«إن الوضعية لا تقر حقا آخر غير حق القيام بالواجب ولا تقر واجبا غير واجبات الكل تجاه الكل، لأنها تنطلق دائما من وجهة نظر اجتماعية ولا يمكن لها أن تقبل بمفهوم الحق الفردي. فكل حق فردي هو عبثي بقدر ما هو غير أخلاقي» هذا ما ذهب إليه أول علماء الاجتماع الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت (1798-1857)، حيث يرى أن حقيقة الوضعية تنطلق من إعطاء الأولوية للكل على الجزء لأن «الوحدة هي النمط الطبيعي للوجود الإنساني»، وإن كل جزء من النظام الاجتماعي يؤثر على غيره من الأجزاء،مما يعني وجوب تقديم ما هو اجتماعي على ما هو فردي عن طريق دمج الفرد في المجتمع،فالمدرسة إذن آلية أساسية لإدماج الفرد في المجتمع وجعله واعيا بحقه داخله واتجاهه. فالمجتمع الذي يمثل حصيلة الجهد الذهني والعضلي لمجموع أفراده يعمل، حسب المختصين، على الاستجابة لحاجيات الأفراد، ويعمل كذلك على ترسيخ النماذج الثقافية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تشكل مجموع عمليات التعلم التي عن طريقها يكتسب ويستدمج الفرد العادات والتقاليد والقيم والاتجاهات السائدة في بيئته. وتتم من خلال أساليب وطرق، تتفق مع الثقافة السائدة في المجتمع، حيث يتلقاها الأفراد منذ طفولتهم المبكرة في الأسرة والمدرسة ومع الجماعات. أما الفرد فهو أيضا العنصر المكون الأساس والفعال والركيزة الأولى لبناء المجتمع، وهو منبع الإبداع والتطور، وحاجة المجتمع إليه حاجة إلى أدواره المختلفة، المرتبطة بمؤهلاته وخبرته وكفاءته،لأن المجتمع عبارة عن مجموعة من الأفراد،فشعور كل فرد بمسؤوليته التي يضطلع بها داخل الجماعة وحريته في اختياراته دون أن يحس أنه مجبر على تبني خيارات الآخرين، يحقق للمجتمع حاجاته، لأنه لا وجود لمجتمع ناجح مكون من أفراد فاشلين مسيرين أو غير قادرين على تحمل مسؤولياتهم. كما أن تقدمه مستحيل إذا كانت ثقافته تسعى إلى إلغاء ثقافة الفرد فيه. الحاجة ملحة وحتمية إذن إلى خلق التوازن في العلاقة بين مسؤولية الفرد من حيث هو ومسؤوليته من حيث كونه فرد داخل مجتمع،دون المساس بحريته الشخصية التي من دونها تنعدم إنسانية الكائن البشري، كما هناك أيضا حاجة أكيدة إلى توفير آلية أو مؤسسة فعالة لتدبير الاختلافات داخله وبين الأفراد المكونين له حتى يتسنى له بواسطته ومن خلاله فرض سلطة الجماعة على كل واحد منهم، وعلى المجتمع نفسه ككل، وفق أسس وقواعد ونظم وضوابط متعارف عليها ومتوافق بشأنها تراعي تنوع الآراء التي تمثل إثراء للخيارات المصيرية وللنظريات الإبداعية. المدرسة إذن، الآلية المجتمعية الأساسية التي ينبغي لها بمعية الأسرة أن تتكفل بالأفراد داخل المجتمع لتحقيق التوازن المطلوب بين حاجة الفرد والمجتمع، ومسؤولية كل واحد منهما تجاه الآخر، وهي التي تسهر على حفظ وضمان وصيانة واستمرارية تلك الأسس والقواعد والضوابط، وزرعها في روادها، فهي تمثل الجزء الأساسي من النظام الاجتماعي، الذي بفضلها وبواسطتها يمكن للمجتمع الذي يحترم نفسه، أن يحقق كذلك تكافؤ الفرص لاندماج الأفراد داخل هذا الكيان، الذي يتكون من وحدات يشكل الإنسان عنصرها الأساسي، فرغبة الإنسان الأكيدة في الحصول على مميزات الانضمام إلى مجتمع معين، والحفاظ على مكتسباته من غذاء وماء وأمن و.. تجعله يضع انتماءه للجماعة في قائمة أولوياته، لأنه ما كان ليحصل على تلك المميزات لولا انتماؤه إليها، مما يجعل تشبثه بالجماعة أمرا مسلما لا مفر منه، ورغبته في الاندماج والتآلف مع بني جنسه صمام أمان له كذلك،مما يفرض عليه ضررورة التحلي بالانضباط لأسس وقواعد وضوابط تتكفل بزراعتها فيه وفي محيطه مؤسسات من صنعه هو نفسه وإنشائه، على رأسها المدرسة التي تعتبر مؤسسة التنشئة الاجتماعية للفرد بامتياز.