الحلقة الحادية والعشرون : عندما غادرت صحيفة «الجمهور» في 12 يونيو 2002 مطروداً، وعلى الرغم من المرارة التي كنت أشعر بها، ألحت على خاطري فكرة هذا الكتاب كتاب يروي بالتفاصيل والوقائع، والأهم بالوثائق، تجربة العمل رئيساً لتحرير أربع صحف يومية، خاصة أنه بدا لي الكثير مما ألقي على الناس في وقت لاحق كان مجافياً لما عشته ورأيته بعيني وسمعته بأذني في زمانه ومكانه. وضعت تصوراً ذهنياً للكتاب، واخترت له عنواناً يقول «صحافة تأكل أبناءها». خلال تلك الرحلة المهنية وجدت أن معظم الذين تعاملت معهم لا يحبون الخسارة وليسوا جاهزين لها. ولا أزعم أو أدعي بأنني أحب الخسارة، لكنني كنت دائماً جاهزاً لها. بقيت فكرة الكتاب في مكانها، وفي كل مرة كانت تشغلني عنها مشاريع أخرى، ومشاغل لا تهدأ مع الحياة وتفاصيلها، والزمن وتصاريفه. من 12 يونيو2002 حتى 22 أبريل 2010، مرت حوالي ثمان سنوات. في ذلك اليوم وفي الخامسة مساء سألتقي بالأخ رشيد نيني، ناشر ورئيس تحرير «المساء» ورئيس مجلس إدارة المجموعة التي تصدرها. تواعدنا أن يكون اللقاء في أحد فنادق الدار البيضاء، على فنجان قهوة، لإغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. وأشهد الله أنه كان كريماً حيث طرح عدة اقتراحات على الطاولة، ثم اقترح إجراء حوار مطول ينشر في حلقات. وافقت من حيث المبدأ، إذ بدا لي أن كتاب «صحافة تأكل أبناءها» يمكن أن يخرج عبر هذه الصيغة المعدلة. كان الأخ رشيد نيني سخياً مرة أخرى، وهو يطلب تحديد المبلغ الذي ستدفعه الصحيفة لقاء هذه الحلقات. اقترح من جانبه أن يجري الحوار الزميل مصطفى الفن، وأن تتم الصياغة النهائية بالتراضي. هكذا شرعنا في العمل في مكتبي الشخصي بالرباط، وتحمل الأخ مصطفى الفن عناء التنقل من الدار البيضاء إلى الرباط مرتين في الأسبوع وأحياناً أكثر، إلى أن اكتمل هذا العمل. في هذه الحلقات لم أركن إلى ما تستطيع الذاكرة أن تستدعيه، وإنما إلى أوراق مكتوبة في أوانها، تستعيد الوقائع كما جرت وبتفاصيلها. وأقول مجدداً إن مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة. لم أرغب أن يكون هذا الكتاب نوعاً من كتابة «مذكرات» مع أني عشت الوقائع، إذ حرصت قدر الإمكان أن تكون هناك مسافة بين الوقائع والحياد المطلوب في روايتها. الثابت أنه عندما يقترب صحافي من عملية صنع الأخبار، يصبح ليس شاهداً على وقائعها، وإنما يتحول في بعض الأحيان إلى طرف في صنعها. لم أقصد أن أكتب عن «حق» أو «باطل». وفي اعتقادي، عندما نكون على حق، لا يستوجب ذلك أن يكون رأينا مكتوباً أو صوتنا مرتفعاً. بقيت مسألة. يجب أن ينظر إلى هذه الحلقات باعتبارها مواضيع لملمها خيط ذاكرة متشعب مثل غصن استناداً إلى وثائق مكتوبة وصور موجودة وصوت مسجل. طلحة جبريل (صحافي سوداني مقيم في المغرب) [email protected]
