في الدفتر الثالث من مذكراته، ُيسلط عبد الرحيم بوعبيد، باعتباره أحد الوطنيين الذي تتبعوا عن كثب وشاركوا ودافعوا عن استقلال البلاد، السياق الدولي والوطني والداخلي لحزب الاستقلال الذي تمت فيه مفاوضات الحرية. ويقدم الفقيد الكبير إضاءات جديدة على أسئلة وتساؤلات متعددة تخص ايكس ليبان وآراء القادة الاستقلاليين وبعض الخفايا التي ترتبط بمفاوضات الاستقلال. وهو يقدم المعطيات التي عاشها ويعيد ربطها بالسياق الذي كانت تتفاعل داخله وقتها. ونكتشف معطيات جديدة، لم تسترع كبير اهتمام من طرف المؤرخين أو الباحثين من قبيل موقف اسبانيا وتاكتيكاتها حول القضية المغربية، والحياة التي كان يحياها المقاتلون في منطقة خاضعة منطقيا للاستعمار، لكنها في الوقت ذاته فضاء للتداريب والتخطيط لعمليات المقاومة، في الوقت الذي يكتب المغرب فيه تاريخه، بكثير من الجرأة والشجاعة مع الذات، وبكثير من التمحيص ايضا والمقارنات والتركيبات الدينامية للأحداث والشهادات، تعتبر مذكرات عبد الرحيم مهمة، إن لم نقل مفصلية، في ترتيب الذاكرة وترتيب الفترات التاريخية. القول بأن عودة محمد الخامس يوم 16 نونبر 1955 كانت عودة مظفرة، تعبير لا يعبر عن قوة الأمر، فقد كان ذلك اليوم يوما لاينسى في تاريخ الأمة المغربية. فقد استقبلت العاهل وأبناءه بمجرد أن لاحوا تكبيرة عميقة للغاية، كما لو أنها قادمة من أعماق القرون: الله أكبر! عشرات الآلاف من المواطنين حجوا الى المطار، ومئات الآلاف وقفوا على طول المسار الملكي الذي قاده إلى المشور، تبجيل اسطوري وجماعي لشعب بكامله، صلوات تعالت بها آلاف الحناجر، واغاني وطنية واهازيج شعبية، حركات محمومة لنساء وأطفال وشيوخ دامعة عيونهم ووجوهم بللها البكاء« سيدي محمد مول الجلابة حرير ..» بداية الاغنية الشهيرة ل (محمد افويتح) كان هنا بلحمه ودمه، بابتسامة مضيئة ، التي كانت ، قبل ايام من هذا اليوم تُرى في القمر، كنا كما في حلم، نظرا لأن حضوره نفسه كان يبدو كحلم، كرؤية في الانتشاء الجماعي للشعب كله. من بعد، ومن بعد فقط، يمكننا أن ندرك أبعاد وحجم هذه الظاهرة الاستثنائية. ففي السياق، وخلال القرون الماضية كان الملوك ينصبون حسب طقس معين وبروتوكول محدد، يقيم فيه العلماء واعيان المخزن أما الشعب فكان يهمَّش، ُيبعد عن الاحتفال، وكل ما هو مطلوب منه هو أن يلتحق وينضم للاختيار الذي لم يكن اختياره. في ذلك اليوم 16 نونبر سيظل يوما فريدا في تاريخ البلاد? فقد كان محمد الخامس الملك الوحيد الذي نُصب وقُدس بالاقتراع الشعبي المباشر. فتمت تنحية الطقوس والتقاليد، بخياناتها، فتحقق نظام جديد، نعم، نظام الملكية الشعبية. غير أنه، وبعد الايام المجنونة والأمل المفرط تأتي الاوقات العصيبة لحصيلة سنوات مديدة من الكفاح.. لقد تم احترام الميثاق، العهد الوطني الذي عقده الملك والحركة الوطنية فاستعادت البلاد كرامتها بتكسيره لاغلال التبعية الاستعمارية واستعادت مكانتها في محفل الامم الحرة وذات السيادة، غير أن الجانب الآخر من الميثاق الوطني المتعلق بدمقرطة المؤسسات كان لا يزال ينتظر التحقيق، وفُقِدت الاندفاعة من أجل بناء مغرب جديد ، في عالم جديد. فكان أن أفسدت السياسة الروحانيات وغطت عليها، هل كانت تلك وقتها خيانة النخب(في اشارة إلى كتاب ج. بريدنا الذي يحمل نفس الاسم -المترجم) على كل ، في الوقت الذي نفكر به بهذه الطريقة لا بد لنا من أن نقر بهذا الواقع: الغد لا يفي دوما بالوعود التي قدمها في الأمس. اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال (مدريد نونبر 1955) لنعد الى ليلة 16 نونبر. فقد تم الاتصال باحمد بلافريج، الأمين العام للحزب وبعلال الفاسي، من أجل اجتماع استثنائي للجنة التنفيذية بمدريد. وتم تحديد موعد اللقاء يوم 17 نونبر 1955. استأذنا من محمد الخامس، ومن ولي العهد، يوم 15 نونبر ونحن نلح على اهمية هذه الدورة من اللجنة التنفيذية لحزبنا، عشية المفاوضات القريبة مع الحكومة الفرنسية. حيث أن الافتراق لمدة سنين عديدة ، وغياب التواصل المنتظم مع رفاقنا في القاهرة خلق سوء فهم و تأويلات مغلوطة للاحداث المتعاقبة التي طبعت هذه الفترة. وعليه، كان من الضروري أن نقوم بتحليل شامل للوضع وتحديد الخط العام الذي يجب اعتماده. وقد تفهم الملك انشغالاتنا دون أن يفوته