في الدفتر الثالث من مذكراته، ُيسلط عبد الرحيم بوعبيد، باعتباره أحد الوطنيين الذي تتبعوا عن كثب وشاركوا ودافعوا عن استقلال البلاد، السياق الدولي والوطني والداخلي لحزب الاستقلال الذي تمت فيه مفاوضات الحرية. ويقدم الفقيد الكبير إضاءات جديدة على أسئلة وتساؤلات متعددة تخص ايكس ليبان وآراء القادة الاستقلاليين وبعض الخفايا التي ترتبط بمفاوضات الاستقلال. وهو يقدم المعطيات التي عاشها ويعيد ربطها بالسياق الذي كانت تتفاعل داخله وقتها. ونكتشف معطيات جديدة، لم تسترع كبير اهتمام من طرف المؤرخين أو الباحثين من قبيل موقف اسبانيا وتاكتيكاتها حول القضية المغربية، والحياة التي كان يحياها المقاتلون في منطقة خاضعة منطقيا للاستعمار، لكنها في الوقت ذاته فضاء للتداريب والتخطيط لعمليات المقاومة، في الوقت الذي يكتب المغرب فيه تاريخه، بكثير من الجرأة والشجاعة مع الذات، وبكثير من التمحيص ايضا والمقارنات والتركيبات الدينامية للأحداث والشهادات، تعتبر مذكرات عبد الرحيم مهمة، إن لم نقل مفصلية، في ترتيب الذاكرة وترتيب الفترات التاريخية. أول نقطة كان علينا أن نناقشها هي أنه لا بد من التذكير، بالتفصيل، بالظروف التي تمت فيها لقاءات ايكس ليبان، التي عارضها علال الفاسي علانية. غير المجدي هنا اعادة التحليل الذي قمت به سابقا، في فقرات أخرى، لكن كان علي، خلال اجتماع عمل اللجنة التنفيذية ، تبديد أي غموض وكل تأويل خاطيء. إذ لم يتم استدعاء الحزب إلى ايكس ليبان من أجل التفاوض مع الحكومة الفرنسية حول مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية، بل من أجل عرض وجهة نظرنا كحزب فقط، كان علينا أن نشرح أن هذا اللقاء قرره الرئيس ادغار فورمن أجل أن يوضع الوزير الفرنسي في الشؤون الخارجية، على وجه الخصوص على اطلاع على الملف المغربي، اي شبه تمرين بيداغوجي. وقد اشترط السيد انطوان بيناي، أحد أعمدة أغلبية الرئيس فور استدعاء كل التيارات، بما فيها المخزن العتيق والباشوات و قياد الحماية وبطبيعة الحال التيارات المسماة معتدلة. وقد تحدثت الصحافة الدولية عن مائدة مستديرة تجمع كل التيارات، والحال أن ذلك لم يكن أبدا دقيقا. وقد حددنا، بهذا الخصوص وجهة نظرنا، سواء أمام السفير الفرنسي غارانفال أو في باريز. لم يكن واردا بالنسبة لحزبنا أن يجلس حول مائدة واحدة مع ما يسمى بالحركات الأخرى بدون انتداب وبدون قاعدة لدى الشعب المغربي. وفي النهاية جاءت الطمأنة والضمانات بأن وفدنا سيتم استقباله لوحده على انفراد من أجل عرض موقفه على الوفد الفرنسي ، والاجابة عن اسئلته في حال طرحها، وهو ما وقع بالضبط. إذن لم تكن هناك مفاوضات في ايكس ليبان! ولا مشاركة في أية مائدة مستديرة من أي نوع. غير أن رفض الدعوة الفرنسية من أجل أن نشرح موقفنا جهوريا ونطرح شروط حل حقيقي وفعلي للأزمة ، كان سيكون من جانبنا خطأ سياسيا لا يمكن تفسيره ولا غفرانه من طرف الرأي الدولي. كان علال الفاسي ينصت ويطرح الاسئلة من حين لآخر. وقال صحيح، هناك اشياء كثيرة فاتتني، لكنني همشت هذا الرجل الذي يبدو للوهلة الأولى عنيدا، كان في الواقع مختلفا عن الصيت الذي ذاع عنه. فقد كان منشرحا، مطمئنا، تقريبا، يبتسم وعيناه متغضنتان. أضفت متسائلا: ما هي النتيجة الملموسة للقاء إيكس ليبان هذا؟. لقد كانت الحكومة الفرنسية أمام احتمالين، إما أن تدع هذا اللقاء بدون أية استمرارية ، لأسباب داخلية ، وفي هذه الحالة تبدو الوحيدة المسؤولة عن تفاقم الوضع.. أو تحاول أن تواصل التحذيرات ولكن