أخيرا ، وصلت «عربة مدام بوفاري»، وبدل أن يطل من نافذتها وجه الخال فلوبير، سيطل وجه الكاتب المغربي، الأمين الخمليشي بابتسامته الخيرونية الملتبسة والشبيهة باستفسار بريء عن دلالات ما حدَث ..ما سيحْدث . ولأن مزاجه الرائق دائما لا يحتمل المزيد من المراوغة ، سوف لن نتردد في إخباره بفرحتنا الكبيرة ، ونحن نتصفح مجموعته القصصية الجديدة ، التي شاءت الصدف الجميلة أن تلتحق -ولو بعد طول انتظار- بشبيهتها «اشتباكات». أيضا سنقول له بأن إصدار نصوصه التي كتبت في أواسط الستينيات ، هي بمثابة إيقاظ لكتابة أميرية، كانت قد استمرأت نومها العميق في غابة النسيان. وأن الأمر شبيه باستعادة احتفالية مضاعفة، أولا، لمجموعته «اشتباكات» بعد أن مضى على نشرها أكثر من عقدين ، وثانيا ، لاسمه الشخصي، باعتباره اسما متميزا لذات كاتبة، هي ذي الآن تجدد علاقتها التاريخية والعفوية، بالمشهد الإبداعي المغربي والعربي. والحديث عن هذه الاستعادة المضاعفة، لا يمكن أن يمر دون الإشارة إلى كون الكتابة عند الأمين، هي امتداد تلقائي لممارسة حياتية غير خاضعة بالضرورة لإكراهات أية إستراتيجية مبيتة، هدفها على سبيل المثال لا الحصر، تأمين مكان اعتباري لصاحبها ، أو حرص مسبق، على مد جسور محتملة بينه وبين جمهرة من القراء الافتراضيين ، الشيء الذي يكون قد أثر بشكل أو بآخر في انتفاء هاجس الطبع والنشر لديه ، على امتداد مساره الإبداعي . إذ لولا حضور الإرادة العاشقة للأشعريين، ما كان لذاكرة القصة المغربية أن تحتفظ بنصوص تتمي بجمالية عالية من الانحراف السردي .ذلك أن الفضل في طبع مجموعته الأولى «اشتباكات» ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 1990 ، يعود للشاعر والروائي محمد الأشعري، الذي كان يتحمل حينها مسؤولية رئاسة الاتحاد ، كي يكتمل الفضل ذاته مع الفنان خالد الأشعري ،الذي لم يغمض له جفن ، إلا بعد تسلمه للنسخة الأولى من المجموعة الثانية « عربة مدام بوفاري» كتتويج حقيقي لما بذله من جهد في جمع النصوص، وإنجاز لوحة الغلاف ، فضلا عن ملازمته العنيدة واليقظة للمطبعة،حرصا منه على أن تأخذ العربة طريقها إلينا ، وهي في كامل بهائها وأناقتها ، وقد ارتقى شكل إخراجها إلى شكل ومضمون كتابتها ، حيث لامناص لنا ونحن أمام فتنة بنائها ، من مساءلة الصديق الأمين الخمليشي ، وفي ما يشبه العتاب الجميل عن سبب مجافاته لهذه المجموعة ، المنتمية إلي ستينيات القرن الماضي ، و عن عدم إيثارها بالنشر قبل مجموعته «اشتباكات» التي كتبت في مرحلة متأخرة «1990» وهي مجافاة-إن حصلت- قد تعود حتما، إلى تعامله معها باعتبارها محض عتبة تجريبية من عتبات البدايات التي يتعذر على أي كاتب ناشئ تجاوزها، في أفق بحثه الدءوب عن خصوصية وفرادة نصوص لا يستقيم إيقاع بنائها إلا على أرضية مكابدة طويلة ، تكون فيها الخبرة قد أفلحت في مراكمة معرفتها العميقة بأسرار الكتابة ومقالبها. وهو تعامل وارد ، يكشف عن صرامته القاسية مع كائناته الإبداعية ، التي لن يكون لها الحق في الإعلان عن ظهورها ، ما لم تمتلك ما يكفي من شروط ومقومات النضج الجمالي والفني . وإلحاحنا على طرح هذا السؤال ، يرد في سياق اقتناعنا بالتألق الفني الكبير المتحقق في هذه المجموع ،حيث لا أثر مطلقا لعثرات البدايات ، التي لا تسلم من ارتباكات لغوية وأسلوبية ، يستحيل أن ينجو من كمائنها يراع الكاتب الناشئ . في العربة ذاتها، لن نلمح أيا من ظلال تلك الكتابات النموذجية التي تتهافت على تمثلها تجارب البدايات ، لأنها وبكل بساطة، تجربة لا تمتثل لسلطة أية نصوص سردية جاهزة ، مشرقية كانت أو مغربية . وهو ما جعلها لا تتماهى فقط سوى مع ما نُذرت إليه ، أي مع كينونتها الخاصة بها .. بل على النقيض تماما مما نلمسه في تجارب البدايات ، نفاجأ في عربة مدام بوفاري بامتلاك باذخ لإواليات الكتابة وآليات اشتغالها، متمثلة في حضور جرأة واثقة من اجتراحاتها الحسية والفكرية، وخبيرة بمكامن تهجين معجمها ، وتفجير ما تتتالى في سياقه من بنيات سردية، شغوفة بتلك الانتقالات الأسلوبية المباغتة ، التي تطوف بالقراءة في مداراتها المترعة بالإدهاش. جرأة عالية ، تمارس شهوتها الجامحة في اختراق قوانين الكتابة ، أعراف الحكي ، ونواميس الجسد ، سواء في معيشه أو متخيله ، اختراق يفضي إلى إنتاج سرد ذي شعرية غنائية بالمفهوم الحداثي للكلمة ، بما هي شكل من أشكال الترقيص الإبليسي للحواس والذاكرة ، وكذا لآفاق تلقيها . هذا النضج المبكر في انتماء كتابة الأمين إلى سلالة الكتابات العالية ،بما تمتلكه من جماليته مستفزة ، يرغمنا على التساؤل عما إذا كانت ثمة نصوص سابقة لنصوص العربة ، تستحق من الصديق الفنان خالد الأشعري جهدا إضافيا ، للكشف عن أسرار البدايات الفعلية للأمين الخمليشي ، عساه يتخلص قليلا من سحرية هالة الكتابة المحاطة به ، و يظهر أمامنا كأي كاتب كبير ، غير منزه عن لعنة ذلك الارتباك المقدس الذي يمسك بتلابيب الكتابة ، وهي تعيش ، أو بالأحرى تعبر زمن طفولتها الأولى . فشكرا لعربة مدام بوفاري التي هيأت لنا فرصة تجديد لقائنا بالأخ خيرون، وقد ودع زمن طفولته التي سبق أن عشناها رفقته في مرابع الاشتباكات، كي نخوض معه ومن جديد تجارب ذات ، تختبر فحولتها الجسدية والفكرية والجمالية أيضا، في اللعب مع مصائر وأقدار ذوات شبيهة ومضادة، داخل غرفة الحياة المنفتحة على احتمالات نصوصها القادمة من الجهات الخمس.