بعد حوار مراكش، أجريت حوارا آخر مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.. - نعم، أجريت معه حوارا آخر في أبريل من عام 1984 في فاس، رفقة اثنين من الزملاء المراسلين العرب. كان ياسر عرفات يمتاز بذكاء حاد جدا وبذاكرة لا تخطئ وبقدرة على ربط علاقات مع صحفيين بطريقة تلقائية. وهو إعلامي بارز، وكما قيل «الكلمة لديه بأهمية البندقية، والحركة الإعلامية توازي الحركة العسكرية». كان ذلك اللقاء أيضا بعد اجتماع للجنة القدس دعا إليه الملك الحسن الثاني. في ذلك الاجتماع ألقى أبو عمار خطابا طويلا، لكن «الشرق الأوسط» نشرت منه فقرتين فقط. طبعاً التقرير، الذي نشر كان موقعاً باسمي، وطلب عرفات من مساعديه أن يبحثوا عني وجاؤوا إلى حيث كان الصحافيون يقيمون وقالوا لي: «الختيار يريدك». هكذا كان مساعدوه ينادونه. و«الختيار» تعني باللهجة الفلسطينية «الشخص الكبير» أو «كبير العائلة». فعلاً رافقتهم إلى حيث كان الرئيس عرفات يقيم في جناح في فندق «قصر الجامعي» بفاس، وفور أن التقيته بادرني قائلاً: «مش معقول يا طلحة أنا تحدثت ساعتين وأنت كتبت كلمتين». طبعا بعد واقعة مراكش لم تفاجئني لهجته، وقلت له: «يا سيادة الرئيس، أنا كتبت جزءا أكبر من كلمتك، لكن التحرير في لندن اختصر ما كتبت»، وقلت له: «ما رأي سيادتكم في حوار خاص ننشره على صفحة كاملة». كان هناك زميلان آخران طلبا منه حوارا، هما شوقي السيد، مراسل وكالة «أنباء الشرق الأوسط» المصرية، رحمه الله، ومحمد مثني، مراسل وكالة «الأنباء» العراقية. وحتى يرضينا أجرينا حوارا مشتركا، لكنه طلب مني البقاء، ولم أكن أعرف سبب ذلك. بعد أن خرج الزميلان شوقي السيد ومثني، قال لي إنه ذاهب في جولة عربية وبعد ذلك سيزور دولا آسيوية، واقترح علي أن أرافقه. شكرته وقلت له «إني سأتصل بالصحيفة وأبلغ مرافقيه بالقرار». كان وقتها محمود عطا الله هو نائب رئيس تحرير الصحيفة، وهو مصري، لكنه تحفظ على الاقتراح. وقال: «أخشى أن يقال لنا فيما بعد هذه مجاملة لعرفات أو يدلي بتصريحات ضد دول الخليج وأنت تكون موجودا معه في الطائرة، ويشكل ذلك إحراجا للصحيفة». وماذا قال لك عرفات أيضا خلال فترة بقائك معه؟ - بدا جد متفهم وقال لي: «إذا كانت لديك أسئلة إضافية تفضل اطرحها»، وأضاف: «ستبقى معنا إلى أن يأتي عندي أحمد بنسودة مستشار الملك الحسن الثاني، ونتعشى جميعا». اعتقدت أن دعوة عرفات لي للعشاء معه، بحضور بنسودة كرما منه، وربما لطي صفحة اللقاء العاصف في مراكش. وقال لي عرفات: «طلبت عشاء سيعجبك». ياسر عرفات، رحمه الله، كان رجلا ذواقا يحب الأكل. لم يكن يشرب أو يدخن. شخصياً استهوتني قصة العشاء، وتساءلت: «يا ترى ما هذه الوجبة التي ستعجبني»؟. جاء أحمد بنسودة وشعرت بأنه يريد أن يقول شيئاً خاصاً للرئيس الفلسطيني، لذلك شعرت بالحرج، إذ لا يجوز الاستئذان، وفكرت في الذهاب للمرحاض، حتى أترك لهما فسحة من الوقت يقول فيها المستشار الملكي ما يريد. لكن ما إن قلت: «سيادة الرئيس أود أن أستأذنكم...»