كان على القراء المغاربة، وخاصة مدمني القصة القصيرة، انتظار 22 سنة لتتاح لهم ثانية لذة الإبحار في عوالم الأمين الخمليشي القصصية. أجل، فالمجموعة الأولى للكاتب، الذي هو من أهم الأصوات المؤسسة للنص السردي الحديث مغربيا، صدرت سنة 1990 تحت عنوان «اشتباكات»، بمبادرة راقية من الشاعر والكاتب محمد الأشعري. ويوم الجمعة الماضي فقط، رأت مجموعته الثانية النور موسومة ب«عربة مدام بوفاري»، ضمن منشورات المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، موشحة بغلاف أنجزه الفنان خالد الأشعري الذي قام أيضا بالتنقيب على نصوص المجموعة وجمعها وإعدادها للنشر. مساء الجمعة ذاك، في فضاء معلمة الرباط المعمارية والثقافية، التي نشرت المجموعة، التأمت نخبة من الكتاب والمبدعين للاحتفاء بالمولود الثاني للأمين واكتشافه. وخلال الدردشة الحميمية التي أعقبت المداخلات الثلاثة، سأل الناقد والروائي محمد برادة صاحب العربة حول سبب تأخره في النشر وعلاقته بالكتابة. فأجاب صاحب «اشتباكات» بأنه يكتب لكنه كثيرا ما يمزق أوراقه المكتوبة إذا شعر أنها لا تقدم إضافة للحقل الإبداعي، وأن النشر مرتبط لديه بتحقق هذه الإضافة. الشاعر رشيد المومني، في شهادة معنونة ب «خيرون يستقل عربة مدام بوفاري»، أكد: «أخيرا، وصلت «عربة مدام بوفاري»، وبدل أن يطل من نافذتها وجه الخال فلوبير، سيطل وجه الكاتب المغربي، الأمين الخمليشي بابتسامته الخيرونية الملتبسة والشبيهة باستفسار بريء عن دلالات ما حدَث .. ما سيحْدث. ولأن مزاجه الرائق دائما لا يحتمل المزيد من المراوغة، سوف لن نتردد في إخباره بفرحتنا الكبيرة، ونحن نتصفح مجموعته القصصية الجديدة، التي شاءت الصدف الجميلة أن تلتحق - ولو بعد طول انتظار- بشبيهتها «اشتباكات». أيضا سنقول له بأن إصدار نصوصه التي كتبت في أواسط الستينيات، هي بمثابة إيقاظ لكتابة أميرية، كانت قد استمرأت نومها العميق في غابة النسيان. وأن الأمر شبيه باستعادة احتفالية مضاعفة، أولا، لمجموعته «اشتباكات» بعد أن مضى على نشرها أكثر من عقدين، وثانيا، لاسمه الشخصي، باعتباره اسما متميزا لذات كاتبة، هي ذي الآن تجدد علاقتها التاريخية والعفوية، بالمشهد الإبداعي المغربي والعربي». وأكد المومني أن الإرادة العاشقة للأشعريين، سي محمد وخالد، لما ولجت المجموعتان المطبعة ولما كان «لذاكرة القصة المغربية أن تحتفظ بنصوص تتمي بجمالية عالية من الانحراف السردي». من جهته، انتقى القاص أحمد بوزفور لشهادته سمة «الخمليشي يعلق الجرس»، معترفا : «حاولنا نحن في مجموعة البحث (في القصة القصيرة بالمغرب) أن نقنعه ولو بإصدار طبعة ثانية من (اشتباكات) على الأقل، فلم نظفر بشيء.... واكتفينا من الغنيمة بإقامة يوم دراسي حول تجربته القصصية. كنت أحس من قبلُ أن قصص الخمليشي مثلُ علل النحو تشم ولا تفرك، وأرى أن الأجدى ، بدل أن نشرحها بمشارط النقد، أن نقرأها فقط، ونستمتع بمجرد قراءتها، فلذلك خُلقت». وفي ختام شهادته، تساءل صاحب «ققنص»: «هل هناك هدف تتجه إليه كلمات الخمليشي؟ الغريب أنها لا تتجه إلا بعد أن تصل.. بعد أن تُقرأ. يقول هيمنجواي ناقلا عن مصادره: (لا تسأل لمن يدق الجرس. إنه يدق لك أنت). ونحن أيضا لا نسأل لمن يدق جرس الخمليشي. إنه ينعي لنا الغباء والادعاء والأيديولوجيا. ينعي لنا اليقين والتفاهة والسطحية والثقة الكسول. ينعي لنا الثقافة التي نحيا بها، يعلق في عنقها الجرس، ويدق جرس الباب على الثقافة الحديثة التي نحلم بها». «خيرون وأمين الخمليشي وأنا»، هي ذي التيمة التي أثث بها الناقد إبراهيم الخطيب مداخلته خلال الاحتفاْء، مستحضرا موت الأب، فعليا (والد الأمين) وإبداعيا (علاقة خيرون بأبيه في اشتباكات). وفي شهادته، توجه الخطيب إلى والد صديقه مؤكدا: «لقد علمتُ مؤخرا أنك قضيت نحبك في شقة بالرباط، استأجرها الأمين لتتابع علاجك من مرض عضال. هناك، على هامش ضجيج المدينة وجفوتها، كنت تواري عن الأنظار شيخوختك وهزالك وآلامك المبرحة، وتتذكر مدينتك، حصنك المنيع الذي سلخت فيه ثمانين سنة من كبرياء غير مبررة. علمتُ أيضا أن (خيرون) لم يستنكف من التردد عليك، متسللا بين الزوار الذين يعودونك، وأنه كان يرنو إليك محملقا، لا تطرف عيناه لحظة، وأنت تكابد سكرات الموت. أتخيل أن الأمين كان حزينا من أجلك، وأنه ربما نسي (خيرون) وما تعرض له من عنف أهوج على يد أبيه. وعندما لفظت أنفاسك الأخيرة، استأجر سيارة لنقل جثمانك إلى تاركيست لكنه، تلافيا لإجراءات إدارية معقدة، لم يصرح بوفاتك فغادرت الرباط كميت حي». وجوه عديدة شاركت الخمليشي ميلاد «عربة مدام بوفاري»، منها محمد برادة، رشيدة بنمسعود، أنور المرتجي، البشير القمري، وأرملة الراحل محمد عزيز لحبابي الذي ذكرتهم جميعا برسالة كان قد بعثها الرئيس المؤسس لاتحاد كتاب المغرب للأمين حول نص «يوم ممطر» يطلب منه خلالها تشذيب كتابته من بعض المصطلحات «الخادشة للأخلاق». مثلما أنصت الجميع لنبض مبدع لا يتكلم إلا نادرا ولا ينشر إلا نادرا، هو الذي يجعل اللغة «تتخلص من الترهل والغنائية والميلودراما لتتجه راقصة على أطراف الأنامل إلى الهدف».