الحلقة الثانية والعشرون : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدار البيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدار البيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
لنعد الآن إلى قضية العسكريين السودانيين الذين رتبت لهم زيارة للمغرب؟ - هذه الواقعة تعود إلى ديسمبر 1993، لكن قبل الدخول في تفاصيلها، دعني أشرح لك خلفية الموضوع. في 30 يونيو 1989، وقع انقلاب عسكري في السودان أطاح بالحكومة المنتخبة، وكان ذلك الانقلاب من تدبير «الجبهة القومية الإسلامية» بزعامة حسن الترابي. ومنذ اليوم الأول اتخذت موقفا معارضا لذلك الانقلاب، انسجاما مع اقتناع مبدئي برفض أي عمل انقلابي، وإيمانا بالديمقراطية والتعددية السياسية، والتداول حول السلطة عبر صناديق الاقتراع. لم يكن هذا الموقف خافيا على الجهات المغربية. وكان طبيعيا أن أجد نفسي في خانة المعارضة، وعضوا في «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي كان يضم جميع الأحزاب والنقابات وكذلك قيادة الجيش التي انقلبت عليها «الجبهة القومية الإسلامية». كان نظام البشير شرسا جدا في سنواته الأولى، وفصل آلاف الناس من وظائفهم، وزج بمئات المعارضين في معتقلات كانت تعرف في السودان باسم «بيوت الأشباح»، وعرف السودان أجواء خانقة. في تلك الفترة توليت مهمة منسق المعارضة في منطقة المغرب العربي، وكلفت كذلك بمهمة إعلامية. اتخذت قيادة «التجمع الوطني الديمقراطي» من القاهرة قاعدة انطلاق، لكن العمل من مصر كانت تحف به الكثير من المصاعب، لأنه يتقاطع مع السياسات المصرية تجاه السودان. كانت علاقات مصر بالنظام السوداني فاترة، لكنها ليست سيئة، إلى أن جرت محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في يونيو 1995. لذلك لم تكن المعارضة السودانية تتحرك قبل ذلك بحرية من القاهرة، وكان رأي عدد من المعارضين السودانيين، وكنت من بينهم، عدم حصر عمل المعارضة في القاهرة، بل العمل من عدة مناطق. زرت القاهرة في ديسمبر 1993، والتقيت قيادة المعارضة السودانية من سياسيين وعسكريين، وتداولنا في إمكانية توزيع عمل المعارضة، وكان أن اقترح الإخوة في القاهرة جس نبض السلطات المغربية حول إمكانية أن يستقبلوا وفدا من العسكريين المعارضين في زيارة سرية، وأبلغوني بأنهم سيبحثون مع الجانب المغربي مسألتين: الأولى تتعلق بإمكانية أن يلعب المغرب دورا في تسهيل إجراء اتصالات مع دول الخليج العربي، والثانية تتعلق بالسعي لدى السلطات المغربية لقبول أبناء المعارضين السودانيين، خاصة الضباط، للدراسة في الجامعات المغربية، أي أبناء الضباط الذين فصلوا من الخدمة أو المعتقلين لأنه ليست لديهم إمكانيات بأن يدرّسوا أبناءهم في السودان. بالمقابل قالوا إن لديهم معلومات دقيقة جدا من عناصر المعارضة في الداخل حول معسكرات أقامتها السلطات السودانية لتدريب مجموعات أصولية، وأبدوا استعدادا لنقل كل المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع إلى الجانب المغربي. كان لا بد من شرح الأمر للسلطات المغربية بوضوح لا لبس فيه، لأن الوضوح في مثل هذه الأمور يساعد على تحقيق الأهداف المرجوة، وقد كلفت بمهمة «جس نبض» السلطات المغربية في هذه القضية. عدت من زيارة القاهرة وطلبت لقاء مع المستشار الملكي عبد الهادي بوطالب. ولماذا عبد الهادي وليس إدريس البصري؟ - اخترت عبد الهادي بوطالب لأنه كان قد أبلغني في وقت سابق أن من بين مهامه ملف السودان. وفعلا التقيت بوطالب، رحمه الله، ووضعته في صورة الوضع بكامله في السودان وعمل المعارضة السودانية واقتراح الاستفادة من المغرب إعلاميا، خاصة أن وفودا أوربية كثيرة تزور المغرب ويمكن الاتصال بها، وهو أمر غير متاح في الدول العربية الأخرى. أما لماذا لم أتصل بإدريس البصري في هذه القضية، فالجواب واضح وهو أن البصري كان منفذ تعليمات، ولم يكن له أي دور في مثل هذه القضايا. وهل كان ضروريا أن تخبروا السلطات المغربية بتحركاتكم ضد نظام البشير؟ - نعم، وهذا هو المطلوب في مثل هذه الملفات الحساسة، ولهذا كنت واضحا مع عبد الهادي بوطالب في لقائي به، وقلت له إنه لا يمكن أن نتحرك دون علم السلطات المغربية. ومادا كان رده؟ - وجدت منه تفهماً، إذ أبلغني أنه سيعرض الأمر على الملك الحسن الثاني، وينقل له كل ما رويته له. وبالفعل، عاد بوطالب ليبلغني بأن الملك وافق على إجراء اتصالات مع المعارضة السودانية، خاصة ما كان يطلق عليها «القيادة الشرعية» للجيش السوداني، أي قيادة الجيش التي انقلبت عليها «الجبهة القومية الإسلامية». حملت هذه النتيجة المشجعة وعدت إلى القاهرة واقترحت ترتيب زيارة لضباط عسكريين من أعضاء «القيادة الشرعية»، وتم التداول في الأمر، وأبلغت بأسماء الوفد المقترح، وعدت إلى المغرب، ونقلت التفاصيل إلى عبد الهادي بوطالب، فطلب مهلة لعرض الموضوع على الملك، وبعد أيام أبلغني الموافقة على طلب «القيادة الشرعية». بمعنى آخر أن الحسن الثاني وافق على استقبال مسؤولين عسكريين سودانيين معارضين لنظام البشير فوق أرض المغرب؟ - نعم، وحسناً أنك كنت دقيقاً في سؤالك، اي استقبالهم في المغرب وليس من طرف الملك. وفعلا عدت من جديد إلى القاهرة وأبلغت المعارضة السودانية بالتفاصيل، ورجعت هذه المرة إلى المغرب برسالة من الفريق فتحي أحمد علي، قائد الجيش السوداني عند وقوع الانقلاب، وقائد «القيادة الشرعية»، وتشتمل هذه الرسالة على أسماء الوفد، الذي تم اقتراحه لزيارة المغرب. هل تتذكر أسماء هذا الوفد العسكري؟ - نعم، وكان يتكون من الفريق عبد الرحمن سعيد، الذي كان رئيس هيئة الأركان قبل وقوع الانقلاب، والعقيد أركان حرب كمال إسماعيل. عند ذلك سيطلب مني عبد الهادي بوطالب إخطارهم بالموافقة على الزيارة، على أن تتم في سرية تامة. ونقلت هذه المعلومات إلى القاهرة بطريقة تضمن السرية التامة، ثم أبلغت الجانب المغربي بتفاصيل جوازي كل من الفريق عبد الرحمن سعيد والعقيد كمال إسماعيل، وبعد ذلك تولى الجانب المغربي