التعبير عن اسفه لغيابنا عن الرباط، يوم عودته. استقلينا القطار الى مدريد ، الحاج عمر بن عبد الجليل وأنا، ليلة 17 نونبر، كان الحاج عمر بن عبد الجليل منشغل البال، وأسر لي بأن هذا الاجتماع بالرغم من أهميته يكدره ويقلقه أيما قلق، فقد كان يخشى أن يتحول الى مأساة، لأن علال الفاسي وأحمد بلفريج كانا على جفاء، بحيث لا يكلم أحدهما الآخر منذ مدة. وكان لكل منهما طبع يناقض الآخر ويتعارض معه، ولم يكن الخلاف حول العمل،اساسا، بل حول قضايا تافهة، إن لم نقل بئيسة. فقد كانت بعض عباراته وردوده لاذعة وقاسية السخرية، وكانت تمس الآخر في أنفته وكبريائه الرهيف والمرتاب للغاية ، فيرد عليه بانفعال، احيانا يصفق الباب، وقال لي أنهما طبعان لا يمكن الاصلاح بينهما.. فعلال الفاسي، كما روى لي المهدي ، لم يغفر لرفاقه أنهم اختاروا، في غيابه، عندما كان في المنفى بالغابون، احمد بلفريج أمينا عاما. فقد كان يعتقد بأن الأمر مؤامرة ضد شخصه، ومسّا بهالته ووضعه، لأن عمله النضالي لم يكن له لدى القاعدة الحزبية التجذر والاتساع الكافيين. عند عودته من المنفى، كان يلمح إلى أن رئاسة الحزب من حقه هو، لكن بلافريج كان يعارض ذلك.. كما أن علال الفاسي، في علاقاته مع الملك في فترة ايريك لوبون، لم يكن يحظى بنفس التعامل المتميز الذي يحظى به رفاقه. والحال أن مصالح الإقامة العامة وبعض شخصيات المخزن ، كانوا يلعبون بمكر لاثارة الحذر، بل الارتياب، بحيث كان هناك خطر أن لا تبقى زعامة الحركة الوطنية حكرا على القصر. كانت هناك الكثير من التنقلات والخطب الطويلة، حيث كان البعض ينتقون منها كلمات وعبارات كانوا يعطونها تأويلات، أقل ما يقال عنها أنها مغرضة... ففي عشية تعيين الجنرال جوان بالرباط، طلبت اللجنة التنفيذية من علال الفاسي أن يذهب في مهمة إلى باريز، ومن تمة إلى القاهرة من أجل الدفاع عن القضية الوطنية لدى الدول العربية. وهكذا بدا أن غيابه من الداخل يناسب الجميع.. ولم يعد الى المغرب، بعد اقامته في القاهرة أو في طنجة، الا بعد اعلان الاستقلال.. وكان الزعيم يحس بنوع من الاحباط وبنوع من المرارة. شخصيا لم أكن اعرف علال الفاسي الا عن طريق ما اسمعه عنه.. ولم أتعرف عليه عن قرب سوى عند الاقامة في باريز، وقد قدرت فيه ميزاته التي لا غبار عليها، ميزات المناضل ونشاطه الفياض: فقد كان الفعل عنده يسبق التفكير، ومن هنا كانت تتأتى ، احيانا بعض الاخطاء في التقدير، وبعض التحليلات غير الكاملة ، ونوعا ما مرتجلة. أما المهدي، الذي كان يعرفه معرفة شخصية، عندما كان عمره بالكاد 16 سنة، كان يعرف الكثير عن الزعيم? غير أن القاعدة السارية كانت هي الصمت المطلق بحيث أن مشاكلنا الصغرى الداخلية لا يجب أن تتسرب الى المناضلين في القاعدة! ولا بد من الحفاظ على واجهة الاجماع? وكانت للحاج عمر ومحمد اليزيدي المهمة الصعبة في تسوية الخلافات. خلال الرحلة من باريز الى مدريد، كاد عمر بن عبد الجليل أن يتوسل إلي بأن ابذل مجهودا في الأخذ بعين الاعتبار بحساسية علال الفاسي. وردد مرارا خلاصته بالقول «لدينا في الحزب هذين الطبعين، ولا بد لنا من أن نتعايش معهما، إذ أنهما ضروريان لنا معا ..». في محطة القطار بمدريد ، كان علال وحيدا في انتظارنا، وبدا كما لو تغير جسديا قليلا. نفس النظرة الزرقاء، التي تبدأ نفاذة قبل أن تذهب بعيدا كما لو أنها تبحث عن حلم داخلي. كان اللقاء تنقصه الحرارة العفوية والتلقائية..« بدا الحاج عمر كما لو أنه يقول لي «الجو مكهرب..». بعدها جاء بلافريج واليزيدي ، في سيارة امريكية ضخمة ، تبدو فارهة أكثر من اللازم في نظري.. كان اللقاء صعبا على رصيف القطار، حاول الحاج عمر واليزيدي خلق نوع من اللطافة في الجو، في حين بقي بلافريج أكثر شحوبا من العادة، بعيدا، ومطبق الشفاه. خاطبه علال بصريح العبارة قائلا أنا لا أملك سيارة شخصية، وقد جئت بالطاكسي للقاء رفاقي! فأجابه الآخر، بأن أقسم ألا يضع قدميه في نفس السيارة معه. تسمرت في مكاني لا أحير عملا، ثم، وبدون مقدمات عانقت علال الفاسي ، فرأيت الدموع في عينيه. جلس في السيارة، وأنا بجانبه. أما اليزيدي والحاج عمر فقد جاءا يصحبان معهما بلافريج. تم اغلاق ملف الحادثة فاتجهنا نحو فندق فيلاسكويز. وعاد التفاهم بيننا ، واستطعنا الشروع في القضايا الجدية.