مع اعتماد المسطرة الوحيدة التي كنا نطالب بها، أي الاتصال مباشرة مع محمد الخامس في المنفى بمدغشقر. فبدون مشاركة نشيطة للعاهل الشرعي لبلادنا، ليس هناك حل مقبول لمجموع الشعب المغربي، بهذا ختمنا لقاءنا مع الوفد الفرنسي. ويجب ألا ننسى، على وجه الخصوص أن ابن عرفة كان لا يزال في الرباط ، وأن جيلبير غرانفال، أكثر المقيمين ليبرالية كان يفكر في حل الرجل الثالث، بعد فترة طويلة بهذا القدر أوذاك، يمضيها مجلس للعرش.. وسرعان ما طلب وفدنا رسميا من الحكومة الفرنسية الترخيص للذهاب إلى مدغشقر. وقد كان هذا الطلب التاكتيكي من جهتنا، طريقتنا في أن نضع ملكنا في العملية التي كانت لا تزال في طور المحادثات الاستكشافية. أما على الصعيد الدولي فقد كان بعدها السياسي معتبرا. وقد انضم الرئيس ادغار فور وبيناي إلى الفكرة، لكن على طريقتهما. فتم ارسال الجنرال كاترو والسيد ايسرو، مدير ديوان وزير الخارجية إلى انتسيرابي، كموفدين خاصين للحكومة الفرنسية، وكانا يسعيان الى الحصول على تزكية الملك من أجل انشاء مجلس العرش، برئاسة البكاي، مقابل نقل الاسرة الملكية إلى فرنسا لفترة غير محدودة تتراوح بين ستة اشهر وسنتين. غير أنه كان من المؤكد أن الامر يتعلق بتشكيل حكومة تحت اشراف مجلس العرش تمثل كل تيارات الرأي. بعد المبعوثين الخاصين للحكومة الفرنسية، جاء دور وفد آخر يضم كلا من البكاي والفاطمي بنسليمان رخص له بالذهاب إلى مدغشقر. ثم جاء دور حزب الشورى والاستقلال ، مع عبد الهادي بوطالب وعبد القادر بن جلون. أما وفدنا نحن الُمشَكل من الحاج عمر بن عبد الجليل وأنا ، كان آخر وفد يسمح له بالزيارة. وقد مدد عضوا الشورى والاستقلال من إقامتهما في انتسيرابي ، واحتمال كبير أن ذلك كان من أجل حضور لقائنا مع الملك. وقد عرض الحاج عمر بن عبد الجليل ملخص هذه اللقاءات، مع الاشارة إلى الخطوط العريضة لموقفنا: تحفظات فورية على بدء انشاء مجلس العرش ، ذاته، بالرغم من الدور البارز الذي كان سيلعبه السي البكاي، فقد كنا متخوفين من أن تصبح هذه الهيئة، ذات الاختصاصات العائمة نوعا من مؤسسة تحت وصاية الاقامة العامة بالرباط. رفض حزبنا ايضا المشاركة في اية حكومة انتقالية كانت، خصوصا وقد ورد مسبقا استدعاء الفاطمي بنسليمان، الذي بايع بن عرفة سنة 1953 لاسناد مهمة رئاسة هذه الحكومة ، وهومايعني بكوش.. جديد.. وقد كان تعيين الجنرال بويير دلاتور مكان غرانفال ليؤكد قناعاتنا ومن هنا رفضنا مجلس العرش الذي تم تنصيبه، بدون علمنا، والفاطمي بنسليمان الذي دعي لمباشرة المفاوضات من أجل تشكيل حكومة وهمية. غير أن كل ذلك، كما قلنا كان ماضيا فلم يعد هناك لا مجلس للعرش ولا حكومة بن سليمان والجنرال بويير دولاتور غادر المغرب. وسواء قبل أو بعد لقاء ايكس ليبان، ظل الموقف الحازم لحزبنا، في كل مرحلة من مراحل المسلسل منسجما مع الخط العام: محمد الخامس هو الملك الشرعي للشعب المغربي ولم يكن واردا الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية ، على اساس قواعد أخرى غير الغاء معاهدة الحماية وحصول بلادنا على استقلاله وسيادته الكاملة. النقطة الثانية تتعلق ، من بعد، في هذه الدورة الاستثنائية لا الخاصة للجنة التنفيذية، بتحليل مضمون الاتفاق الفرنسي المغربي المبرم بسيل سان كلو يوم 6 نونبر 1955 . وقد كان البند الاساسي فيه يكمن في التزام الحكومة الفرنسية القيام، صحبة الحكومة المغربية التي ستتشكل « بالمفاوضات المخصصة لوصول المغرب إلى وضع الدولة المستقلة الذي تربطه بفرنسا