سفر الوفد السوداني من القاهرة عن طريق روما، وكان ذلك في يناير عام 1994، ووصل الوفد إلى الدار البيضاء وتم استقباله في المطار، ونقل إلى قاعدة عسكرية مغربية كما عرفت فيما بعد. وعلمت من الوفد السوداني أن هذا الأخير اجتمع مع عبد الهادي بوطالب والجنرال عبد الحق القادري، كما علمت من الوفد أيضا أنه طرح جميع مطالبه، فوعد الجانب المغربي بدراستها. وقد قدم الضابطان السودانيان توضيحات للمسؤولين المغاربة حول الأوضاع في السودان، خاصة معسكرات التدريب التي كانت تتدرب فيها مجموعات أصولية من المغرب العربي، ومن المغرب بالطبع، وبعضهم كانوا من أعضاء ما يسمى آنذاك ب«الجماعة المغربية المقاتلة». كم كان عدد المغاربة داخل هذه المعسكرات في السودان؟ - ومن أين لي أن أعرف هذه التفاصيل؟ لا أستطيع أن أدعي شيئا في هذا الجانب. ما كان مؤكدا هو أن النظام السوداني فتح في تلك الفترة معسكرات تدريب كثيرة، وكان هناك أسامة بن لادن وكارلوس، وهذه أمور لم تعد سرا. كما كانت هناك مجموعة تونسية تنتمي الى حزب حركة النهضة، بزعامة راشد الغنوشي، الذي منحه النظام السوداني جوازا ديبلوماسياً. ومن المرجح أن كثيرين من تلك المجموعات انتقلوا بعد ذلك إلى أفغانستان وجزء منهم إلى باكستان وبعضهم جاء إلى المنطقة. ونحن نعرف أن أسامة بن لادن انتقل من الخرطوم إلى أفغانستان، والثابت أن السودان كان ملاذا آمنا لمجموعات كثيرة من التيارات الأصولية. لنتحدث عن بعض الكواليس التي ارتبطت بتحركاتكم في القاهرة والتي كانت وراء حادث ترتيب هذا اللقاء بين عسكريين سودانيين ومسؤولين مغاربة؟ - كان لدي قريب في القاهرة يعمل أستاذا في الجامعة الأمريكية، وكنت أقيم معه في شقته، حتى تبدو الزيارة ذات طابع شخصي. كنت ألتقي، في الشارع، بالعقيد كمال إسماعيل الذي ربطته لحسن الحظ صداقة مع قريبي الذي أشرت إليه، ولم نكن نستعمل الهاتف في أي حديث. كنت حذرا جدا لأن الأمر لم يكن هينا، وكنا نناقش الأمور ونحن نتمشى في شوارع القاهرة المزدحمة، واتفقنا أن نتحدث عن الزيارة على أساس أنها ستتم إلى تشاد. من كان يمول رحلاتك إلى القاهرة؟ - كنت أذهب على نفقتي، إذ كنت آنذاك أعمل في صحيفة «الشرق الأوسط» وإمكانياتي الذاتية تتيح لي السفر على حسابي، ثم إني كنت أعمل من أجل قضية آمنت بها، ولا يمكن أن أنتظر دعما ماليا من أية جهة. وحتى أكون واضحا لم يعرض علي أحد أن يتكفل بمصاريف رحلاتي ولم أطلب، بدوري، ذلك إطلاقا. وبماذا انتهت زيارة الوفد العسكري السوداني للمغرب؟ - أمضى الوفد خمسة أيام في المغرب، وقبل سفرهم بيوم التقينا في شارع محمد الخامس في الرباط، ونحن نتمشى في الشارع، أبلغوني بأنهم راضون تماما عن نتائج الزيارة، وقالوا إنهم تلقوا موافقة فورية على موضوع دراسة الطلاب السودانيين في الجامعات المغربية، كما تلقوا وعدا بفتح قنوات مع دول الخليج العربي، وهو ما سيحدث فعلا بعد ذلك، حيث زار عسكريون سودانيون دول الخليج، ولم أكن أعرف ما هي نتائج تلك الزيارات. وبعد سنوات صدر كتاب في أمريكا بعنوان «سقوط الأقنعة» نشر جميع هذه التفاصيل بما في ذلك زيارة المغرب، استنادا إلى شهادة ضباط سودانيين. بعد ذلك بسنوات سيعود الفريق عبد الرحمن سعيد إلى السودان بعد أن تصالح النظام مع المعارضة، وتولى هناك وزارة التكنلوجيا كجزء من صفقة المصالحة، كما عاد العقيد كمال إسماعيل بدوره إلى السودان. وماذا يعمل حاليا كمال إسماعيل في السودان؟ - يقيم في الخرطوم ويمارس عملا تجاريا. كانت لك أيضا بعض التحركات والأنشطة في أوربا. ما هي طبيعتها؟ - نعم، كنت أزور باريس ولندن، وألتقي هناك جمعيات تعمل في مجال حقوق الانسان، وأقدم لها تقارير حول الانتهاكات التي تحدث في السودان، ومن حسن الحظ، كان هناك سوداني يشغل موقعا مهما في منظمة «أمنستي»، هو الدكتور عبد العال كرشاب، وكان مسؤولا عن شمال إفريقيا، لذلك كان يتردد على المغرب ونلتقي بانتظام، ونتداول حول هذه القضايا، وأزوده بالمعلومات التي أتلقاها من المعارضة السودانية. دعنا نعود الآن إلى مكتب صحيفة «الشرق الأوسط» بالرباط؟ - هناك الكثير من التفاصيل، لكن لنتوقف عند محطات أساسية. عندما أرادت «الشرق الأوسط» فتح مكتب لها في الرباط، كلفت شركة «سوشبريس»، التي كانت توزع الصحيفة ومطبوعاتها الأخرى بفتح المكتب. وبالفعل استأجرت «سوشبريس» مكتبا للصحيفة في زنقة حسين الأول وسط الرباط. بدأ المكتب صغيرا، حيث كنت مسوؤلا للتحرير ومديرا للمكتب، ومعي الزميلة هاديا سعيد مراسلة «سيدتي»، ومحاسبة وسكرتيرة. كان ذلك هو كل طاقم الصحيفة. لكن سرعان ما راح المكتب يتوسع، اعتماداً على متعاونين، ومن بين المجموعة الأولى التي عملت بهذه الصيغة: الأخ محمد الأزهري، الذي ربطت بيننا علاقة صداقة متينة ما تزال ممتدة في الزمان والمكان، ثم كان هناك الأخ محمد بوخزار، وفي فترة لاحقة التحق بالمكتب علي أنوزلا، ثم حاتم البطيوي، الذي سينتقل بعد ذلك إلى لندن في فترة تدريبية، وربما كان يأمل في البقاء هناك، وهو ما سيتحقق له لاحقا، لكن بعد أن غادرت الصحيفة في أبريل 1996. وكان هناك محمد الراوي، وحسن العطافي، ومحمد الصيباري، وسعيد أبو صلاح الدين، وضرغام مسروجة الذي كان يعمل من الدارالبيضاء، وفي وقت لاحق التحق بالمكتب منصف السليمي، الذي بدأ متعاونا في صفحة الدين، ثم جاءت سميرة مغداد، التي تعمل حاليا مسؤولة عن تحرير «سيدتي». كما عمل في المكتب الأخ محمد ضاكا مراسلا لصحيفة «المسلمون» والأخ بن عيسى الفاسي، الذي راسل فترة مجلة «المجلة»، وعمل معنا فترة كذلك عمر الأنواري، وكان هناك بالطبع الأخ عبد اللطيف الصيباري، الذي كان أول مصور يوظف في المكتب وجاء بعده مصطفى الشرقاوي، وهناك آخرون وآخريات عملوا متعاونين. وعينت محمد عباس مراسلا للصحيفة في الجزائر ومحمد علي القليبي مراسلاً في تونس وعبد الله ولد محمدي في موريتانيا. كيف كان يتم اختيار الذين عملوا معك؟ - كل واحد له قصة. مثلا محمد الأزهري، أنا الذي اقترحت عليه العمل معنا، وكذلك محمد بوخزار، أما حاتم البطيوي فتعرفت عليه، وهو لازال فتى صغيرا، من خلال ترددي على مهرجان أصيلة الثقافي، وعندما جاء إلى الرباط ودرس في كلية الحقوق عمل فترة قصيرة في صحيقة «الميثاق الوطني» ثم التحق بمكتب «الشرق الأوسط». أما علي أنوزلا فبدأت علاقته بالمكتب عندما كان في السنة الثانية في معهد الإعلام والاتصال في الرباط، حيث أمضى فترة تدريبية معنا. وانضم إلى المكتب كذلك حسن العطافي محررا رياضيا أساسيا، ومحمد الراوي كان متعاوناً مع «العلم»، ويكتب في رياضة ألعاب القوى، وقد اقترحت عليه العمل معنا متعاونا في مجال الرياضة في البداية، والأمر نفسه ينطبق على سعيد أبو صلاح الدين، الذي كان متعاونا مع «العلم»، ويحضر كل أحد للمساعدة في كتابة تقرير البطولة الوطنية اعتمادا على الإذاعة، والأمر نفسه ينطبق على محمد الصيباري وإبراهيم الدمناتي. أما منصف السليمي فقد كانت تربطه علاقة مع محمد الهاشمي الحامدي، الذي كان يشرف على صفحة الدين في لندن، وطلب مني توظيفه كمتعاون، إذ أنهما معا يتحدران من مدينة «سيدي بوزيد»، وكلاهما كان ينتمي لحزب «النهضة» التونسية. هناك من يقول إن طلحة جبريل كان صارما في تعامله مع الصحفيين، بل كان «متسلطا» في كثير من الأحيان. ما هو تعليقك؟ - إذا كانت الصرامة تعني المهنية وحب المهنة والإخلاص لها، فهذه تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه. وفي ظني أن الصحافي لا يحاسب بأسلوبه في إدارة الفريق الذي يعمل معه، بل بالنتائج التي يحققها. شخصيا، أعتقد أن المطلوب ممن تناط به المسؤولية في هذه المهنة أن يأخذ من الناس أفضل ما عندهم، أما مساوئهم فهذه أمرها متروك لرب العالمين. وفي ظني كذلك أن السيطرة لا تأتي من لغة الأوامر، ولكن تأتي من سلامة هذه الأوامر. المؤكد أن هناك من يتقبل الصرامة على اعتبار أن الصواب في هذه المهنة لا يتذكره أحد، لكن الخطأ هو الذي يبقى عالقا في أذهان الناس، لأن الصحافة المكتوبة سر قوتها أنها مكتوبة. لا أدعى الكمال، وربما كنت أحتد في بعض الأحيان، لكن الحق يقال إن المجموعة التي عملت معي لم تكن لديها مشكلة معي في هذا الجانب، لسبب بسيط هو أني أنا من اختارهم، ثم إني دأبت على عقد اجتماعات تحرير منتظمة، كنا نناقش فيها كل شيء بحرية، أو هكذا اعتقدت دائما، وليس من المروءة أن نكيل الاتهامات بعد أن يغادر الشخص موقعه. وليس سرا أني تعرضت لأقاويل كثيرة، بل هناك من راح يضع نفسه في موقع الناصح، الذي يتبرع بالنصائح بلا حدود وهذه ليست شهامة، وهناك من تعمد الإساءة ووجه إلي اتهامات. ولا أزيد. هناك زملاء صحافيون اتهموك باختلاس أموال من الصحيفة. ما هو ردك؟ - نعم، ويا ليت الأمور توقفت عند تهمة الاختلاس فقط، المهم أني ساتوقف عند هذا الأمر لاحقاً، لكن دعني أتحدث الآن عن موقف ثلاثة من الصحافيين اشتغلوا معي، عندما عينت الصحيفة مديرا إداريا للمكتب عام 1994، وكان ذلك بناء على طلب مني شخصياً بعد أن شعرت بأن المسؤوليات الإدارية تثقل كاهلي. وهؤلاء الثلاثة هم محمد الراوي وسعيد أبو صلاح الدين ومنصف السليمي، وكم فوجئت بأنهم راحوا يتحدثون عن سوء إدارة في الفترة التي سبقت تعيين مدير إداري، وعن تسلط وما إلى ذلك من الترهات، وأكثر ما أثار استغرابي هو أن هؤلاء الثلاثة كنت صاحب فضل عليهم، وهناك أمور أترفع عن الخوض فيها، وذاكرتي لا بأس بها والوثائق موجودة، وبالنسبة للراوي لا أريد نبش الذاكرة أو تقليب الوثائق. كنت أنا ولا أحد غيري عينهم محررين في الصحيفة. ووصل الجحود مداه عندما سمعت بأذني كلاما لم يكن أي واحد منهم يجرؤ حتى على قوله همسا. ماذا نسمى ذلك سوى انعدام المروءة. إذ كان السليمي مثلا يطمح في أن يصبح هو مسؤول التحرير، علما بأني دافعت عنه مرارا وتكرارا أمام مسؤولين تونسيين لأنه كان مطلوبا من طرف الأمن في بلده. راج وسط الصحافيين أن المدير الإداري الجديد، وهو سعودي الجنسية، وجد «فوضى» إدارية في مكتب الرباط وأنت المسؤول عن هذه «الفوضى». إلى أي حد هذا الكلام صحيح؟ - هذا الكلام صحيح، وتم الترويج له من طرف البعض. ولا أعرف كيف يمكن أن تخلق الفوضى مؤسسة نالت احترام ملك البلاد، ربما كانت «الفوضى الخلاقة» كما يقال. لكن ما يبدد هذه الاتهامات هو أني أنا الذي اقترحت تعيين مدير إداري للمكتب، نظرا للتوسع الذي حدث في عمل الصحيفة، خاصة أني أصبحت أتنقل كثيرا في القارة الأفريقية، بالطبع أنا عربي مسلم لكني شديد الاعتزاز أيضاً بهويتي الأفريقية، لذلك كنت متحمساً للعمل في القارة السمراء، وأنجزت تغطيات أنا فخور بها، مثل الحالة التي كانت أقرب إلى الحرب بين موريتانيا والسنغال، وأجريت في تلك الفترة حوارا نادراَ واستثنائيا مع الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، إذ لم يسبق له أن أجرى حواراً مباشراً مع أي صحافي، حيث كانت الرئاسة الموريتانية تطلب أسئلة مكتوبة وترد عليها كتابة. ثم غطيت حرب ليبريا، والحرب في سيراليون، وتدهور الأوضاع في الكوت ديفوار، وما كان يجري في مالي، وفترة مضطربة في غينيا، والاحتقان الذي كان في الكاميرون، ومآسي الجوع والجفاف في النيجر، وهي تغطيات كدت أفقد فيها حتى حياتي. في المغرب أنشأت شركة طباعة، واشترينا بقعة أرض شاسعة عند مدخل الرباط لإنشاء تلك المطبعة، وهي ما تزال في ملكية الشركة وتضاعف سعرها. كما أسسنا مكتبا في الدار البيضاء واستعملنا تقنيات حديثة بكل المقاييس لاستلام صفحات الصحيفة. وعندما عين المدير الإداري كان واضحا أن خبراته محدودة جداً، ولا يفهم حتى ما هي طبيعة العمل الصحافي، وكان لابد أن يحدث اصطدام. ومن بين الوقائع التي أتذكرها، أنه جاء عندي محمد الراوي وسعيد أبو صلاح الدين يقولان لي أمام المدير الإداري الجديد: «نحن نعمل وأنت لا تريد أن تعترف بعملنا». وكان موقفي أن نظرت إليهما بازدراء، لا أنكر ذلك. وكم ساءني أيضا أن بعض الصحافيين، الذين روجوا ضدي الاتهامات الباطلة، اشتغلوا في مهام لا علاقة لها بالصحافة مع المسؤول الإداري الجديد. ودعني أقف عند الحد.