، حتى بادر عرفات قائلاً: «اِبْقَ، سيأتون بالعشاء الآن». بقيت وأنا أشعر كأن عقارب الساعة توقفت، وراح بنسودة يتكلم عن فاس وعن القرويين والشعر وعن قضايا عامة. جاء العشاء، وفهمت أن الأكلة التي يتحدث عنها ياسر عرفات كانت تتكون من الحمام «المحمر». وكم فوجئت بهذه الأكلة، لأننا، نحن السودانيين، نأكل الحمام كثيرا، وهو فعلا من الأكل المحبوبة لدينا جدا في السودان. أما الأكلة الثانية فكانت طبق «ملوخية»، وهي ليست الملوخية التي يعرفها المغاربة، بل هي عبارة عن أوراق خضراء تشبه النعناع، تطحن وتطهى في المشرق العربي مع اللحم، أو مع لحم الأرانب كما يحدث في مصر، ويتم تناولها غالباً مع الأرز. ولا ننسى أن ذوق ياسر عرفات مصري لأنه تربى في مصر. وأتذكر أن ياسر عرفات كان في كل مرة يأخذ حمامة محمرة يقول لي: «كل هذه لن تجدها مرة أخرى. هذه الوجبة عملت خصيصا لي». وقال أيضا مازحا: «يا طلحة هذه وجبة بأوامر ملكية، لأن جلالة الملك أعطى أوامره حتى يجهزوا لي حماما محمرا، لأنهم هنا في المغرب لا يأكلون الحمام كثيرا». أعتقد أن أكل الحمام فعلا نادر في المغرب. وما زلت أتذكر كيف أن هذه الأكلة كادت تثير «أزمة ديبلوماسية» بين المغرب وبريطانيا، عندما زارت الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا، المغرب زيارة رسمية، وأقام لها الملك الحسن الثاني مأدبة عشاء، وكان من بين المأكولات الحمام المحمر. وكما نعرف يمنع اصطياد الحمام في بريطانيا ولا يؤكل. وقتها تركت ما يسمى ب«الصحف الشعبية» أو «صحف التابلويد» في بريطانيا كل ما جرى في الزيارة، وكتبت أن الملكة تعرضت لإهانة في المغرب، حيث قدم لها الحمام في مأدبة العشاء. كم استغرقت وجبة العشاء مع عرفات من الوقت؟ -استمرت طويلاً، وكنت كلما أردت الاستئذان بالمغادرة، كان عرفات يستبقيني فأزداد حرجاً، لأني شعرت أن أحمد بنسودة جاء ومعه رسالة شفوية، لكنه لا يريد أن يقول شيئا أمامي. وعندما انتهى العشاء طلب مني أبو عمار البقاء، على أساس أن هناك حلويات، وقال: «ستأتي حلويات أوصى لنا بها جلالة الملك». وعرفات يحب كثيرا الحلويات، وأتذكر أن الصديق عبد الباري عطوان تطرق إلى هذا الأمر في أحد كتبه. أفهم من كلامك أن عرفات كان يتعمد إبقاءك معك حتى لا ينفرد به أحمد بنسودة؟ - نعم، لكن لم أفطن إلى هذا الأمر في البداية. ثم أحضروا الشاي. بعد ذلك استأذن أحمد بنسودة في أن يغادر، ولاحظت أنه كان يرغب في أن يخرج معه ياسرعرفات، لكن أبا عمار قال له: «يا سيادة المستشار لدي حديث صحافي أريد أن أكمله مع فلان»، وودعه. وزاد استغرابي حول ما يجرى أمامي. إذ كيف يخرج بنسودة، هو الذي اتصل هاتفيا وطلب أن يرى عرفات، كما فهمت، قبل أن يغادر الرئيس الفلسطيني فاس. لم يرافق عرفات بنسودة إلى خارج جناح إقامته؟ -لا، أبدا بل ودعه قرب الطاولة التي تناولنا فوقها العشاء. لماذا تصرف الرئيس الفلسطيني بهذه الطريقة وهو ضيف على المغرب؟ - سأعرف في وقت لاحق، من مصادر الوفد الفلسطيني، أن تهرب أبي عمار من الانفراد بأحمد بنسودة لا علاقة له بالحمام المحمر أو الملوخية، ذلك أن ياسر عرفات أراد أن أبقى معه للعشاء بعد أن علم أن بنسودة سيأتي عنده حاملا تعديلات على البيان الختامي الذي ستصدره «لجنة القدس». ويبدو أن البيان تمت صياغته بلهجة قوية، وربما كانت فيه إشارات ضد سورية أو الأردن، لم أعد أتذكر، وربما لهذا السبب فكر الملك الحسن الثاني تخفيف لهجته. وبما أن عرفات كان سيغادر فجرا، وبعد العشاء سيذهب للنوم، وقد سمعته بنفسي يبلغ مساعديه بأنه ذاهب لينام ولا يريد أحدا أن يوقظه، ومعنى ذلك سيكون صعبا التدوال معه حول تلك التعديلات في الفجر قبل إقلاع طائرته. كانت تلك طرائق ياسر عرفات. بعد ذلك ودعته، وقلت له: «لا أستطيع أن أسافر معكم»، ولم أقل له إن الصحيفة لم تتحمس، بل اعتذرت على أساس أن جوازي في الرباط، وكانت تلك هي الحقيقة، وأنه سيصعب علي إحضاره، نظرا لضيق الوقت. ما هو الانطباع الذي خرجت به بعد لقائك بعرفات؟ - كان ياسر عرفات رجلا ذكيا جدا ومناورا صعبا وصاحب أساليب تكتيكية وكان بارعاً في ذلك، ولا تستطيع أن تعرف ماذا يدور في رأسه. وفي رأيي، لولا براعته السياسية لما استطاعت الثورة الفلسطينية أن تتخطى كل الألغام والعقبات، التي واجهتها في مسيرتها الطويلة والمتعرجة والصعبة. كان ياسر عرفات يمتلك موهبة القيادة، ويتميز بشخصية متعددة الجوانب. بعقله الثوري يقود الأعمال العسكرية والانتفاضات، وبعقله المخابراتي يدير العمليات الأمنية والسرية، وبعقله السياسي كان يعمل من أجل قيام دولة فلسطينية بعاصمتها القدس وهو رئيسها. في سنواته الأخيرة لم أره، إذ انقطعت العلاقة معه حين انتقل إلى غزة، لأني لم أذهب إلى غزة أو الضفة الغربية. وكما نعرف، عاش عرفات سنواته الأخيرة منعزلا، وأظن أنه كان يحس بنوع من الخذلان الشديد جدا من العالم العربي وما حدث له، وبعد غياب عرفات لم يستطع الفلسطينيون أن يحققوا شيئاً، ولا أريد أن أسهب في هذا الجانب، لكن دعنا نكتفي بعلاقتي الشخصية به، رحمه الله. بعد حوارك الأول مع ياسر عرفات، اقترح عليك أن تسافر معه إلى اليمن، لكنك لم تفعل؟ - فعلا، اقترح عرفات علي وعلى الصافي سعيد بعد لقاء مراكش أن نسافر معه. الصافي سافر معه، لكني لم أستطع. هل كان هذا موقف الصحيفة التي تشتغل فيها؟ - الأمر لم تكن له أي علاقة بالصحيفة. الأمر كانت له علاقة بجواز سفري، لأنه في تلك الفترة كان لابد من الحصول على تأشيرة عودة. لكن، كما أشرت، التقيت به بعد ذلك أكثر من مرة في الجزائر وفي تونس وليبيا، لكن كانت مجرد مصافحات. هل كان ياسر عرفات يعرف قصة العلاقة بين العقيد القذافي والصحيفة، والمهمة التي ذهبت من أجلها الى ليبيا؟ - لا أعرف إن كان علم بالأمر، لكن المؤكد أن قريبين منه كانوا يعرفون ذلك، ومنهم على سبيل المثال خالد الحسن. ماهي حدود معرفتك بمحمود عباس (أبو مازن) الذي خلف عرفات على رأس السلطة الفلسطينية؟ - التقيته أكثر من مرة، لكن هناك واقعة جعلتني بصراحة لا أتحمس لربط علاقة متينة معه. لها علاقة بعملك؟ - ليست لها أي علاقة بعملي، ولا علاقة لها بالمغرب، بل بواقعة لها ارتباط بالأوضاع في السودان. ما هي هذه القصة؟ - دعني أروي لك التفاصيل كما حدثت. كما أسلفت، كنت معارضا لنظام نميري، وفي آواخر عام 1984، تلقيت من داخل السودان بما يفيد بأن هناك عملية كبيرة تورط فيها نظام جعفر نميري، تتعلق بنقل أعداد كبيرة من اليهود الإثيوبيين من السودان إلى إسرائيل، وهي العملية التي عرفت باسم «تهجير الفلاشا». هل كنت تعلم بتفاصيل هذا الموضوع؟ - أكيد لا، لكن كانت هناك معلومات تسربت إلى المعارضة السودانية، وأبلغت شخصيا بمعلومة مقتضبة جدا من داخل السودان، تقول إن نظام جعفر نميري متورط في صفقة تهريب الفلاشا -أي اليهود الإثيوبيين- بالاتفاق مع الأمريكيين وإسرائيل، وكان يشرف على العملية من الجانب الأمريكي في ذلك الوقت نائب الرئيس جورج بوش الأب. وبما أن لدي علاقات مع الفلسطينيين طلبت مني المعارضة السودانية نقل تلك المعلومة إلى أحد القادة الفلسطينيين. لكن ما هي تفاصيل هذه العملية؟ - سأروي التفاصيل كما نشرت بعد ذلك. في أواخر عام 1984 راجت معلومات في الخرطوم حول عمليات تهريب منظمة عبر مطار الخرطوم ليهود الفلاشا، حيث كان يتم ترحيلهم الى إسرائيل عبر مطار روما، وتأكد أن نظام جعفر نميري متورط في العملية، التي تمت تحت إشراف المخابرات الأمريكية. ولم تتضح تفاصيل العملية حتى اندلعت «الانتفاضة» التي أسقطت نظام نميري في أبريل 1985، حيث تشكلت لجنة تحقيق ونشرت تقريرا أفاد أن جعفر نميري التقى عام 1984 أرييل شارون وزير الدفاع آنذاك في العاصمة الكينية نيروبي سرا، وتباحث معه حول الموضوع، ووافق نميري مقابل مبلغ يوضع في حسابه ومبلغ آخر يوضع في حساب نائبه عمر الطيب خارج السودان. وكشفت التحقيقات النقاب عن أن شركة سياحية وهمية استأجرت أحد المصايف في شمال بورسودان، وهو الميناء الرئيسي في السودان، وكان كل أفرادها من الموساد. كانت الطائرات تنقل أعدادا كبيرة من يهود الفلاشا من أحد المطارات المهجورة منذ الحرب العالمية الثانية في شرق السودان إلى روما مباشرة، وآخرين كان يتم نقلهم عبر حافلات من شرق السودان قرب الحدود مع أثيوبيا إلى مطار الخرطوم فجرا، ومنه إلى روما، ثم من هناك الى إسرائيل. وهل كنت ستزود عباس أبو مازن بكل هذه التفاصيل؟ - ليس الأمر بهذه الدقة، لأن مثل هذه التفاصيل لم تكن قد توفرت لي، بل كل ما توفر، كما أسلفت، هو معلومة تقول إن نظام نميري بصدد ترتيب نقل الفلاشا الى إسرائيل. أتذكر أن محمود عباس (أبو مازن) كان في زيارة للمغرب عام 1984، والتقيت به في فندق «سفير»، المطل على نهر أبي رقراق، وكان معه أبو مروان، السفير الفلسطيني في المغرب آنذاك، ونقلت له المعلومة التي تلقيتها من الخرطوم، وقلت له: «سيكون شيئا مفيدا جدا إذا استطعتم التحقق من هذه المعلومة، والمعارضة السودانية مستعدة للتعاون معكم، وشن حملة سياسية ضد نظام جعفر نميري»، لكني شعرت بإحباط شديد عندما علق أبو مازن على ما قلته له: «هل نحن فاضين للسودان». بهذا التعبير؟ - نعم بهذا التعبير، ولا أنسى ذلك مطلقا. لم أعلق على الأمر وانسحبت بهدوء. أبلغت الإخوة في المعارضة السودانية أن منظمة التحرير الفلسطينة غير متحمسة لأي تعاون من أجل القيام بحملة مضادة لعملية نقل الفلاشا، وأنه من الأفضل الاعتماد على قدراتنا الذاتية. كان ذلك اللقاء الوحيد مع أبي مازن. بعد ذلك لم ألتق به، ولا سعيت لذلك. هل نقلت تلك المعلومات إلى جهة مغربية؟ -لا. لكن هناك قضية أخرى تتعلق بالسودان، جرت فيها اتصالات على أعلى مستوى، ووصلت إلى الملك الحسن الثاني، وكان لي دور فيها. ما هي؟ - سأسرد لك كل شيء. لم يكن خافيا على المسؤولين في المغرب موقفي المعارض لنظام الرئيس عمر حسن البشير. كان ذلك واضحا حتى في كتاباتي في «الشرق الأوسط». بيد أني قبل أن أتحدث عن تفاصيل الواقعة، التي وصلت إلى الملك الحسن الثاني، وكان ذلك في عام 1994، سأربط بينها وبين واقعة سبقتها، وهي واقعة سأتحدث عنها لأول مرة. أثناء حكم جعفر نميري، الذي سقط عام 1985، زارني في الرباط الدكتور شيخ محجوب جعفر، وهو طبيب أخصائي سوداني كان يعمل أستاذا في كلية الطب بالعاصمة السعودية الرياض، وجاء في عطلة للمغرب هو وزوجته وأسرته. كانت زوجته تربطها علاقة قرابة وثيقة بالسياسي السوداني الصادق المهدي (عمته). وكان الصادق المهدي تولى رئاسة الحكومة في السودان عدة مرات، آخرها قبل انقلاب عمر البشير في 30 يونيو 1989. خلال زيارة الدكتور شيخ محجوب تناقشنا كثيرا حول أوضاع السودان السياسية بحضور زوجته السيدة أنعام المهدي، وهي سيدة مثقفة. بعد سقوط نميري أجريت انتخابات وحصل فيها حزب الأمة، بقيادة الصادق المهدي، على الأغلبية وشكل حكومة ائتلافية، وتولى المهدي رئاسة الحكومة. وعاد الدكتور شيخ محجوب إلى السودان حيث عين وزيرا للتعليم العالي. ويبدو أنه هو وزوجته السيدة أنعام تحدثا عني بطريقة إيجابية جدا، واقترحا على الصادق المهدي الاستفادة مما اعتقدا أنها «تجربة إعلامية». وأثناء زيارتي للسودان في ديسمبر عام 1989، تم ترتيب موعد لي مع الصادق المهدي من طرف الدكتور شيخ محجوب، وفعلا استقبلني الصادق المهدي في مكتبه في رئاسة الحكومة، وفوجئت عندما طرح علي اقتراحا بالعودة إلى السودان، مشيرا إلى أنه يفكر في أن يتولى إعلامي محايد مهمة الإعلام الخارجي. وازدادت دهشتي عندما أبلغت أن الصادق المهدي يفكر أن يسند إلي منصب وزير الإعلام الخارجي، على الرغم من أني لم أنتمِ لأي حزب طيلة حياتي، ثم ما لبث أن تحول الأمر إلى اقتراح رسمي. وهل وافقت على اقتراح استوزارك؟ - نعم، وافقت على الاقتراح، واتفقنا أن يبقى الأمر طي الكتمان، لأني لابد أن أعود إلى المغرب لترتيب أموري، وخاصة أمور أبنائي، حيث كنت سأعود الى السودان لوحدي. عدت إلى المغرب في مطلع يناير 1989، وبسبب بعض الإجراءات تأخر سفري مجددا إلى الخرطوم، ثم ما لبث أن وقع حدث جعل ذلك الاقتراح تذروه الرياح، إذ في 30 يونيو سيقع انقلاب عسكري في السودان، بقيادة العميد عمر حسن البشير، وهو انقلاب دبرته «الجبهة القومية الإسلامية» بزعامة حسن الترابي، واعتقل النظام الجديد معظم الوزراء، كما اعتقل الصادق المهدي نفسه، ولو كنت عدت الى الخرطوم، وتوليت المنصب المقترح لكنت في عداد المعتقلين. لكن هناك من يقول إن «عداءك» لنظام البشير راجع إلى كونه فوت عليك فرصة الاستوزار في حكومة الصادق المهدي؟ - إنهم يقولون، ماذا يقولون، دعهم يقولون. لنرجع إلى لقائك بالصادق المهدي، فماذا وقع بعد هذا اللقاء؟ - بعد عودتي إلى المغرب سأروي كل تفاصيل رحلتي إلى السودان للمستشار الملكي عبد الهادي بوطالب عندما عاد إلى دائرة المستشارين عام 1992، وكان ذلك في سياق موضوع أكثر أهمية وأكثر حساسية، عندما رتبت بالتنسيق معه لزيارة عسكريين سودانيين معارضين لنظام عمر البشير إلى الرباط، وهو أمر سأرويه بالتفصيل، خاصة أن القصة نشرت بعض تفاصيلها في كتاب أصدره كاتب سوداني يقيم في الولاياتالمتحدة، وصدر بعنوان «سقوط الأقنعة». وفي مجال العلاقات المغربية السودانية، سأروي واقعة أخرى ترتبط أيضا بنشاط المعارضة السودانية في الخارح. هذه الواقعة تتعلق باعتقال اثنين من الطلاب السودانيين في الدار البيضاء. هذان الطالبان أنهيا دراستهما الجامعية، لكن لم يكن ممكنا أن يعودا لأنهما كانا من معارضي النظام السوداني، وصدر قرار بترحيلهما. وكان ترحيلهما سيعني حتما اعتقالهما على الفور في الخرطوم. وماذا كانت تهمتهما؟ - التهمة كانت عدم توفرهما على بطاقة إقامة سارية المفعول. ولم أكن أعرف بمسألة الاعتقال وقرار الترحيل إلى أن اتصل بي فاروق أبو عيسى، الأمين العام لاتحاد المحامين العرب، ومقره آنذاك في القاهرة، وكان من المعارضين البارزين للنظام في الخرطوم. وماذا حدث بعد ذلك؟ - اقترح أبو عيسى أن يتصل بعبد الرحمن اليوسفي، حيث عمل إلى جانبه في اتحاد المحامين العرب، لكني شرحت له الوضع، وقلت له إن اليوسفي في ذلك الوقت تولى للتو مسؤولية قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد في يناير 1992، ولديه أجندة حافلة، واقترحت أن يتصل بجمعية هيئات المحامين في المغرب، إذ أن تدخلها ربما يكون أجدى. وبالفعل، اتصل أبو عيسى بالنقيب عبد الله درميش، نقيب المحامين بالدارالبيضاء آنذاك، وطلب مني أبو عيسى متابعة الأمر معه. وفعلا، تدخل النقيب درميش مع وكيل الملك في الدارالبيضاء وشرح له الوضع، وأطلق سراح الطالبين، ولم يتم ترحيلهما على أساس أن يمثلا أمام المحكمة، لكن قبل ذلك استطاع الطالبان الحصول على لجوء سياسي في هولندا. ولماذا لم تتصل بإدريس البصري حول هذه القضية؟ - بكل صراحة لم يكن إدريس البصري يكترث بمثل هذه الأمور، حيث يعتبرها غير ذات قيمة، ولم يكن الاتصال به سهلا. كما أني لم أكن أرغب في الدخول معه في مثل هذه القضايا. كانت لي معه تجربة سلبية في موضوع آخر، عندما طرحت عليه مرارا مسألة إعفائي من تأشيرة العودة، حيث كنت أنتظر في بعض الأحيان مدة أسبوعين كلما أردت السفر خارج المغرب، لكنه كان في كل مرة يعدني، لكنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق، وأعتقد أن الزملاء المراسلين العرب يتذكرون أننا طرحنا عليه هذا الأمر مرارا، لكنه كان يقدم وعودا دون أن يفي بها. كنا نطالب بمعاملتنا أسوة بالزملاء الأوربيين الذين لا يحتاجون إلى تأشيرة عودة. وظلت تلك التأشيرة قائمة إلى أن صدر قرار بإلغاء تأشيرات العودة لجميع المقيمين. وعلى أي حال، سأحدثك بالتفصيل عن «العلاقة» بالبصري، التي أؤكد مجددا أنها لم تتعد علاقة صحافي بمسؤول حكومي، على الرغم من كل الأوهام التي عششت في أذهان بعض الناس.