أنني كنت أمتلك بعض الخبرة العسكرية منذ كنت مجنّدا في ( معسكرات الحسين للجندية والبناء ) في الأردن ، فإنني حرصت على الإلتحاق بدورة عسكرية ، وتم ذلك فعليا عندما أخذني الأخ أبو رجب بسيارته الفولكس فاغن إلى مدينة طرطوس البحرية السورية ، حيث كان لحركة فتح هناك قاعدة ومعسكر تدريب . ولفت نظري هناك وجود شاب أشقر لا يتحدث العربية ، وقيل لي بأنه من أبناء الجالية الفلسطينية في البرازيل ، وأصر على الإلتحاق بالثورة رغم أنه واباه مولودين في البرازيل . ولا أنسى ذلك اليوم الذي كان فيه المدرب يعلّمنا كيف نصطاد الأفعى ونشويها ونأكلها عندما نكون في حالة حصار وانعدام التموين ، وللصدفة المحضة أنه وقبل أن ينتهي من شرحه مرّت حيّة قربنا ، وكنت أنا أقرب الأفراد إليها فطلب مني المدرب أن اصطادها وأشويها كما شرح لنا ، وقد فعلت ما طلبه مني بشكل دقيق ، ولازلت أذكر أن طعمها كان شهيّا ويمازج بين طعم لحم الدجاج وطعم السمك . والحديث عن الدورات العسكرية يجرّني للحديث عن دورات أخرى شاركت فيها لاحقا . وقد رسّخت هذه الدورات والعيش في قواعد الثورة بلبنان في نفسي الإيمان بالقضاء والقدر . فذات مرة كنا في قاعدة بمنطقة نهر الأولي شمال مدينة صيدا ، وحوالي الخامسة مساء بدأت عدة أسراب من طائرات الفا نتوم الإسرائيلية تقصف قاعدتنا التي كانت تضم معملا صغيرا لإصلاح الآليات العسكرية ، مقاما في بطن تلة شرحبيل ، واستمرت الغارات مدة اثنتين وخمسين دقيقة . وبعد توقف الغارة ذهبنا لتفقد النتائج ، فوجدنا أن جرّارا لنقل الآليات فقط قد تم تدميره ، ولم يصب المعمل ولا أحد من أفراد القاعدة بأذى . وبينما نحن نتجول في القاعدة المقامة داخل مزرعة حمضيات للبناني مسيحي ماروني ، كانت الثورة تدفع له ثمن غلّتها كاملة وتترك له الغلّة مقابل إقامتنا بين أشجارها . وجدنا منظرا مرعبا .. مواطن سوري كان قد استحضره صاحب المزرعة ليعمل بجني الثمار ، كان فوق شجرة عندما بدأت الغارة ، فسقطت بقربه قذيفة انطلقت منها شظية فأصابته في عنقه فانقطع رأسه وبقي جسده معلّقا بين أغصان الشجرة . لم يكن الضحية مقاتلا ، ولم يكن فلسطينيا ولا حتى من أهل المنطقة ، أي أنه لم يكن مستهدفا ، ومع ذلك استشهد ولم يصب أحد غيره . وبينما نحن في حالة إستغراب من المشهد قال أحد الإخوة أنه قبل اسبوع وبينما كان يسير في أحد شوارع مدينة بيروت سقطت أمامه قذيفة هاون كفيلة بتدمير مبنى بأكمله، ولكنها انشقت ولم ينفجر صاعقها . هذه الحوادث نزعت الخوف من نفسي ، وتكوّنت لدي قناعة بأن الموت أمر حتمي لن يأتيني قبل انتهاء أجلي ، فلا داعي إذن للتفكير فيه ، دون أن يعني ذلك أن الخوف لم يتملّكني في كثير من الحالات . أثناء الغارة بقيت منبطحا على الأرض دون حراك حسب ما تقتضيه التعليمات العسكرية في مثل هذه الحالة ، ولما انتهت الغارة قلت للإخوة الذين كانوا معي : لم يكن بإمكاني أن أفعل غير ذلك ، فهل أستطيع بكلاشينكوف أن أواجه فانتوم ؟ وقد ظللت طيلة الغارة أردّد الشهادتين توقّعا مني أن تنزل إحدى القنابل عليّ . هنا قال أحدهم وكان شيوعياّ يجاهر بعدم إيمانه ( وأنا كذلك ) فقلت له وهل نسيت ما كنت تتباهى به وعرفت الله ؟ فقال ببرود : في متل تلك الساعة لا تتذكر سوى الله . وقد ذكّرني ذلك بما كان يرويه لنا العم أبو حلمي الصباريني عندما كان مديرا لمكتب منظمة التحرير بالرباط ، من أنه عندما كان قائدا لقاعدة على الضفة الشرقية لنهر الأردن مهمتها تسهيل مهمة من سيقطعون النهر إلى داخل فلسطين لتنفيذ عملياتهم الفدائية ، وشاهد كثيرا من المقاتلين الشيوعيين عندما يتوسطون النهركانوا يغمرون أنفسهم كليّة بالماء . ولما سألهم عن سبب ذلك كانوا يقولون له ، إننا ذاهبون لنستشهد ، ولا يجوز أن نستشهد إلا ونحن طاهرون . بعد هذه الغارة بأيام جاءني أحد الأصدقاء القدامى ومن ابناء مخيمنا هوالأخ ( أسد بغداد) واصطحبني أنا والأخ أبو طارق في جولة مسائية ليلية على قواعد الثورة في الجنوب اللبناني حيث كان نائب قائد أحدى كتائب الثورة في المنطقة . وكان علينا بعد أن توقف القصف علينا ونحن في داخل قلعة الشقيف ، أن ندخل قاعدة في المنطقة تطل على بلدة القليعة مقر قيادة سعد حداد قائد جيش لبنان الجنوبي العميل . وكان إلزاميا علينا أن نخترق حقلا من الألغام ، وكان إختراق حقل الألغام أشبه بالمشي على السراط المستقيم ، فأنت تسير وراء قائد القاعدة الذي يكون بمثابة الدليل ، وعينك مثبتة على موطيء قدمه . وعليك أن تضع قدمك تماما موضع قدمه ، لأن أي إنحراف في وضع القدم يعني الموت الفوري . وبعد أن اجتزنا حقل الألغام قلت للأخ أسد بغداد ، هذه تجربة فريدة تستحق أن يعيشها الإنسان . وفجأة سمعت من قلب المغارة التي هي مقر القاعدة صوتا يقول : هذا الأخ واصف منصور ، فعقّبت على الفور بأن صاحب الصوت مغربي . قال لي قائد القاعدة : هذا صحيح ، ولكن كيف عرفت ؟ فقلت : لأن المغاربة في غالبيتهم يتعاملون مع إسمي وكأنه اسم مركب ( واصف منصور ) . وعندما دخلنا المغارة جاءني ذلك الشاب الذي لم أكن أعرفه ، ولما سألته عن كيفية التحاقه بالثورة وكيف عرفني ؟ فقال أنه يعرفني منذ كان طالبا في الجامعة بالمغرب ، فصوتي مميّز لكثرة ما كنت أخطب وأحاضر في التجمعات ، وأنه ذهب بمنحة دراسية وفرّها له الإتحاد الوطني لطلبة المغرب لإكمال دراسته في إحدى الدول الإشتراكية ، وعندما أعلنت الثورة الفلسطينية التعبئة العامة في صفوف الطلبة الفلسطينيين ، التحق مع العديد من الطلبة المغاربة والعرب ، فهم يرون بأن الثورة الفلسطينية ثورتهم ، فالفلسطينية في نظرهم ليست هويّة جغرافية ، والفلسطيني ليس هو الذي ولد من أب فلسطيني ، بل هو كل من يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية ويناضل في صفوف الثورة الفلسطينية. وفي هذا الإطار أسجّل أنني في وقت لاحق رافقت الأخ نبيل شعث والأخ الحاج طلال في جولة تعبوية في عدد من قواعد حركة فتح في القطاع الأوسط من لبنان الذي كان يتولى قيادته الشهيد جواد أبو الشعر ، ورأيت هناك شابا نحيلا يحتضن عوده وينشد للمقاتلين أشعار الشعراء توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم بالحان مبتكرة وشجية ، وقيل لنا يومها أن إسمه مارسيل خليفة . في إحدى الدورات العسكرية جاءنا الأخ الشهيد أبو جهاد ، وتحدث معنا مطوّلا عن أوضاع الثورة والمحيط العربي . وأذكر أنه قال لنا بأن أخطر الأنظمة العربية وأشدها عداء لنا هو النظام السوري بقيادة حافظ الأسد وانه لو استطاع لمحانا من الوجود . وعندما سألناه ولماذا لم يفعل رغم قدرته العسكرية على ذلك ؟ قال لأن الجيش السوري في غالبيته جيش مناضل لا ينفذ التعليمات الصادرة إليه . قال أنه أثناء معارك الجبل ، أصدر حافظ اسد أوامر لراجما ت الصواريخ بقصف كل قواعدنا ، ولكن الإصابات في صفوف مقاتلينا كانت قليلة ، لأن الضباط كانوا يصوّبون صواريخهم بزوايا واسعة تجعل الصواريخ تنزل في عرض البحر . تأكد لي ذلك عمليا بعد بضعة أيام ، عندما كنت امتطي سيارة جيب عسكرية صحبة الأخ أبو طارق ، عندما مررنا في منطقة جبلية منعزلة لنتجنب الحواجز العسكرية السورية ، وفجأة وجدنا أمامنا حاجزا سوريا ، فتشاورنا بسرعة وقررنا أن نستمر في طريقنا وكأننا لم نر أحدا ، مع وضع أيدينا على زناد رشاشاتنا تحسّبا لكل طارئ . كنت أجلس بجانب السائق ومشينا ببطء حتى وصلنا الحاجز ، فتقدم نحوي قائد الحاجز الذي كان ضابطا برتبة ملازم وسألني : من وين الأخوان؟ فقلت : فتح . كان الضابط يحمل بيده زهرة جبلية بيضاء ، فقدمها لي قائلا: روحوا الله ينصركم . لم يكن هذا بالطبع موقف كل منتسبي النظام ، حيث لا أنسى أنني كنت عائدا من لبنان صحبة الأخ أبو طارق وكان يحمل وثيقة سفر خاصة باللاجئين الفلسطينيين صادرة من جمهورية مصر العربية ، في حين أنني كنت أحمل جواز سفر موريتاني . وصلنا إلى نقطة الحدود السورية وقدمت لهم جواز سفري فختموه وظللت أنتظر الأخ أبو طارق الذي قدم وثيقته للضابط السوري ، فأخذ يقلبها باستخفاف وقال له : أنت مصري ؟ فرد أبو طارق : لا ، إنني فلسطيني . فقال الضابط : لا أنت مصري ، فرد أبو طارق : قلت لك يا أخي أنني فلسطيني . فصاح الضابط بغضب : أنا أقول أنك مصري . ولما كان الأخ أبو طارق من قرية ( بيت طيما ) المعروفة بعناد أهلها ، قال له : وأنا أقول لك بأنني فلسطيني .عندها تدخلت لعلمي بالحالة المتوترة بيننا وبين النظام السوري ، وأن مثل هذه المشادة قد تؤِدي إلى إعتقالنا وحتى إلى قتلنا ، وتوجهت للضابط السوري وقلت : يا أخي إنه فلسطيني مصري . هنا قال الضابط ( من أول قول هيك ) ، وختم وثيقة أبو طارق ، وغادرنا نقطة الحدود مسرعين ونحن غير مصدّقين بأننا نجونا. وعلى ذكر عناد أهالي بلدة بيت طيما فإن هناك قرية قريبة منها تسمى بيت دراس ويعرف أهلها بأنهم أكثر عنادا من أهل بيت طيما . وقد صادف أنني كنت مع الأخ أبوطارق متوجهين للقاعة التي انعقد بها مؤتمر حركة فتح السادس في تونس عام 1989 ، فصادفنا الأخ حسين أبو شنب وهو من أبناء بلدة بيت دراس ، ولم يكن أبو طارق وحسين يعرفان بعضهما ، فقدمت حسين لأبوطارق ثم قدمت أبوطارق لحسين قائلا : هذا من بلد أكثر تياسة منكم ، فقال ضاحكا ( فشر ولا يكونوا أتيس منا ) أي لن نسمح