شخصية مبارك البكاي، رئيس أول حكومة مغربية بعد الاستقلال شخصية مركبة، يصل أحيانا القدح فيها الى درجة الاتهام بالارتزاق ومن خلال متابعاتنا اليومية لما يكتب وينشر في الصحف والمجلات، لا نعثر على رد أي فعل من لدن عائلة البكاي، حتى كدنا نخال أن ما كتب عن هذه الشخصية هو الرواية الوحيدة. كان الرجل يحظى بتقدير واحترام الفرنسيين الذين كانوا يوقرونه أكبر توقير اعترافا له بما ضحى في سبيل تحرير بلادهم من النازيين، «تلبية لنداء السلطان محمد بن يوسف إبان الأربعينيات، عبر مساجد المغرب الداعية الى مساعدة الفرنسيين ضد النازيين الألمان،» حسب العائلة. فلربما أن محاربة البكاي داخل الجيش الفرنسي وفقدانه ساقه الأيمن هو ماكرس الجانب السلبي من حياة الرجل خلال عهد الحماية الفرنسية بالمغرب، دون الجانب الإيجابي المتجلى في تقديم استقالته من منصبه كباشا لمدينة صفرو الذي خلف صدى طيبا في الأوساط الاجتماعية بها، خلافاً لما عرف في غيره من الذين نصبتهم سلطات الحماية حكاماً تحت وصايتها، من ظلم وقهر وجبروت، بعد أن وافقوا موقعين على نفي محمد بن يوسف سلطان البلاد ورمزها الوطني. البكاي بهذا المعنى لم يكن عميلا أو مرتزقاً ولاوطنياً. فقد كان محايداً إلى حد ما.حول هذه الشخصية يتحدث الابن عن أبيه، وهو ما لا يعني بأن ما يرد في تصريحاته هو الرواية الوحيدة، كما لا يعني أننا نتبناها في الجريدة.. ماذا يعني بالنسبة إليكم تاريخ المغرب خلال الفترة الممتدة ما بين 1950 و1961 والتي خصصتهم للحديث عنها كتابا ضخما تحت عنوان: Independance baclee هل بإمكانكم أن تحدثونا باختصار عن مضمون هذا الكتاب؟ ما أقوله لكم عن هذه الفترة التي اعتبرها من المختصرات في كتابي المشار إليه آنفا، هو أن هذه الفترة تميزت بعدة أحداث ووقائع استأثرت باهتمام الرأي العام الوطني والعربي، منها قضية اغتيال المقاوم التونسي فرحات حشاد بتونس العاصمة بتاريخ 6 دجنبر 1952، وتضامنا مع الاخوة التونسيين في محنتهم التي ألمت بهم، اندلعت مظاهرات عارمة بالمغرب وخصوصا بالدار البيضاء، طيلة أيام 7 و8 و9 دجنبر 1952 وهو ما جعل الرجل القوي في الاقامة العامة فيليب بونفاص، يستشيط غضبا ويعطي أوامره الى فيالق من الجيش الفرنسي لإطلاق وبائل من الرصاص الحي لقمع المتظاهرين، في مجزرة رهيبة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، إلا في الاراضي الفلسطينية الآن. حيث سقط المئات من الابرياء في هذه المجزرة البشعة. وكان من تداعيات هذه الاحداث، إقدام الاقامة العامة على منع كل من الحزب الشيوعي المغربي الذي كان يتزعمه المرحوم علي يعتة بمعية عبد السلام بورقية وحزب الاستقلال، بعد أن تم اعتقال جميع الاستقلاليين إلا الزعيم علال الفاسي لوجوده حينها خارج المغرب، بالقاهرة، والحاج أحمد بلافريج بأوربا في حين تم وضع المرحوم المهدي بنبركة تحت الاقامة الجبرية لضواحي قصر السوق (الرشيدية حاليا). ونجاة محمد بوستة من الاعتقال و الذي ظل يمارس مهامه كمحام بالدار البيضاء. غير أنه إذا كانت الاقامة العامة قد أجهزت على حزب الاستقلال والحزب الشيوعي بالحظر واعتقال الاستقلاليين، فإن يد الاعتقال لم تطل حزب الشورى والاستقلال الذي كان يتزعمه محمد بن الحسن الوزاني ولم يتم حظر نشاطه. (مقاطعا) كيف ذلك؟ ربما يعود هذا الى الموقف المعتدل الذي كان ينهجه حزب الشورى والاستقلال تجاه الاقامة العامة من خلال خطابه عبر جريدته «الرأي العام» التي كان يصدرها الحزب كما كان مبينا في كتابات الدكتور عبد الهادي بوطالب الوحيد الذي تعرض لمضايقات من لدن الإقامة العامة، حيث تم وضعه تحت الاقامة الجبرية هو بدوره دون بقية الشوريين، طيلة مدة 6 أشهر بمنزله بالدار البيضاء. وبهذا كانت فرنسا ترى أنها، وفي زعمها، قضت على من كانت تصفهم بالمشاغبين ومثيري الفتنة، ليصفو لها الجو ويضحى الظرف مناسبا للإقدام على نفي سلطان المغرب دون أي منازع، إلا أنه لم يكن في حسبانها ان الرجل الذي كانت تقيم له وزنا، لم تدر أنها أخلت بالاحترام والتقدير اللذين كانت تكنهما له، وأن تصرفها هذا قد كذب كل ما كانت فرنسا تدعيه من احترامها للبكاي الذي حارب بضراوة من أجل تحرير أراضيها من النازيين، ما جعله لحينه يقدم استقالته دون تردد من منصبه كباشا لمدينة صفرو احتجاجا على ما أقدمت عليه الاقامة العامة من فعل يعد أكثر جرما وإثما. وذلك في مدينة باريس التي بقي بها حتى 20 يوليوز 1955 حيث تم استدعاؤه من قبل المقيم العام آنذاك GILBERT GRANDVALلمعرفة مدى شعبية ووزن البكاي في الاوساط الشعبية المغربية. وقد تميزت سنة 1954 بالفراغ السياسي والاداري معا والدبلوماسي أيضا للأسباب التالية: 1 ـ أن فرنسا لا يمكنها ان تتفاوض مع سلطان مخلوع!! 2 ـ لا يمكن لها أن تتفاوض مع أحزاب سياسية لم تعترف بها أصلا مثل حزب الاستقلال والشورى والاستقلال والحزب الشيوعي! علما ان الحزبين الاستقلال والشيوعي كانت الاقامة العامة عملت على حظر نشاطيهما. وأمام هذا الفراغ السياسي والدبلوماسي، تبقى الجهة الوحيدة التي يمكن التفاوض معها بطريقة غير مباشرة لخروجها من الورطة التي وقعت فيها، هو البكاي. لماذا؟ لأن فرنسا كانت ترى فيه الرجل الاكثر جدية من خلال مواقفه الجريئة عندما قدم استقالته من منصبه كباشا غداة نفي سلطان المغرب. ودائما خلال سنة 1954، قام فرنسيون أحرار من أولئك الذين كانوا مع رؤية إجراء مفاوضات جادة مع المغاربة، منهم مثقفون وكتاب صحفيون ومفكرون وأعضاء من الجمعية الفرنسية (البرلمان) من أمثال JEAN VEDRINEوالد وزير خارجية فرنسا مؤخرا والكاتب Fancois Mauriacوكذا صحفيون من l observateurو l Expresses وle Temoignage Chretien و le Mondeوle Figaro. كل هؤلاء أخبروا البكاي بأن فرنسا لا تريد أن تعترف بخطئها وتعيد سلطان المغرب الى عرشه وأشاروا عليه بالبحث عن إيجاد صيغة أخرى للمخرج من الازمة تحفظ لفرنسا ماء وجهها، لأنها أدركت أنها أخطأت في حق رمز الامة المغربية عندما لم يطاوعها من كانت تعتبرهم أقرب المقربين إليها، في مباركة ما أقدمت عليه من جرم في حق سلطان المغرب. وفي الاخير، برزت الى الوجود فكرة خروج محمد بن عرفة من القصر السلطاني ومغادرته عرش المغرب بأمن وسلام، وإحداث مجلس للوصاية على العرش. ـ (مقاطعا) من هم الشخصيات الذين كان يتكون منهم مجلس الوصاية؟ =ـ دعني أتطرق أولا لأشياء أخرى لها من الاهمية بمكان، ثم نعود للحديث عن ذكر أسماء وعدد أعضاء مجلس الوصاية على العرش. في أواخر سنة 1954 وبالضبط في 29 أكتوبر أصدرت المحكمة العسكرية بالدار البيضاء قرارها بعدم مؤاخذة المعتقلين الاستقلاليين وثلة من الشيوعيين نظرا لعدم وجود ما يدينهم. وبعد تأسيس حكومة Edgard Faureبتاريخ 25 فبراير 1955، التحق كل من عمر بنعبد الجليل والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة بالبكاي في باريس وانضم إليهم عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودةوعبد القادر بنجلون ومحمد الشرقاوي من حزب الشورى والاستقلال. (مقاطعا) وماذا دار بينهم وبين البكاي؟ دعني أحيلك للجواب عن هذا السؤال، ما قاله عبد الهادي بوطالب في حواره مع جريدة الشرق الاوسط اللندنية المنشور على صفحاتها في سنة 2001 والذي أعادت جمعه في كتاب «منشورات الزمن» وعنونت له بـ «نصف قرن من السياسة» للدكتور عبد الهادي بوطالب. ص40. قال بوطالب: «تشكلت هذه الجبهة (يعني حزب الاستقلال والشورى والاستقلال» بزعامة محمد بن الحسن الوزاني وحزب الاصلاح الوطني بتطوان بزعامة عبد الخالق الطريس وحزب الوحدة الوطنية بطنجة بزعامة محمد المكي الناصري. وكان يمثل الجبهة بفرنسا عمر بنعبد الجليل وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة ومحمد بوستة وهم جميعا آنذاك من حزب الاستقلال كما كان يمثلها من حزب الشورى والاستقلال عبد القادر بنجلون وأحمد بنسودة وعبد الهادي بوطالب، وأسندنا رئاسة وفد الجبهة للمرحوم مبارك البكاي لهبيل كان باشا (حاكم) مدينة صفرو القريبة من مدينة فاس، في عهد الحماية وحارب في الحرب العالمية داخل الجيش الفرنسي وفقد ساقه وعوضه بساق خشبي اصطناعي. وكان يحمل رتبة عقيد (كولونيل) في الجيش الفرنسي، وظل كذلك بعد تشكيل الجيش المغربي، ولم يكن البكاي منتميا الى أي حزب سياسي مغربي، وكنا نتركه يتحدث قبلنا الى مخاطبينا الفرنسيين. فقد كان متحدثا بارعا وخطبيا متفوها باللغة الفرنسية ومقنعا مخاطبيه من الفرنسيين الى أبعد حدود. ومن جملة ما كان يبهر مستمعيه قوله «لقد فقدت من أجل فرنسا رجلي وساقي، وهما اأعز ما أملك، وضحى مغاربة كثيرون بأرواحهم لإنقاذ فرنسا من خطر النازية وعليها ان تفي للمغرب كما وفى لها المغرب». ويضيف بوطالب: وعندما كان يتحدث عن ساقه ـ أي البكاي ـ كان يضرب تلقائيا بيده ساقه الاصطناعي فيسمع لخشبه صوت مزعج مؤثر ما كان أبلغه بيانا. وقد يتقدمنا لشرح القضية المغربية، ثم يعطينا فرصة الكلام الواحد بعد الآخر. وكان الفرنسيون ينبهرون أمامه لأن المحارب القديم في الجيش الفرنسي عندهم مقدس ويستمعون له بتأثير». أما بخصوص سؤالكم عما دار من حديث بين أعضاء الجبهة المفاوضة والبكاي الذي أسندت إليه رئاستها فيما بعد. هو انه تم إخبار البكاي بالاتفاق مع الفرنسيين على خروج ابن عرفة في أمن وسلام وتشكيل مجلس الوصاية على العرش ولو أن الجانب الفرنسي كان يدافع عن فكرة الرجل الثالث وهو ما رفضه الوطنيون بشدة. كل هذا تلقاه البكاي بصدر رحب. وبعده بشهرين تقريبا أي خلال الفترة الممتدة ما بين 20 و30 غشت 1955، انعقد ما يعرف بمؤتمر إيكس ليبان لاستشارة جميع ممثلي سكان المغرب بمن فيهم الفرنسيون المعمرون والحاج التهامي الكلاوي، وفي هذا اللقاء تم الاتفاق على ما يلي: 1 ـ سحب ابن عرفة بسلام الى حيث يشاء. 2 ـ إنشاء مجلس وصاية العرش وتعيين محمد بن يوسف السلطان لحكومة مفاوضة بعد انتقاله من جزيرة مدغشقر الى فرنسا. وقد تميزت فترة معدودة في أيام معدودة بعد لقاء إيكس ليبان باختلاف في الرؤى حول من يكون في وصاية العرش؟! بين الوطنيين من جهة والفرنسيين من جهة ثانية. وأخيرا تم التوصل الى اتفاق يفضي الى تعيين الاسماء التالية: الصدر الاعظم المقري، الباشا الصبيحي (سلا) والقبطان الطاهر أوعسو والباشا البكاي. هؤلاء الاشخاص عينوا رسميا في 15 أكتوبر 1955 وفي 24 من نفس الشهر والسنة، وبدون