هيأنا أنفسنا كثيرا لرحيل الأستاذ الكبير والوطني الفاضل أبوبكر القادري، ومع ذلك نشعر كما لو أن مكتبة تحترق فجأة، كما لو أننا لم نستعد كفاية للغياب. ما الذي يمكن أن يكون مفاجئا في رحيل مجاهد كبير، ظل حاضر البديهة توقد الضمير، ومتمردا على الشيخوخة المباركة التي أدركته، إذا لم يكن وقع المفاجأة نفسها. فقد اعتقدنا، بفعل طول العمر، أنه سيظل يرافقنا في رحلة العمر والتحول إلى أن ينضج للغياب النهائي. أبوبكر القادري رجل من زمن العفة، والعزة، والروح المضمخة بالعبق الوطني.. استطاع الرجل فعلا أن يظل فوق المنازعات، بالرغم من موقعه القيادي.. واستطاع أن يظل شاهدا على المشترك الوطني في كل منعطف. وبالرغم من المفارقة الغريبة، فقد ورثنا الأب عن ابنه عبد الرحيم بوعبيد. جيلي، الذي ينتمي إلى الأفق الوطني، لكن بعربات وخيول غير خيول البادية.. ، أطل على سيرة الرجل الكبير،الأستاذ من خلال الوطني الابن الروحي والتلميذ. في هذه، أيضا، كان بوعبيد متميزا، وظل الأستاذ يرعى ذاكرة تلميذه وابنه الروحي حتى بعد الغياب. لكن بعيدا عن هذا القرب السياسي مع الرجل، لا يمكن أن نغفل في سيرته الهائلة، قدرته على أن يستحضر التاريخ في بناء موقف جديد. في آخر حوار له مع الجريدة، وقد أجراه المرحوم المختار الزياني، يتحدث أبوبكر القادري عن مغرب ظل يحمله في قلبه وذهنه، يلهب وطنيته منذ الأربعينيات..ويتحدث عن مغربنا ومغرب أحفاده القادمين بذات النورانية والوضوح. هو ثاني اثنين أخيرين وقعا على وثيقة الاستقلال، والآن رحل ليبقى الوطني المصطافي، هو آخر الموقعين، وآخر ما في العنقود الموقع على المطالبة بالاستقلال. لقد عبر أبو بكر القادري قرنا مغربيا بامتياز، يتأرجح بين الوهن وبين اللهب، قرنا غريبا تناقلته الأفئدة قبل كتب التاريخ، لأنه كان القرن العصب والمنعطف الكبير في حياتنا. وهو جزء من الانتماء المغربي إلى القضايا التحريرية، حيث ارتبط اسمه بدعم القضية الفلسطينية، وهو من تلك الثلة التي ارتبطت بالقضية ودعمتها واعتبرتها قضية الوطن المغربي، وقضية مغربية مثل ما هي الصحراء .. وفي عز المنازعات، كانت هناك ثلة تستطيع أن تعيد بناء الجسور، قادرة، بقوتها الرمزية والروحية، على أن تعيد جمع شمل العائلة الوطنية حول مشروع استكمال ما بدأت به، كما ظل فوق المنازعات الحزبية، واستطاع أن يحظى باحترام الجميع. لقد تغير المغرب كثيرا، ولا شك، في نظر الفقيد، وهو يشهد ميلاد أجيال جديدة ومطالب جديدة، لكن المغرب الذي أحب، المغرب الساكن في الأعماق يظل دائما هو هو..