لهم بأن يكونوا أتيس منّا . على ذكر جواز السفر الموريتاني ، انتهى جواز سفري الأردني الذي كنت أحمله بصفتي من أبناء الضفة الغربية في عام 1975 ، وبسبب أحداث أيلول /سبتمبر 1970 أبلغتني السفارة الأردنية بالرباط بأنها تلقت تعليمات من وزارة الداخلية بعمان بعدم تجديد جواز سفري ، وأن علي أن أعود إلى عمان لتجديده ، مما يعني تسليم نفسي لجهاز المخابرات الأردنية ، أي تسليم نفسي لجهاز كان في وقتها لا يعرف إلا لغة التعذيب الذي تدرب أفراده عليه وفاقوا أساتذتهم ومدربيهم . وكان مقر هذا الجهاز في عمان يسميه الناس ( العمارة الزرقاء ) ويخشون مجرد المرور من أمامه ويتشاءمون من ذكر اسمه . وقد خبرته عمليا عام 1992 عندما ذهبت بجواز سفري الأردني المنتهية صلاحيته إلى عمان لحضور مؤِتمر اتحاد الكتاب العرب ظنا مني بأن ذلك سيشفع لي وأن المخابرات لن تفعل لي شيئا أمام وفود الكتاب العرب القادمين من بلدانهم. ولكن ذلك كله لم يشفع لي فألقي علي القبض في المطار، ولولا اعتصام الوفود العربية وتدخل رئيس رابطة الكتاب الأردنيين النائب البرلماني فخري قعوار لبتّ ليلتي في السجن . وكان الحل الوسط بعد مفاوضات عسيرة أن يأخذوا جواز سفري ويسمحوا لي بالدخول على أن أراجع المخابرات صباح الغد . ودون الدخول في تفاصيل ما حصل لي في العمارة الزرقاء ، فلولا تدخل الرجل الشهم المناضل الأردني الذي كنا جميعا نتعامل معه كفلسطيني وتحمّل العديد من المسؤوليات في أجهزة منظمة التحريرالأستاذ غانم زريقات ، الذي سخّر علاقاته الشخصية والعائلية ، لما انتهت مشكلتي ولما حصلت على جواز سفر صالح لمدة خمس سنوات وليس جواز سفر مؤقت كما كان يعطى لأمثالي . ترتّب على ذلك أنني بقيت بدون جواز سفر ? أي بدون قدرة على مغادرة المغرب فترة من الزمن ، إلى أن حصلت على جواز سفر جزائري عام 1974 لم استعمله إلا في سفرة أو سفرتين ، بسبب توتر العلاقات المغربية الجزائرية بعد المسيرة الخضراء التي دعا لها جلالة الحسن الثاني لتحرير الصحراء ، ولم يعد من اللائق أن استعمل جواز سفر جزائري وأنا أعمل في المغرب . وعدت بدون جواز سفرإلى أن حضر للمغرب الأخ مدحت صيد م ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في موريتانيا ، فأعطيته صورا شخصية لي ، فأرسل لي بعد مدة ليست طويلة جواز سفر موريتاني باسمي الأصلي على أنني من مواليد مدينة نواديبو . وهذا موقف نسجّله لصالح أشقائنا الموريتانيين وأقطار عربية أخرى كالعراق واليمن الديمقراطية والجزائر وسوريا الذين قدّموا هذه الخدمة لأبناء الثورة الفلسطينية الذين يعيشون ظروفا مشابهة للظروف التي عشتها ، وبصورة أقلّ قدم هذه الخدمة المغرب واليمن الشمالي وتونس، مع العلم أنه كانت تتم عمليات تزوير لجوازات بعض الدول العربية وغير العربية لتسهيل تنقل أبناء الثورة ، وخاصة أولئك الذين كانوا مكلفين بعمليات خارجية . وقد حملت شخصيا جوازات سفر عراقي وجزائري إلى جانب الأردني والموريتاني . كانت أول رحلة لي كأحد مواطني الجمهورية الإسلامية الموريتانية بجواز سفري الموريتاني إلى لبنان , ولما وصلت إلى فندق ستراند في بيروت وقدمت جواز السفر إلى موظف الاستعلامات أخذ يقلّب جواز السفر وينظر إلى الصورة الملصقة بجواز السفر وإليّ ، فسألته بلهجة مغربية لإظهرله أنني موريتاني كما خيّل لي ، قال لي : هل أنت موريتاني ؟ فلما قلت له نعم ، قال ( عليّ الطلاق أنك لست موريتانيا ، فقد مر عليّ ثلاثون سنة وأنا أعمل في الفنادق ، ولم أر موريتانيا بهذه السحنة ) . فقلت له وماذا تريد ؟ فقال لا شيء ، أهلا وسهلا بك ، ولكن يا أخي كان عليك أن تأخذ جواز سفرمن دولة لون بشرة أبنائها أفتح قليلا من لون الموريتانيين . وقد سافرت بجواز السفر الموريتاني إلى المملكة العربية السعودية في طريقي إلى اليمن لحضور مؤتمر الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين عام 1984 ، ولما قدمت جواز سفري إلى مكتب الجوازات في مطار جدة رأيت الموظف يقلّب جواز السفر ويقول لي بأن علي الإنتظار بعض الوقت ولكن هذا الإنتظارطال أكثرمن ثلاث ساعات ، منعني خلالها موظف المطار من الإطلال على منطقة استقبال الوافدين لأطلّ على إبن عمتي الذي ينتظرني ، ليعرف أنني وصلت ، وقد اغتنمت فرصة دخوله دورة المياه لأتسلّل إلى منطقة الإستقبال ولوّحت لإبن عمتي وطلبت منه الإنتظار. في نهاية المطاف جاءني الموظف واعتذر لي وسمح لي بالدخول ، وقد اكتشفت لاحقا بأنني اقترفت خطأ فادحا عندما كتبت في استمارة الدخول بأن مهنتي هي الصحافة ، ولم يكن وقتها يسمح بدخول الصحفيين إلا بموجب إجراءات خاصة ، الأمر الذي اضطرني عند عودتي من اليمن والنزول في مطار جدة ثانية أن أكتب في استمارة الدخول أنني موظف أرشيف . وفي هذه الزيارة تمكنت ولله الحمد من أداء مناسك العمرة . ولي مع الأشقاء الموريتانيين حكايات وحكايات ، رغم أنه لم تسنح لي فرصة زيارة موريتانيا إطلاقا . فقد كان لي زميل وصديق موريتاني يدرس معي بكلية الحقوق بالرباط ، وسمعت منه أغرب تقريظ للثورة الفلسطينية ، حيث قال لي ذات يوم ( والله أنني أحسدك على كونك فلسطيني وعلى كونك تحوز شرف الإنتماء للثورة الفلسطينية ) . وبعد أن عاد إلى وطنه حاولت مرارا أن أتسقّط أخباره من الإخوة الموريتانيين الذين التقيهم ، وأخبرهم أن اسمه ( محمد فاضل ) كانوا يقولون لي بأن هذا الإسم من أكثرالأسماء شيوعا في موريتانيا ، إلى أن التقيته ذات يوم صدفة في حفل دبلوماسي في الرباط حيث تم تعيينه سفيرا لبلاده في المغرب . وكم سمعت أن موريتانيا بلد المليون شاعر ، ولكنني لم أصدّق ذلك إلى أن تعرّفت على بعض ممثلي موريتانيا في المنظمات المتخصصة التابعة لجامعة الدول العربية أو لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، فوجدتهم بدون إستثناء يقولون الشعر العمودي على طريقة الخليل بن أحمد الفراهيد ي ، ويستعملون مفردات لايمكنك العثور عليها إلا في الشعر الجاهلي أو القواميس . وأذكر أن ممثل موريتانيا في إجتماع للمنظمة العربية للدفاع الإجتماعي ضد الجريمة في الرباط ، كان يجلس قبالتي على طاولة الإجتماع ، وفجأة رأيته يحني رأسه ويبدأ بالكتابة . ظننت أنه يكتب نص مداخلة سيلقيها في الإجتماع كموقف من إحدى القضايا المطروحة على جدول الأعمال ، وبعد بضع دقائق رفع رأسه وطلب الكلمة ، ولما جاء دوره في الحديث فاجأنا بإلقاء قصيدة من حوالي ثلاثين بيتا تتضمن ما قاله كل واحد من المتدخلين في الإجتماع . ولم يكن حالي مع جواز السفر العراقي بأفضل من الموريتاني ، إذ استعملته في سفري إلى مصر لحضور إجتماعات المجلس الإداري للإتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين الذي كان يترأسه الأستاذ جمال الصوراني . لما وصلت إلى المطار وكنت حاصلا على تأشيرة دخول من السفارة المصرية في الرباط ، وقدمت جواز السفر لضابط المطار ، طلب مني الإنتظار قليلا ، ولكن هذا الإنتظار امتد أكثر من ساعة جاء في ختامها ضابط وطلب مني الذهاب معه إلى مكتب أمن الدولة في المطار ، وهناك انهال عليّ الموظف المسؤول بمجموعة من الأسئلة تبيّن منها أنهم يشكّون في كوني ليبيا حيث كانت العلاقات المصرية الليبية متوترة ، ولم يكن بمقدوري الإفصاح عن أنني فلسطيني لأن العلاقات المصرية الفلسطينية كانت سيئة أيضا ، وفي النهاية اقتنع الموظف بأنني لست ليبيا فسمح لي بالدخول . ولكن هذا الجوازالعراقي أتاح لي الذهاب إلى الأردن في الوقت الذي كنت فيه مطلوبا للمخابرات . فقد احتضنت العاصمة الأردنية اجتماع مجلس وزراء العدل العرب , ونظرا لكوني كنت الممثل الدائم لفلسطين في الأمانة العامة للمجلس ، فقد كان من المفترض ذهابي إلى عمان . فاتفقت مع الأستاذ جمال الصوراني على القدوم إلى القاهرة وأن أسافر معه على نفس الطائرة ، وإذا تعرّض الأمن الأردني لي فإنه سيعود معي على نفس الطائرة . وبالفعل وصلنا مطار عمان واستقبلنا السيد رياض الشكعة وزير العدل الأردني وأدخلنا الى القاعة الشرفية . وهناك همست في أذنه بتخوفاتي فطمأنني بأن المخابرات لن يفعلوا لك شيئا لأنهم لا يرغبون في التشويش على المؤتمر الذي يهمهم أن ينجح ، إضافة إلى كونك تحمل جواز سفر دولة أخرى وأقصى ما يمكن أن يفعلوه هو تسفيرك على أول طائرة ، وأعطاني رقم تليفونه الخاص للإتصال به إذا وقع أي طارئ. وبعد انتهاء الجلسة الختامية للمؤتمر حملت حقيبتي وتوجهت نحو بلدة الرصيفة حيث يقيم أعمامي الذين يستضيفون أمي وشقيقتي الكبرى اللتين جاءتا خصيصا من فلسطينالمحتلة لرؤيتي بعد غياب ثلاث وعشرين سنة . وفي بهو الفندق صادفت الوزير رياض الشكعة وسألني إلى أين أنت ذاهب ولما قلت له إلى الرصيفة ، قال ضاحكا : عجيب أن تترك فندقا فاخرا وتذهب إلى الرصيفة ؟ فقلت له : في الرصيفة أمي ، فقال : مادام هيك ، روح والله يلعن أبو كل الفنادق . ولكن لنفس جواز السفر العراقي حكاية أخرى ، ذلك أن أبنائي كانوا مسجلين معي على نفس الجواز، وفي عام 1990 ذهبت زوجتي بجواز سفرها المغربي وأبنائي بجواز سفري العراقي الى الأردن . وقد صادف وجودهم في الأردن دخول القوات العراقية إلى الكويت ، وعندما انتهت زيارة الزوجة والأولاد وتوجهوا إلى المطار للسفر ، صادفوا صعوبات كبيرة بسبب جواز السفر العراقي .