الحلقة الثامنة عشر : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدارالبيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدارالبيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
ألم يقترح عليك حسن أوريد، عندما كان ناطقا رسميا باسم القصر الملكي، أن تتعاون معه في أية مهمة إعلامية؟ - لا. ثم علينا أن نتذكر أن حسن أوريد عين ناطقا رسميا باسم القصر الملكي في غشت 1999. في ذلك الوقت، كنت عاطلا عن العمل، معتكفا في مكتبي في أكدال بالرباط، بعد أن غادرت صحيفة «الحركة»، لسان حال حزب الحركة الشعبية، في ماي من تلك السنة. ثمة تعبير تستعمله الصحافة، وأظن أنه مأخوذ من الفرنسية، يقول «إن فلانا يعبر الصحراء»، في إشارة إلى أنه يمر بظروف صعبة أو ما إلى ذلك. والواقع أني في ذلك الوقت لم أكن فقط أعبر صحراء، بل فيافي وقفارا وهضابا وغابات وأحراشا. كانت أياما قاسية. ولا أزيد. لم يكن لدي ما أقدمه في المجال الإعلامي، سواء للأخ أوريد أو لغيره من المسؤولين في الدولة. لكن هناك واقعة لعبت فيها دورا صغيرا، وأظن أنه حان الوقت لإزاحة النقاب عن بعض تفاصيلها. في الفترة التي تولى فيها حسن أوريد مهامه كناطق رسمي باسم القصر الملكي، كانت علاقتي بالأخ عبد الكريم بن عتيق وثيقة للغاية. الآن لم تعد كذلك؟ - نعم. وسأتحدث عن الأسباب في وقت لاحق. كان بن عتيق وقتها عضوا في المكتب التنفيذي ل«الكونفدرالية الديمقراطية للشغل»، ومن القريبين جدا إلى نوبير الأموي. فهمت من عبد الكريم بن عتيق أنه سيكون شيئا رائعا لو أن جلالة الملك محمد السادس استقبل الأموي ليقدم له التعزية في رحيل الملك الحسن الثاني، على غرار باقي القادة السياسيين، خاصة أنه يقود نقابة قوية، كان الأموي وقتها من القياديين المؤثرين في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. التقطت هذه الإشارة ونقلت الاقتراح إلى حسن أوريد. قلت له: «يبدو أن الأموي له رغبة في أن يستقبل من طرف الملك». اهتم أوريد بالموضوع، والمؤكد أنه طرح الفكرة، والثابت أنها وجدت قبولا. عندما أبلغ الأموي بأن الملك سيستقبله، قال إنه يريد تأكيدا رسميا، لذلك قرر حسن أوريد أن يذهب شخصيا لزيارة الأموي في بلدته «بن احمد». كنت قريبا من هذه التطورات. رافق بن عتيق أوريد في زيارته للأموي، وتم اللقاء الذي بحث فيه موضوع استقبال الأموي من طرف الملك. ما الذي دار بين الأموي وأوريد في لقاء «بن احمد»؟ - لم أعرف ماذا جرى في ذلك اللقاء، الذي حضره عبد الكريم بن عتيق. لكن عرفت فيما بعد أن نوبير الأموي كان يريد أن يتأكد بأن اللقاء مع الملك سيتم، وأن هناك موافقة ملكية، لذلك أعتقد أنه أصر أن تنقل له هذه الموافقة عبر قناة رسمية. ربما أراد أن يزوره شخص له موقع رسمي، وينقل له الموافقة، وليس مجرد رسالة شفوية نقلتها من بنعتيق إلى سي أوريد ثم ترحيب شفوي من حسن أوريد نقلته للأخ بن عتيق. وربما لهذا السبب انتقل أوريد إلى ابن أحمد. لكن لماذا لم توظف قصة هذا اللقاء صحافيا؟ - لم أفعل ذلك لسببين: أولا، أنا كنت عاطلا عن العمل، ولا يوجد منبر يمكن أن أكتب فيه تلك القصة، إذا سلمنا جدلا بأنها قصة إخبارية. الأمر الثاني أنه في بعض الأحيان تكون لديك أخبار مهمة جدا، لكنك لا تستطيع أن تنشر ما تعرفه إذا كنت شاهدا على الأخبار وهي تصنع أمامك، ولا أقول مشاركا في صنعها. وفي كل الأحوال، من الضروري أن يعرف الصحافي كيف يستطيع أن ينال احترام وثقة مصادره، ولا يجنح للتبجح بمعلوماته، حتى يقال إن فلانا يتوفر على معلومات. أفهم من كلامك أنك كصحافي لا تجد أي حرج في أن تكون أحيانا في خدمة وطنك الثاني (المغرب) وليس فقط في خدمة قرائك؟ - بصراحة في هذا الجانب، لدي اقتناع بأن الإنسان إذا أتيحت له فرص كي يقدم خدمة لبلد يحبه، وهو بمثابة وطن، ولا أقول وطنا ثانيا، عليه ألا يتقاعس. المغرب قدم لي كل شيء، فماذا يمكن أن يقدم لي أكثر مما قدم، منحني العلم والأبناء والمواقع. ماذا يمكن أن أطلب أكثر من ذلك. وإذا أتيحت لي أي فرصة للقيام بدور إيجابي لفائدة المغرب فلن أتأخر ثانية واحدة. هل ذهب أوريد إلى «بن احمد» بصفته ناطقا رسمياً باسم القصر الملكي؟ - نعم. وكنتيجة للقاء «بن أحمد» سيدخل نوبير الأموي القصر الملكي في الرباط. وسيستقبل في إطار تقديم تعزية من طرف قادة المركزيات النقابية الثلاث، أي المحجوب بن الصديق وعبد الرزاق أفيلال والأموي. كان الاستقبال الملكي لكل من بن الصديق وأفيلال بروتوكوليا. وأشار البيان، الذي صدر من الديوان الملكي وقتها، أن قادة المركزيات الثلاث نقلوا العزاء للملك محمد السادس في وفاة الملك الحسن الثاني، على غرار ما حدث مع زعماء الأحزاب السياسية. لكن علمت أن استقبال الأموي استغرق وقتا طويلا. وماذا قال الأموي في حضرة الملك محمد السادس في هذا اللقاء؟ - لم يتكلم معي الأموي بعد لقائه بجلالة الملك في هذا الموضوع، لكنه تحدث مع عبد الكريم بن عتيق، ويبدو أن الأموي خرج بانطباع جد إيجابي بعد هذا الاستقبال الملكي، إذ قال لي بنعتيق إن الأموي قال له: «هنيئا للمغرب بهذا الملك الشاب». وسمعت أيضا أن الملك تطرق خلال هذا الاستقبال إلى اعتقال الأموي والفترة التي أمضاها في السجن وربما سمع منه عبارات لتضميد الجراحات. المؤكد أن الأموي كان مرتاحا جدا لما سمع خلال الاستقبال الملكي. كان دوري صغيرا كما قلت، لكن ذلك وطد علاقتي مع نوبير الأموي. هل عرف الأموي بهذا الدور؟ - أكيد. ولا أنسى له التفاتة تمت بعد ذلك في عام 2002، وأنا وقتها أتولى رئاسة تحرير صحيفة «الجمهور» عندما دعاني إلى غداء في منزله في الدارالبيضاء، كنا وحدنا على ذلك الغداء، الذي استغرق زهاء ثلاث ساعات، حيث أعد لي مأدبة شواء دسمة، وبعد أن استمع مني لكل قصة «الجمهور» وكيف صدرت وأهداف المشروع الإعلامية، قال لي: «أود تنبيهك إلى أنه ستتم إقالتك من رئاسة تحرير الصحيفة، لذلك من الأفضل قبل إقالتك أن تقلب عليهم الطاولة واخرج». والمفارقة أن ما قاله الأموي هو ما حدث فعلا، حيث تمت إقالتي من «الجمهور»، وطلب مني مغادرة مبنى الصحيفة في سقف زمني لا يتعدى ساعة، وهي ملابسات سأتعرض لها عندما أروي قصتي مع «الجمهور»، لكن في ذلك الوقت، أي عندما تغديت مع الأموي، اعتبرت أن نصيحته تدخل في خانة الحساسيات التي طرأت على علاقته مع عبد الكريم بن عتيق بعد أن أصبح كاتبا للدولة في حكومة التناوب، لكن الأموي كان صادقا في تحذيره، ولا أعرف من أين توفرت له تلك المعلومات، وفي وقت مبكر. كانت هذه أول مرة تلتقي فيها الأموي؟ - ليست هذه أول مرة. الثابت أن الأموي كان يقدر لي أيضا موقفا آخر حدث قبل ذلك بسنوات، حين كنت أتولى منصب مدير مكتب «الشرق الأوسط» ومسؤول التحرير. كان ذلك في صيف عام 1994، وربما أراد الملك الحسن الثاني أن يفهم ماذا يدور في رأس نوبير الأموي، خاصة بعد سلسلة الإضرابات العامة، ومنها الإضراب الذي أدى إلى أحداث دموية بفاس في يناير 1990. ويبدو أن الملك أراد أن يسمع أفكار الأموي من شخص محايد. وأقول للتاريخ إن عبد الكريم بنعتيق كان بدوره يسعى إلى أن تصل آراء الأموي إلى الدوائر العليا، وأبلغني رسالة مؤداها أن الأموي يمكن أن يتحدث معي أو مع عثمان العمير، رئيس تحرير «الشرق الأوسط» آنذاك. قلت له أفضل أن يتحدث مع عثمان العمير لأنه كان يستقبل من طرف الملك في جميع المناسبات، ثم إن العلاقة توطدت إلى الحد الذي بات الملك الحسن الثاني يتحدث مع العمير على الهاتف. لم أبلغ عثمان العمير ما هو الهدف من اللقاء مع الأموي، ولم أقل له إنه يريد نقل رسالة شفوية إلى الملك الحسن الثاني، لكني قلت للأخ العمير «الأموي سياسي مهم»، وفي تلك الآونة كان للأموي حضور كبير في الساحة السياسية. اقترحت على العمير أن يلتقي به ويستمع إليه. كان عثمان العمير، وفي إطار اهتمامه بالساحة السياسة في المغرب، يعرف جيدا من هو الأموي ودوره السياسي، لذلك وافق على الاقتراح. اتفقت مع عبد الكريم بن عتيق أن نذهب إلى الدارالبيضاء ونتغدى مع الأموي، إذ بدا لي أن دعوة الأموي إلى الرباط سيكون أمرا غير لائق وربما لن يقبل بهذه الصيغة. بالفعل ذهبنا إلى الدارالبيضاء حيث تناولنا الغداء جميعا (الأموي وعثمان العمير وبن عتيق وأنا) في مطعم على شاطئ البحر، لم أعد أذكر اسمه.. أتذكر أن العمير أراد تسديد فاتورة الغداء في بادرة عادية، بيد أن الأموي قال لنا: «نحن في المغرب ولا نقبل مطلقا أن يسدد الضيوف فواتير أي دعوة». ماهي الرسالة التي أراد الأموي إبلاغها في هذا اللقاء مع العمير؟ - كان الأموي قبل ذلك في السجن. لذلك ركز على القضية الديمقراطية والإصلاح الدستوري ومسألة نزاهة الانتخابات والقضايا الأساسية في ذلك الوقت. وقال لنا الأموي: «نحن لا نريد التخريب، ولا نريد العمل مع الأجانب حرصا على مصلحة البلاد». ومما رواه لنا كيف وقف بشدة ضد أي تدخل عراقي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات لشعبية، مع أنه كانت له توجهات عربية وقومية واضحة. وماذا كان رأي عثمان العمير بعد انتهاء اللقاء؟ - حاول الأخ العمير تلخيص آراء الأموي كما طرحها، وطلب مني أن أتذكر كل كلمة قالها. بالطبع لم أكن أسجل ما دار من حديث بيننا، بل كنت أتابع بذاكرة يقظة ما كان يقول، خاصة أني في مثل هذه الحالات ألتزم الصمت المطبق. ومما لفت انتباه العمير أن نوبير الأموي كان يتحدث بلغة عربية طليقة، ولم يستعمل حتى العامية. كان يتحدث بهدوء شديد، وكأنه يقرأ من أوراق أمامه. ويبدو أنه كان يعرف جيدا ماذا يريد أن يقول، ورتب أفكاره بكيفية واضحة قبل اللقاء. سألني العمير «ما رأيك فيما قاله الأموي؟»، فقلت له: «أعتقد أن الأموي يريد أن يبلغ رسالة إلى الملك، وربما يرغب في حوار مباشر دون وسطاء»، وبدأت أسرد له أهم الأفكار التي طرحها كما تذكرتها. وعلمت لاحقا أن الرسالة وصلت فعلا إلى الملك الحسن الثاني. عبر عثمان العمير؟ - نعم. كم دام هذا اللقاء مع الأموي؟ - دام مدة طويلة، حوالي ثلاث ساعات. بعد غداء الكورنيش تعززت علاقتي بنوبير الأموي. كنت عندما أتصل به يكون كريما في تزويدي بالمعلومات التي يعرف. لكن يجب أن أقول للتاريخ إن الذي عرفني به هو عبد الكريم بن عتيق، وهو من رتب لي أول لقاء مع نوبير الأموي بعد خروجه من السجن، حيث زرناه في مقر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في «درب عمر» بالدارالبيضاء. لكن علاقتك بعبد الكريم بنعتيق توترت بعد ذلك؟ - لم تترك لها غوائل الزمن حتى فرصة أن تتوتر، بل انقطعت نهائيا وران عليها صمت القبور. لكن التاريخ يبقى هو التاريخ. التاريخ لا تكتبه الأمزجة والأهواء، بل يكتب نفسه. على أي حال، سنتعرض لهذه التفاصيل عندما يأتي ذكر تجربة «الجمهور». من بين الذين استقبلهم الملك محمد السادس أيضا في تلك الفترة، أي فترة الحداد، الفقيه البصري. هل سبق أن تعرفت على الفقيه؟ - أعتقد أن الملك محمد السادس استقبله ضمن وفد من رجال المقاومة. أما أول لقاء لي مع الفقيه البصري، فتم في العاصمة الليبية طرابلس عام 1989، وهذه كانت من المفارقات. طبعا قبل ذلك كنت أسمع كثيرا عن الفقيه البصري، خاصة من عبد الكريم بنعتيق. كانت تلك أول مرة تلتقيه؟ - نعم. كان الفقيه البصري آنذاك ما يزال يعيش في المنفى، لأنه لم يعد إلى المغرب إلا في يونيو 1995. ظلت تحركات الفقيه البصري مراقبة من طرف الأجهزة المغربية. وأتذكر أني كنت أقيم في فندق اسمه «باب البحر» في طرابلس، فجاء عندي ليبيون، فهمت أنهم من المخابرات. كانوا يعملون مع جهاز يترأسه موسى كوسة، وزير الخارجية الحالي. قالوا لي إن «هناك شخصية مهمة نريدك أن تتعرف عليها»، فقلت لهم: «طيب»، لكن لم يتبادر إلى ذهني أن الأمر يتعلق بشخصية مغربية بطبيعة الحال. اعتقدت أنهم يتحدثون عن مسؤول ليبي. إذن المخابرات الليبية هي التي سهلت لك مأمورية هذا اللقاء مع الفقيه البصري؟ - نعم، وكيف لي أن أعرف بوجود شخصيات مهمة في فنادق ليبيا، وما أدراك ما فنادق ليبيا. ما سبب زيارتك لليبيا؟ - كنت أذهب دائما بين الفينة والأخرى لتغطية بعض المناسبات. كان هناك مهرجان سياسي وثقافي وجهت لي دعوة لحضوره، ثم إني كنت مسؤولا للتحرير عن منطقة المغرب العربي. وعلى الرغم من ترددي الكثير على ليبيا لم ننجح في تعيين مراسل لصحيفة «الشرق الأوسط» في هذا البلد العربي. كان الوضع السياسي خانقا جدا. لذلك كنت أذهب شخصيا كلما كان هناك أمر يستدعي انتقالي إلى ليبيا. لنرجع إلى الفقيه البصري.. -كما قلت قبل قليل، جاء عندي مسؤولون ليبيون، وقالوا لي إن «هناك شخصية نريدك أن تتعرف عليها»، فذهبت معهم إلى الفندق الذي تقيم فيه الشخصية المفترضة، ولاحظت أنهم دخلوا الفندق من الخلف، ثم صعدنا في مصعد يستعمل لنقل المواد الغذائية، دلفنا أحد الطوابق، دقوا الباب وطلبوا مني أن أنتظر، ثم دخلوا إلى جناح، وبعد قليل خرج أحدهم وطلب مني الدخول لأجد نفسي أمام الفقيه البصري. لم أكن أعرفه لأنني لم أره إلا في صور قديمة. كانت ملامحه قد تغيرت كثيرا. ومما زاد الأمر تعقيدا أنه تحدث معي بلهجة مشرقية أقرب ما تكون إلى اللهجة الفلسطينية، وفيما بعد عرفت أن إحدى بناته متزوجة من فلسطيني. سلمت عليه ودعاني إلى الجلوس، وسألني «ألم تعرفني؟». قلت له: «في الحقيقة لا». وحتى ذلك الوقت اعتقدت أنه شخصية فلسطينية. لكن كنت متيقنا أنه ليس من القيادات. كنت أعرف معظم القيادات الفلسطينية البارزة مثل أبي جهاد أو أبي إياد، أو خالد الحسن أو جورج حبش أو نايف حواتمة... هؤلاء كلهم أعرفهم وسبق لي أن التقيتهم. وماذا قال لك الفقيه البصري في هذا اللقاء - سألني كيف هو المغرب، فقلت له: «الحمد لله.. الأمور تسير». تبادلنا حديثا عاديا، حول الأوضاع في المغرب. لم تخبره بأنك لم تعرف من هو؟ - لا. عادة أترك فضولي الصحافي جانبا في مثل هذه اللقاءات ولا أتسرع. قال لي: «تسمع بالفقيه؟»، وغاب عن بالي الفقيه البصري، فقلت له: «أي فقيه؟»، فقال: «تسمع بالفقيه البصري؟». أجبت «بالتأكيد، أسمع كثيرا بالفقيه البصري»، فرد مبتسما «هذا هو الذي أمامك». ربطت بين الصور التي كنت شاهدتها وبين الشخص الذي أمامي، وتأكدت أنني أمام الفقيه البصري لحما ودما. ثم استطرد قائلا «قيل لي إن لك علاقات قوية في المغرب». قلت: «ربما». ثم أضاف «أنت تعرف الملك الحسن الثاني؟». كنت في ذلك الوقت أجريت الحوار، الذي أشرت إليه في يناير عام 1985 مع الملك الحسن الثاني، فقلت له: «الأمر لا يصل إلى درجة المعرفة، لكني أجريت معه لقاء صحافيا. لكني لا أدعي أني أعرفه». ثم راح يسأل بطريقته الغامضة والملفتة عن أوضاع المغرب. بدأت وقتها أتحدث بطريقة مختلفة، ثم استأذنته في أن أسجل معه حوارا، فقال لي: «اترك الحوار من بعد. دعنا نتكلم الآن بدون قيود». وهل كشف لك الفقيه البصري في هذا اللقاء عن بعض الأسرار المثيرة؟ - تحدثنا كثيرا، لكنه لم يقل شيئاً له طابع إخباري. كان معي المصور الأخ عبد اللطيف الصيباري، وطلبت من ليبي كان يجلس في مدخل الجناح، أن يحضر لالتقاط صورة تذكارية، بعد أن حصلت على موافقة الفقيه البصري. وعدا هذه الصورة، لم يكن هناك ما يستحق النشر من الزاوية المهنية. وما هو الاستنتاج الذي خرجت به من هذا اللقاء مع الفقيه البصري؟ - استنتجت من ذلك اللقاء أن الفقيه البصري، رحمه الله، يمكن أن يتكلم معك أربع أو خمس ساعات ولا يقول لك شيئا له أهمية، وتذكرت مقولة كان يستعملها السياسي الفلسطيني، خالد الحسن، الذي ربطتني به علاقة وثيقة جدا. كان خالد الحسن (أبو السعيد) يتحدث دائما عن قدرة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يجلس مع ضيوفه، يستمع إليهم بالساعات الطوال، وبين الفينة والأخرى، يلقي جملة مقتضبة، ويترك لمن يستمع إليه أن يغوص في تفاصيل لا أول لها ولا آخر. ثم يلقي عليه سؤالا أو فكرة، ويتركه يدخل من جديد في تفاصيل أخرى، وهكذا يدخل ضيفه في دوامة لا تنتهي. وهو الأسلوب الذي أطلق عليه جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، «دبلوماسية المثانة»، أي أن الرئيس حافظ الأسد يجعل ضيفه يجلس عنده بالساعات الطوال، حتى تمتلئ مثانته، ويصبح كل همه أن يذهب إلى المرحاض، وليس التركيز في حديثه، فيما الأسد يظل مثل صنم لا يتحرك. أتذكر أني سمعت من خالد الحسن أن حافظ الأسد إذا أراد أن «يذبحك ذبحا»، على حد تعبير «أبو السعيد»، يستقبلك ثم يبدأ يستمع إليك، وبما أنك مع رئيس دولة، تعتقد أنه يجب أن تقول كل الأشياء والأفكار التي تريد طرحها، ثم بعد أن تفرغ كل ما في جعبتك في ساعة أو أكثر، يسألك سؤالا يضطرك إلى أن تعيد كل ما قلته مع إضافات، وهو يصغي إليك دون أن يعبر عن أي امتعاض أو ضيق، ثم يجرجرك هكذا لمدة أربع أو خمس ساعات. كان معروفا أن استقبالات حافظ الأسد لأي ضيف، أيا كانت أهميته أو مركزه، لا تقل عن أربع ساعات. شرح لي خالد الحسن هذا الأسلوب، وهو الأمر الذي انتبه إليه جيمس بيكر، مشيرا إلى أن حافظ الأسد يظل يطلب مشروبات باردة أو ساخنة لضيوفه، وبالطبع لابد أن تشرب، وبعد فترة تمتلئ المثانة، وتحتاج إلى دخول المرحاض، وطبعا يصبح ذلك غير ممكن لأنك أمام رئيس دولة، واللياقة تقتضي ألا تفعل ذلك، ونحن نعرف أن أي شخص حينما يكون متضايقا، يريد أن يدخل المرحاض، وإذا لم يستطع دخوله يحدث له عدم تركيز ولا يستطيع أن يستوعب ما يقال، ولا يستطيع بعد انتهاء المقابلة أن يتذكر ماذا قيل. وهذا ما حصل لك أنت أيضا مع الفقيه البصري؟ - نعم. هذا ما حصل لي بالضبط مع الفقيه البصري. إنه يستعمل الأسلوب نفسه، لكن بطريقة معكوسة، يطرح عليك في البداية سلسلة أسئلة، وبعد أن تستمر الجلسة طويلا يشرع في الحديث عن أشياء عامة، وعن التاريخ وما إلى ذلك من مواضيع فضفاضة. أنا كنت أتوقع أن يتحدث إلي عن علاقته بالملك الحسن الثاني وتفاصيل الخلاف السياسي وحول خططه ومسألة عودته إلى المغرب، لكنه راح يتحدث، بعد أن شربت الكثير من المشروبات الباردة والساخنة، عن ضرورة أن يعتني المغرب بأجياله الشابة. كان يركز في حديثه على فكرة مؤداها أن الجيل الذي حقق الاستقلال قام بدوره وأن المسؤولية يجب أن تناط الآن بالشباب. وكلام من هذا القبيل. تقصد القول أنه كان يتحدث لغة خشب؟ - نعم، لغة خشبية تماما ولا تعني شيئا. في الحقيقة، شعرت بإحباط شديد من ذلك اللقاء، إذ كنت أتوقع الخروج «بخبطة صحافية»، لكن كانت تلك مجرد أوهام. لم يكن في ذلك اللقاء شيء يستحق أن يذكر. كان الخبر هو أني التقيت الفقيه البصري، ولا شيء عدا ذلك.