حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . وصلت إلى مطار طرابلس الغرب في أوائل شهر ديسمبر / كانون أول عام 1967 ، وذهبت إلى مكتب الأستاذ أنيس القاسم الذي اعتذر عن عدم قدرته على مساعدتي في إ يجاد أي عمل ، فلم ألحّ على ذلك . وذهبت أبحث عن الأخ أبو نبيل السرّاج ممثل حركة فتح في ليبيا ، ولسوء حظي لم أجده حيث كان يحضر اجتماعات في القاهرة قيل لي أن قيادات حركة فتح تجتمع فيها في تلك الأثناء ، فقررت السفر برّا إلى مصر ، وكم كان السفر شاقا لكون وسيلة النقل هي سيارة لنقل البضائع وضع فيها صاحبها مقاعد غير مريحة واستخدمها لنقل الركاب ، وكانت الطريق طويلة تزيد على ألفي كيلومتر ، ضيقة وليست معبّدة جيدا . وقد قضينا في الرحلة ثلاث ليال وأربعة نهارات حتى وصلنا إلى الإسكندرية ، ومنها انتقلت بالقطار إلى القاهرة .. أثناء وجودي في ليبيا التي كان يحكمها الملك إدريس السنوسي ، لمست كم هو الشعب الليبي طيب ومتسامح وكريم ، وأذكر أنني تناولت أول وجبة في مطعم بغداد في شارع عمر المختار ، وعندما أردت دفع ثمن الوجبة ، اكتشف صاحب المطعم من لهجتي أنني غير ليبي فسألني عن بلدي فلما قلت له بأنني فلسطيني رفض أن يأخذ الثمن . وأذكر أيضا بأنني عندما كنت أذهب إلى أحد الدكاكين لشراء بعض الأغراض ، كان أصحاب الدكاكين بحدسهم يعرفون أنني لست ليبيا ، فيقولون لزبنائهم الليبيين الواقفين لشراء أغراضهم : لو سمحتم سأسبّق ضيفنا ، ولم يكن يعترض أو يتذمر أحد . هذه الصورة اكتشفت غيرها عندما ذهبت إلى ليبيا في مهمة رسمية بعد أكثر من ثلاثين سنة قضتها تحت حكم العقيد معمر القذافي ، الذي ذهب الجميع ضحية جملة مجاملة قالها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما قال له بأنه يذكّره بشبابه وأنه مؤتمن على القومية العربية ، والذي أرى أنه تآمر على الشعب الليبي قبل أن يتآمر على الآخرين , ودمّر ليبيا قبل أن يدمر أشياء كثيرة في بلدان أخرى . ذلك أنه عمل بإعلامه وإمكانياته المادية على خلق شعور بالتفوق لدى الليبيين على غيرهم إلى حد تسمية المهندسين والأطباء والمدرسين والخبراء العرب القادمين للعمل في ليبيا ( المستوردين ) وكأنهم سلع تباع وتشترى . لا أقول أنه نجح كليّة في مسعاه إلا أنه خلق طبقة تشرّبت بما إدعاه من قيم جديدة ابتكرها أو ابتكروها له في ( الكتاب الأخضر ) وفي (النظرية الثالثة ) ، وفي تسمية ليبيا «الجماهيرية العربية الليبية الإشتراكية العظمى « وتسمية ( العظمى ) لها حكاية طريفة . ففي عام 1987 كنت أمثّل فلسطين في إجتماعات اللجنة القانونية الدائمة للجامعة العربية في تونس ، وقد انتخبت لأكون مقرّرا للجنة . وبعد أن أنهينا إجتماعاتنا ، كان عليّ أن أقدّم تقريرا يتضمن مداولاتنا وتوصياتنا ، وهذا يتطلب أن أسجل في مقدمة التقرير أسماء الدول المشاركة وأسماء مندوبيها في الإجتماع . ولما عرضت التقرير رفع المندوب الليبي يده معترضا على خطأ جسيم وقع فيه المقرر يتعلق بكتابة إسم ليبيا حيث أنه أغفل أو تغافل عن وضع كلمة ( العظمى ) ، وطلب تصحيح هذا الخطأ . فاعتذرت عن ذلك وقمت بتصحيح الخطأ . وبعد رفع الجلسة سألت المندوب الليبي عن سبب إضافة كلمة العظمى فقال لي : يبدو أنك لا تشتغل ولا تهتم بالسياسة ، بحيث أنك لم تعلم بالغارة الجوية الأمريكية على ليبيا ، وبما أن أمريكا دولة عظمى فإن الدولة التي تهاجمها لا بد وأن تكون عظمى . فعقّبت على كلامه بأنه إذا كانت أمريكا قد أغارت على ليبيا مما أعطى لليبيا الحق بتسمية نفسها عظمى ، فماذا ستسمّي فلسطين نفسها وقد تعرضت لهجمات من كل دول المعسكر الغربي ومعظم الدول العظمى والمتوسطة في العالم؟؟ وظلت حكاية الغارة الأمريكية على ليبيا في ذاكرتي إلى أن ذهبت في عام 2000 في مهمة رسمية إلى ليبيا التي كانت وقتها تتعرض لحظر جوي ، مما اضطرنا للسفر بالطائرة إلى مطار جزيرة جربة التونسية ومنها انتقلت برّا إلى طرابلس الغرب . ولما أخبرتنا إدارة المؤتمر بأن برنامجنا يتضمن زيارة ( باب العزيزية ) الذي تعرّض للغارة الجوية الأمريكية ، رحبت بالفكرة وكنت أول من ركب الحافلة الذاهبة إلى هناك . وهناك اكتشفت بحكم بعض الخبرات العسكرية التي اكتسبتها كم هي كذبة كبيرة . فقد أخذونا إلى غرفة في الطابق العلوي ، سقطت عليها قذيفة لم تستطع أن تخترق سقفها وأكتفت بتقويسه وإنزال بعض الأتربة منه على سرير موضوع بالغرفة ، حرصوا على إبقائه كما كان . وقد رأيت في حياتي في العديد من المرّات كيف أن أضعف قنبلة تلقيها الطائرات الآمريكية تدمّر بنايات ومنشآت أكثر تحصينا من غرفة باب العزيزية ، مما جعلني أتأكد أن الأمريكيين كانوا يداعبون القذافي لا أكثر ولا أقل ، وأنهم بفعلتهم هذه أعطوه دفعة ليزداد نظرا إلى السماء وهو يمشي كمن يرسف في قيوده . كان بجانبي ونحن نركب الحافلة المندوب السوداني ، فلما حدّثته بما أفكر فيه وافقني الرأي وقال إن إنعدام الديمقراطية يوصل إلى ما هو أكثر . وقد ذكّرني ذلك بحادثة طريفة تتعلق بالسودان . ففي إحدى سنوات الثمانينات فاض النيل وأحدث خسائر في السودان ، فذهبت برفقة الصديق الصحفي السوداني الرائع أبو بكر الصديق الشريف لزيارة السفير السوداني للتعبيرعن تضامننا ومواساتنا ، واغتنمتها فرصة لأهنئه بنجاح الإنتخابات النيابية التي جرت في السودان . شكرني الأخ السفير قائلا أن الفيضان بحد ذاته نعمة لأنه يجدّد التربة ويزيد خصوبتها ، وأن الخسائر ليست جسيمة كما تقول وسائل الإعلام ، لأن البيوت التي انجرفت كلها مبنية من الطين وأثاثها بسيط ، وأن حجم المساعدات الدولية التي تأتينا أضعاف أضعاف خسائرنا . أما بالنسبة للإنتخابات التي شهد العالم كله بنزاهتها فقال ( الله يلعن أبو كل من دعا لتطبيق الديمقراطية في السودان ) ، ولما استغربت من قوله هذا قال : نحن شعب لم نصل بعد إلى مستوى يسمح ببناء ديمقراطية حقيقية . فالإنتخابات أفرزت فوز حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي الذي يجمع أنصاره التراب الذي يسير عليه ويحتفظون به كشيء مبارك ، كما فاز الحزب الديمقراطي بزعامة الميرغني الذي يأخذ أنصاره الماء الذي يغسل به يديه ورجليه ويحفظونه باعتباره شيء مبارك . فهل هذه هي الديمقراطية التي تريدونها ؟ شعب جاهل ومتخلف وفقير ، لا يمكنه أن يصنع ديمقراطية حقيقية . والحديث عن السودان يذكّرني ايضا بحديث جرى أمامي وأنا في مكتب الأستاذ فرسان الماضي / مديرعام الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في المقر العام للمنظمة في حي الدقّي بالقاهرةأثناء زيارتي للقاهرة التي وصلتها عقب رحلتي إلى ليبيا . فقد سمعت ممثل منظمة التحرير في السودان يتحدث عن ردة الفعل السودانية بعد هزيمة 1967 وانعقاد القمة العربية في الخرطوم التي خرجت باللاءات الثلاث ( لا صلح ? لا مفاوضات ? لا اعتراف ). فقد دعت الأحزاب والنقابات السودانية إلى حملة لدعم المجهود الحربي العربي ، فاستجاب الفلاحون السودانيون للدعوة وزرعوا خمسة بالمائة من الأراضي المستصلحة في السودان. وكانت حصيلتها أن السودان قدّم لمصر ولسوريا وللأردن كميات من القمح عوّضتها عن المساعدات الأمريكية المعتادة . فكانت تعقيبات الحاضرين تتلخص في أنه إذا كانت هذه المساحة الضئيلة مقارنة بالأراضي الصالحة للزراعة في السودان أعطت هذه الغلّة ، فكيف لو تم استصلاح كل الأراضي وزراعتها ؟ إنه كفيل بإطعام الوطن العربي كله . وعلق بذاكرتي ما قاله ذلك المدير بأن الحكومة السودانية ننفق مبالغ طائلة لمقاومة الأوبئة والحشرات في جنوب السودان المغطى بغابات المانغة والموز والبباي وجوز الهند ، بسبب سقوط الفواكه على الأرض وفسادها وما يترتب عنه من أوبئة ، وقال بأن سبب ضياع هذه الثروة نابع من عدم وجود طرقات تربط شمال السودان بجنوبه وتسمح بنقل تلك الغلال لإستهلاكها في الشمال وتصديرها للخارج . في القاهرة إذن تمت لقاءاتي الأولى مع حركة فتح ، حيث اجتمعت بالعديد من أطر وقياديي الحركة ، وكان أول من قابلته وتعاملت معه منهم الأخ الطيب عبد الرحيم عندما كان يقيم مع أحد أقاربي في مدينة البعوث بالأزهر، وأقسمت يمين الإنتماء والولاء للحركة أمام أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح الأخ أبو اللطف فاروق القدومي ، الذي قدموه لي بإسم بشير المغربي وقد اعطاني رسالة قبل عودتي إلى المغرب موجهة من صديقه أبو اللطف ( الذي هو نفسه ) موجهة إلى الأخ نبيل الرملاوي الذي كانت تربطه به صداقة قديمة أيام عملا معا في الكويت . وعندما أبديت عزمي على الإ لتحاق بقواعد الفدائيين في الأردن ، قالوا لي بأننا نحتاجك في المغرب حيث يمكنك إفادتنا هناك الآن أكثر مما تفيدنا في القواعد . فنحن الآن في مرحلة التوسع والإنتشار ونريد أن نوصل فكرنا وإشعاعنا إلى أبعد مدى ممكن ، أما أمر الإلتحاق بقواعد الفدائيين فهو ممكن في أي وقت لاحقا . وهكذا طلبوا مني العودة إلى المغرب والتعاون مع بعض الإخوة الفلسطينيين الموجودين هناك ، في تنظيم العمل الفلسطيني والفتحاوي الإعلامي والتثقيفي ، والقيام بحملات جمع التبرعات لصالح أسر الشهداء والمجاهدين في الثورة الفلسطينية. قاربت الفلوس التي أحضرتها معي من المغرب على النفاذ ، ولم الجأ إلى الإخوة الفتحويين في القاهرة للحصول على سلفة ، فجعلت أقتّر على نفسي بشكل مخيف ، حيث كنت أكتفي بوجبة واحدة في اليوم عبارة عن صحن من ( الكشري ) الرز والعدس والبصل . وارسلت برقية إلى عمي أبو نزار في المغرب أطلب منه سرعة إرسال تذكرة سفر للعودة إلى المغرب . وبمجرد وصول التذكرة جمعت حقيبتي وتوجهت إلى المطار ولم يكن في جيبي سوى بضعة قروش فقط . تقدمت من نقطة الجوازات في المطار وقدمت جواز سفري ، ولكن موظف الجوازات صعقني بقوله : يجب أن تبقى في مصر عشرة أيام أخرى . فقلت له بصوت عال كله غضب : ماذا فعلت حتى تبقوني هنا ؟ فقال بهدوء وهو يكتم ضحكته : حتى يكبر شاربك . . ذلك أنني حلقت شاربي وأنا في مصر ، والصورة التي على جواز السفر بشارب . قبل مغادرتي القاهرة أخبرني الإخوة القياديون الفتحاويون أنهم سيقومون شهريا بتحويل مخصص مالي أستطيع العيش منه والإنفاق على العمل الحركي . ومرعام كامل لم أتلقّ خلاله أي مبلغ من المال ، الأمر الذي جعلني أعيش ضائقة مالية خانقة ، اضطررت خلالها إلى التوقف عن التدخين وإلى إكتراء كراج في أسفل إحدى فيلات منطقة اكدال ، أمامه فسحة صغيرة يحجبها عن الشارع حائط وسور حديدي ، وكنت استخدمه كمنزل وكمكتب . ولم تتحلحل الأزمة المالية نسبيا إلا بعد ان عملت في الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني بمرتب مقداره اربعمئة درهم شهريا . وبسبب السرية المبالغ فيها لم يكن بإمكاني طلب أية مساعدات من عمي أبو نزار، بل كنت أشعر بالحرج عندما كان يسألني ماذا أفعل . ولابد من الإشارة إلى أن الإخوة في مالية حركة فتح اتصلوا بي لاحقا وأخبروني بأن لي عندهم مبلغ مئة وعشرين دينارا « مخصصي عن سنة كاملة « وسألوني كيف يمكن أن أتسلّمها ، فطلبت منهم تسليمها لعمي أبو غسان في عمان ليقوم بإرسالها إلى والدي في الأرض المحتلة .