علاقات دائمة من الترابط المتبادل الحر والمحدد». وعلى سبيل الاخبار الاضافي، قلت بما يلي: « إننا ننتظر لقاء قريبا مع الملك وممثلي الحكومة الفرنسية، لكننا نجهل تاريخها. في 5 نونبر 1955 ، جاء بيان المجلس الحكومي الفرنسي غامضا، حول الاساسي لمواقفنا، اي الغاء معاهدة الحماية. كنت متعودا على الذهاب يوميا الى سانجيرمان أونلاي، منذ مجئ الاسرة الملكية? في ذلك اليوم 6 نونبر، كنت أنوي الذهاب إلى هناك بعد منتصف النهار ولكن الصدفة البحتة أو لعله الحدس جعلني أذهب حوالي منتصف النهار. طلبت على الفور لقاء ولي العهد مولاي الحسن، وتحديدا لتبادل وجهات النظر حول بيان مجلس الوزراء. التقيته، فأخبرني حينها أن جلالة الملك سيلتقي بالرئيس بيناي، حوالي الساعة الثالثة زوالا في قصر سيل سان كلو، ثم مدني بالورقة التي كتب عليها مشروع بيان مشترك فرنسي مغربي. وقد كانت عودة الملك إلى الرباط مضمنة فيه بشكل واضح، لكن كما لا حظت أنه ينقصه ما هو اساسي بخصوص الغاء معاهدة الحماية. وافقني الأمير على الرأي ، فكان من الضروري عقد جلسة عمل مع جلالة الملك ، وقد عقدت، وكان الكولونيل تويا يراقبني من بعيد ونحن نتناقش. دعاني مولاي الحسن إلى الغذاء في شقته، في انتظار أن يلتحق بنا جلالته، الذي كان جالسا إلى شخصيات فرنسية من بينها فرانسوا مورياك. وبالفعل، حوالي الواحدة والنصف التحق بنا جلالة الملك? فعرض عليه الأمير ملاحظاتنا بخصوص مشروع البيان المقترح من طرف الرئيس بيناي، وظهر أنه من الضروري اعداد مشروع مضاد مع الاعداد للقاء سيل سان كلو. هذا المشروع المضاد، الذي حررناه معا، تضمن فقرة متعلقة بالمفاوضات الفرنسية المغربية وهدفها هو الغاء معاهدة الحماية وحصول المغرب على وضع دولة مستقلة وذات سيادة? وهذا المشروع المضاد الذي يحدد العلاقات القادمة ، هل كان ضروريا ؟ لقد تم الاتفاق على القيام به، حيث لم يكن يتعلق الامر بمطلب جديد، اذ أن كل الوثائق الصادرة عن جلالة الملك كانت تتحدث عنه وذلك منذ 1944. وقد كان السبب الرئيسي لرهان القوة في غشت 1953 لدى الاقامة العامة بالرباط هو الارادة المعبر عنها بوضع حد لنظام الوصاية واستعادة الاستقلال الوطني. ذهب جلالة الملك إذن إلى قصر سيل سان كلو، مرفوقا بولي العهد، وكنت قد اخبرت مسبقا هذا الاخير، باسم حزبنا أنه من الضروري عقد ندوة صحفية يتم خلالها التصريح بأن محمد الخامس سيعود الى الرباط باعتباره ملكا حرا من اية وصاية للحماية ، التي عفى عنها الزمن الى الابد. وفي نهاية الزوال، جاء البيان الذي تم تبنيه في سيل سان كلو متضمنا للجزء (الفقرة 3) المرتبط بموضوع المفاوضات التي ستبدأ ، اي حصول المغرب على وضع الدولة المستقلة. بعد تقديم هذه التوضيحات، بقي أن نحدد بعد و دلالة العبارة التي تقول ب «الترابط الحر والمحدد». هذه الصياغة ، التي حددت للعلاقات المستقبلية بين المغرب المستقل وفرنسا كانت ، حتى قبيل ايكس ليبان ، موضع العديد من التعليقات المغلوطة وسوء الفهم داخل قيادة الحزب، بحيث كان علينا أن نتبنى، بهذا الخصوص خطا واضحا. فقد سبق لعلال الفاسي أن أثار العديد من الاعتراضات سببها اساسا خوفه من أن تفضي إلى استقلال شكلي مفرغ من صلاحيات وسلطات حقيقية. بعض المناضلين، ولا سيما منهم الذين كانوا في القاهرة أو غيرها، الذين لم يكونوا على اطلاع جيد بخصوص تطورات الاحداث لمدة سنين طويلة، كانوا يبدون نوعا من التصلب ، اللفظي بالاحرى. ومن تم كان يتم الانتقال الى محاكمة النوايا ، المسبق بدون تحليل موضوعي..