إذن من رئيس الناحية de Hauteoille le general بمراكش، التحق التهامي الكلاوي بالجنرال Boyer Latourبالاقامة العامة ليبلغه اعتراضه القوي على تعيين مجلس الوصاية على العرش وسأله عما يريد: فأجابه الكلاوي، أريد إرجاع محمد الخامس الى عرشه. وبتاريخ 3 نونبر 1955 قدم مجلس الوصاية استقالته الى الإقامة العامة وبتاريخ 16 نونبر 1955 كان هبوط طائرة محمد بن يوسف (محمد الخامس) بمطار سلا. غير أنه وللأسف سرعان ما اندلعت بعده صراعات دموية بين الاحزاب الوطنية التي كانت مناوئة للاستعمار الفرنسي وبين خلايا المقاومة وجيش التحرير فيما بينها. وكانت هذه الاحداث عامة اختلط فيها الحابل بالنابل ولم نعد نعرف من هي الجهة التي على حق! وما شجع على ذلك في تأزيم الوضع الامني، هو الفراغ السياسي والاداري ففرنسا التزمت الحياد وظلت تتفرج على الاحداث التي عرفت اقتتالا ومصادمات دموية عمرت خمس سنوات ما بعد الاستقلال، باعتبار ان المغرب استقل عن إدارتها. وقد دام هذا الصراع حتى وفاة محمد الخامس وبعده البكاي بـ 45 يوما. لتبدأ من جديد مراحل صراعات أخرى لاحاجة لذكرها. وخلاصة القول إن جيل الألفية الثالثة هو من يؤدي ثمن صراع الاجيال السابقة. لنعود للحديث عن لقاء إيكس ليبان، حيث ان الجانب الفرنسي كان في موقف قوة من خلال فرض عملائه ضمن الوفد المغربي المفاوض، الى جانب الوطنيين الذين كانوا تواقين الى استقلال المغرب. ألا يعتبر فرض هؤلاء العملاء من أجل التأثير على الوطنيين لتقديم تنازلات من أجل استقلال ممنوح وليس استقلالا منتزعا؟! (بعد تريث وبشيء من التحفظ).. لا نعلم في لقاء إيكس ليبان إن كانت هناك تنازلات وأن اختيار الشخصيات المفاوضة التي مثلت الجانب المغربي أملتها وفرضتها الثقة التي وضعها محمد بن يوسف في قادة الحركة الوطني والبكاي كجهة مستقلة مساندة للقضية الوطنية وداعمة لها، ولو أن الوطنيين كانوا يرفضون أصلا إجراء أية مفاوضات قبل الاستقلال، وفي ظل السيادة الوطنية الكاملة. وفي ذلك الوقت الذي كانت فيه المفاوضات جارية في لقاء إيكس ليبان، فإن جيش التحرير والمقاومة المسلحة لم يكونا راضيين عن تلك المفاوضات التي اعتبراها مشلولة بفعل الحضور القوي للجانب الفرنسي في المفاوضات من خلال عملائه على حد زعم الجهات غير الراضية عن تلك المفاوضات، باعتبارها كانت في صالح فرنسا بإغفال مطالب أخرى تم تجاوزها أو التنازل عنها. لماذا وقع اختياركم على الدكتور عبد الهادي بوطالب للتقديم لكتابكم هذا، مع العلم ان هناك رجالا كانوا أقرب نسبا وانتماء الى والدكم البكاي لهبيل. فهم أولى بالتقديم لاطلاعهم على حقائق الأمور؟ إن اختيار الاستاذ عبد الهادي بوطالب للتقديم لكتابي «الاستقلال المستعجل» يعود بالأساس الى الروح الوطنية الصادقة التي عرف بها الرجل منذ كان عمره 22 سنة، لما كان أستاذا بجامع القرويين، وهذا ما يدل على نبوغه المعرفي وتفوقه العلمي وهو شاب بين الكهول. إذ كان يبهر العلماء والمفكرين بذكائه الوقاد ونباهته الفياضة حتى ان السلطان محمد بن يوسف اختاره، في الأربعينات، أستاذا بالمعهد الملكي لتعليم الأمراء. هذا بالاضافة الى ما عرف فيه من كفاح ونضال مستميت لإخراج المستعمر الفرنسي من المغرب. ثم مشاركته التاريخية الفعالة التي أبلى فيها البلاء الحسن في المفاوضات مع فرنسا ومشاركته في جميع الحكومات المشكلة في عهدي محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله.