جاؤوا من 150 دولة إلى مراكش. تعددت تمثيليتهم وانتماءاتهم . جاؤوا إلى عاصمة يوسف بن تاشفين ليقضوا اسبوعا تتمحور أنشطته حول موضوع رئيسي هو «الفساد» وقاعدته التي تجمعهم هي اتفاقية دولية صادقت عليها العديد من عواصم العالم بعد أن تبنتها الاممالمتحدة سنة 2003 واتخذت لها بعد مخاض استمر لعدة سنوات اسم : اتفاقية الاممالمتحدة لمكافحة الفساد. في مراكش وفي قاعات أحد فنادقها، جلس ممثلو الحكومات والمنظمات الدولية وغير الحكومية لتقييم ما تم إنجازه من التزامات ، ولتشخيص مواطن داء يعيق التنمية وينخر الاقتصاد. وفي إطار الجلسات العامة للمؤتمر ولجانه سيرسم المشاركون اللوحة التعبيرية للمجهودات التي بذلت وللمؤاخذات التي سجلت وللثغرات التي اكتشفت من أجل علاج جسد العالم من داء له من القدرة المادية والبشرية ما يجعله يتسلل إلى كل مناحي الحياة ويبدع آلياته التي يتهرب من خلالها من أية مراقبة أو ملاحقة. ضمن مؤتمر مراكش هناك حوالي 20 نشاطا متفرعا أو موازيا له لم يترك مجالا دون أن يتطرق إليه بمداخلات أو وثائق ، تم افتتاحها يومي السبت والاحد بنشاط مشترك للهيأة المركزية للوقاية من الرشوة التي يترأسها عبد السلام بودرار والجمعية الدولية لهيئات مكافحة الفساد، ومن المتوقع أن تتوج بالحديث عن حقوق الانسان ومكافحة الفساد. في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الدول الاطراف تم انتخاب محمد سعد العلمي وزير تحديث القطاع العمومي رئيسا ، ليتحمل هذه المسؤولية لمدة سنتين قبل انعقاد الدورة الخامسة سنة 2013 ببنما. وفي نفس الجلسة قرأ عبد اللطيف المنوني الرسالة الملكية التي استعرضت مبادرات المغرب التشريعية والمؤسساتية لمواجهة آفة الفساد . وقد اقترح جلالة الملك كما هو معلوم (أنظر عدد أمس ) ثلاثة مقترحات أجمع على أهميتها المشاركون وهي : إقامة تحالف دولي لأصدقاء اتفاقية الاممالمتحدة لمكافحة الفساد، وذلك لتوسيع دائرة التصديق والانضمام الدولي في أفق تحقيق عالمية هذه الاتفاقية . دعم صندوق الاممالمتحدة للوقاية من الجريمة والعدالة الجنائية . إحداث مرصد دولي لظاهرة الفساد ولأن المؤتمر ينعقد في ظروف إقليمية متميزة، كان للربيع العربي ظلال في كلمات عدد من المتدخلين . فرئيس الدورة الثالثة وهو من قطر اعتبر قبل أن يسلم الرئاسة إلى المغرب ، أن الربيع العربي « ما كان ليحدث إن لم يكن هناك فساد مستشر . والشعوب لم تعد تسكن أو تسكت وهي ترى الفساد» . ومدير مكتب الاممالمتحدة للجريمة والمخدرات قال إن» الربيع العربي صيحة لرفض الفساد، وصرخة من أجل النزاهة». في المؤتمر هناك إشكالات تولدت عن تفسيرات عدة لبعض مقتضيات الاتفاقية ، أو نجمت عن ثغرات في هذا النص ، ولم تسد فراغها توصيات المؤتمرات السابقة التي انعقدت بالأردن أو أندونيسيا أو قطر . وبرزت بعض ملامح هذه الإشكالات في كلمات المجموعات الاقليمية . فباسم إفريقيا تحدثت الجزائر حيث أثارت قضية الآلية لاستعادة الاصول المسروقة . وطرحت تايلاند باسم آسيا آلية الاستعراض التي تم بشأنها تشكيل فريق أسندت إليه مهمتا تكوين صورة مجملة عن عملية استعراض تنفيذ الاتفاقية والنظر في الاحتياجات للمساعدة التقنية. وطالبت مجموعة أمريكا اللاتينية والكرايبي على لسان الأرجنتين بضرورة اتخاذ قرار بشأن حضور المراقبين . أما سفير بولونيابالرباط والذي تدخل باسم الاتحاد الاوروبي، فركز على ضرورة تقوية آلية الاستعراض وتدقيق مصطلح الموظف العمومي في الاتفاقية. الاممالمتحدة التي جاءت إلى مراكش بقوات أمنها وأطرها وبوثائقها، حرصت على تقديم جرد لكيفية تعامل الدول انطلاقا من قوانينها المحلية مع مضامين الاتفاقية وتعريفاتها . لم تشر الاممالمتحدة بالاسم لهذه الدولة أو تلك. لكنها وضعت على الطاولة «اجتهادات» هذه الدول وتحايلاتها إلى درجة أن هناك تشريعات تحمي المفسدين في مجالات تدبير الشأن العام. النواب البرلمانيون لا يعتبرون موظفين عموميين في إحدى الدول الاطراف مما يحد من تطبيق الاحكام المتعلقة بعدة جرائم فساد يرتكبونها بالرغم من أن المادة الثانية من الاتفاقية تنص على أنه «يقصد بتعبير الموظف العمومي أي شخص يشغل منصبا تشريعيا أو تنفيذيا أو قضائيا ... سواء كان معينا أم منتخبا ، دائما أم مؤقتا ، مدفوع الاجر أم غير مدفوع الاجر..» . ولم تعتمد أكثرية الدول الاطراف تدابير محددة لتجريم كل من رشى أو ارتشى من الموظفين العموميين الاجانب وموظفي المؤسسات الدولية العمومية . ولم تجرم المتاجرة بالنفوذ في عدة دول أطراف .بل إنها اعتبرت أن المفهوم مفرط في الغموض ولا يتفق مع مستوى الوضوح المطلوب. ولم يتم تجريم الإثراء غير المشروع في معظم الدول . ولم يتخذ أكثر من نصف الدول الاطراف تدابير لتجريم الرشوة في القطاع الخاص وبين هذه الدول الاطراف توجد اختلافات في ما يتعلق بتجريم غسل الاموال .كما يوجد تباين كبير في ما بينها بشأن قوانين تقادم الجرائم المشمولة بالاتفاقية من حيث طول فترة التقادم وكيفية التطبيق . وبخصوص التجميد والحجز والمصادرة، لم تنص تشريعات العديد من الدول على تدابير تمكن من مصادرة أدوات الجريمة مقارنة بعائداتها .كما يوجد تباين بين الدول الاطراف في ما يتعلق بحماية الشهود والخبراء والضحايا . ونفس الشأن بالنسبة للمبلغين. ودون شك فإن عملية الاستعراض ستبرز تباينات شتى تجعل من ضرورة ملاءمة التشريعات الوطنية مع اتفاقية الاممالمتحدة لمكافحة الفساد، من أولويات المؤتمرات المقبلة . شكل» الاستعراض» النقطة الثانية في جدول أعمال مؤتمر مراكش بعد القضايا التنظيمية . فالاتفاقية تنص في الفقرة الخامسة من المادة 63 على ان المؤتمر يكتسب المعرفة اللازمة بالتدابير التي تتخذها الدول الاطراف لتنفيذ الاتفاقية ، والصعوبات التي تواجهها في ذلك .وقد اتفق في المؤتمر الاول على إنشاء آلية مناسبة لمساعدته على استعراض التنفيذ. وشدد على السمات التي ينبغي أن تتسم بها آلية الاستعراض وأنشأ فريقا عاملا مفتوح العضوية من خبراء حكوميين دوليين ، قدم توصياته للمؤتمر الثاني الذي طالبه بإعداد إطار مرجعي لهذه الآلية. وبالفعل أقر المؤتمر الثالث الذي انعقد بالدوحة هذا الاطار ومشروع المبادئ التوجيهية للخبراء الحكوميين والامانة بشأن الاستعراضات القطرية ومشروع المخطط النموذجي لتقارير الاستعراض . المغرب كان مبرمجا في هذه الدورة لاستعراض تدابيره وتشريعاته وثغراته لكن بعيون غير عيونه ، بل بعيون جنوب إفريقيا وسلوفينيا . كيف تتم العملية؟ ببساطة تم إجراء القرعة بمناسبة دورة الدوحة لمعرفة الدولة المعنية ، تم جرت قرعة ثانية لاختيار دولتين طرف في الاتفاقية هما اللذان سيقومان بما يسمى استعراض الاقران . في حالة المغرب الذي حددته القرعة الاولى أفرزت الثانية كلا من جنوب إفريقيا وسلوفينيا لاستعراض صورته في مجال محاربة الفساد . تم إرسال قائمة التقييم الذاتي للرباط تتضمن عددا من الاسئلة بشأن مدى تنفيذ الاتفاقية،ثم تم بعثها إلى الدولتين المعنيتين . حسب الالية المعتمدة يمكن إدراج أسئلة جديدة ويمكن إيفاد خبراء للوقوف في عين المكان للتأكد من صحة بعض الاجوبة أو التدقيق فيها ، لكن ذلك مشروط بموافقة الدولة التي سيتم استعراض وضعها تماما كما هو الشأن بالنسبة للإجابة عن الاسئلة، أو حتى الوقوف أمام المؤتمر للرد على ملاحظات وتوضيحات وانتقادات الدولتين المواكبتين. المغرب قبل بأسئلة جديدة وجاء إليه خبراء لمدة أسبوع للمعاينة واستكمال المعطيات وبالوقوف أمام المؤتمر وبنشر التقرير . صباح أمس عقد محمد سعد العلمي وزير تحديث القطاعات العامة جلسة مطولة مع نظيره الجنوب إفريقي ، في ختامها أدلى الوزيران بتصريحات حول فحوى هذه المحادثات. قال سعد العلمي إن جنوب إفريقيا ثمنت مجهودات المغرب وسجلت التطورات التشريعية والمؤسساتية التي بذلها لمحاربة الفساد وللآليات التي أنشأها . وأن هذه المحادثات اتسعت لتشمل العلاقات الثنائية بين البلدين وضرورة تطويرها وفتح آفاق سياسية واقتصادية أمامها . وبخصوص التقرير الذي كان مقررا عرضه بمناسبة المؤتمر، صرح الوزير بأنه يخضع للمسات الاخيرة، وأنه تم الاتفاق أن يبعث للأمم المتحدة لتحيله على الرباط قبل أن يتم إقراره بصفة نهائية. وتفيد بعض المصادر المطلعة بأن التقرير يقع في حوالي 600 صفحة . وللإشارة، فإن القرعة أفرزت المغرب مواكبا لعملية استعراض البرتغال التي ستجري في المؤتمر المقبل . المؤتمر انطلق أمس في مناقشة نقطة جديدة من جدول أعماله، تتعلق بموضوع برزت أهميته بالخصوص في ديناميكية الربيع العربي ، ويهم الامر بما يسمى «استرجاع الموجودات» . وقد أفردت الاتفاقية فصلها الخامس لهذا الموضوع، وفصلت المواد التسع المتعلقة به الى عدة تدابير وإجراءات يجب أن تتخذها الدولة الطرف « لإلزام المؤسسات المالية الواقعة ضمن ولايتها القضائية بأن تتحقق من هوية الزبائن، وبأن تتخذ خطوات معقولة لتحديد هوية المالكين المنتفعين للأموال المودعة في حسابات عالية القيمة ، وبأن تجري فحصا دقيقا للحسابات التي يطلب فتحها أو يحتفظ بها من قبل ،أو نيابة عن أفراد مكلفين أو سبق أن كلفوا بأداء وظائف عمومية هامة أو أفراد أسرهم أو أشخاص وثيقي الصلة بهم ...». ويهم هذا الفصل كل الدول الاطراف بطبيعة الحال منذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ سنة 2005 . لكن هذا الموضوع له أهميته الراهنة بعد ما أطاح الربيع العربي بكل من رؤساء تونس ومصر وليبيا، وبعد مطالبة تونسوالقاهرة وطرابلس للعديد من الدول بتمكينها من معرفة حجم الاموال التي هربها كل من زين العابدين بنعلي وحسني مبارك ومعمر القذافي وعائلاتهم وأصهارهم و...و... إلى الخارج. في تفاصيل المساطر وتدقيق الاجراءات تكمن شياطين المصالح الخاصة من دول ومؤسسات مالية . فحجم الاموال المطلوب استردادها تقدر بمئات ملايير الدولارات . وهي مبالغ تبيض ذهبا في الدورات الاقتصادية لهذه الدولة أو تلك . لذلك لن تكون العملية تقنية، يتم من خلالها جمع أرصدة المعنيين واستثماراتهم واستعادتها إلى السلطات الجديدة . ولتبيان بعض أوجه العراقيل المصطنعة أو غير المصطنعة، وقف مؤتمر مراكش على الحالة المصريةالتي لخصتها بعثتها الدائمة بفيينا من خلال صعوبتين واجهتهما القاهرة وهي تطالب باسترجاع الاموال التي هربها حسني مبارك وأولاده خارج مصر. فهناك صعوبات موضوعية تتمثل في تحديد موقع المال بالدولة المطلوب منها . لقد طلبت بعض العواصم من السلطات القضائية المصرية تحديد موقع المال وأرقام الحسابات المطلوب تجميدها أو الأبناك والمؤسسات المالية المودعة بها تلك الاموال بالدولة المعنية . كما اشترطت بعض الدول إرسال أرقام حسابات المتهمين لدى مؤسساتها المالية على الرغم من وضوح الطلب بشأن تكليفها بهذا البحث ،وعلى الرغم من استحالة إجراء هذا البحث على السلطات القضائية المصرية نظرا لسرية المعاملات المصرفية ولكون تلك الحسابات في دولة أخرى وهي المطلوب منها إجراء التحريات. بعض الدول طلبت من مصر تقديم الدليل على وجود ارتباط بين المال المختلس أو المتأتي من جرائم الفساد وأموالالمتهم لديها. وحتى بعد أن عثرت بعض الدول على أموال، فإنها لم ترد الإفصاح على مبالغها بل وجهت طلبات للسلطات المصرية تتضمن بعض الاستيضاحات . تقول بعثة مصر:» يظل أكبر عائق موضوعي يواجه السلطات القضائية المصرية، هو قيام الدول المطلوب منها في حالة عثورها على أموال، بفتح تحقيق بشأن جرائم غسل الاموال التي تقع على أراضيها دون إبلاغ السلطات المصرية ، بل إنها تطالبنا بتقديم المزيد من الأدلة والإيضاحات بشأن الجرائم المنسوبة للمتهم .فإذا ما قدمنا إليها المستندات القاطعة والمؤيدة للطلب عمدت، بدلا للاستجابة للطلب وإمدادنا بالمعلومات المطلوبة، إلى استخدام تلك الادلة والمستندات في محاكمة المتهم على جريمة غسل الاموال، ولم تقم بالرد على طلبات الإنابة المقدمة منا «. أما الصعوبات الاجرائية التي واجهت مصر، فتكشف مدى التلكؤ الذي تنهجه عدة دول توجد لديها أموال طائلة لمبارك وعائلته و...و... من بينها المطالبة بكتابة الاسم وما يتفق مع أنظمتها القانونية بدل ما دأب عليه المصريون من كتابة الاسم الشخصي أولا وبطريقة ثلاثية . بعض الدول طالبت بإعادة ترجمة بعض أسماء المتهمين المطلوب تجميد أموالهم وعددهم 138 . وبعضها طالب بإعادة ترتيب أوراق الطلبات ومرفقاتها، مدعية أن الاوراق سلمت إليها غير مرتبة ويتعذر عليها إعادة ترتيبها . وأصرت بعض الدول على ترجمة الطلبات إلى لغتها المحلية وليس إلى الانجليزية أو الفرنسية أو الالمانية أو الاسبانية. والعراقيل التي تواجه مصر اليوم هي نفسها التي تقف في وجه بقية العواصم . واسترجاع الموجودات سيتيه في غابة من الاجراءات البيروقراطية التي ماهي إلا واجهة لمصالح مالية واقتصادية . عموما هناك عمليات اختلاس مارسها مسؤولون بدول العالم الثالث مست بالأساس الاعتمادات التي كان من المفترض توجيهها إلى مجالات التنمية . وقد أعلن ائتلاف اتفاقية الاممالمتحدة لمكافحة الفساد في بيان له أن حجم الاموال الناشئة عن هذه الظاهرة، والتي تم تحويلها من الاقتصادات النامية والانتقالية يتراوح ما بين 20إلى 40 مليار دولار سنويا .وأوصى هذا الائتلاف المؤتمر بالمصادقة على التوصيات الواردة في تقرير مبادرة استرداد الاصول المسروقة، وبإنشاء صندوق دولي يتم تخصيصه من أجل تقديم المساعدة في مجال استرداد الأصول ،وتكليف الفريق الحكومي الدولي العامل بدراسة إمكانية استحداث آلية لتقديم الشكاوى في ما يتعلق بجهود استرداد الأصول ، فضلا عن دراسة إمكانية استخدام حسابات الضمان للأصول المجمدة. ودون شك فإن الارادة التي انبثقت منها فكرة وضع الاتفاقية، ستتجلى في النقاش في مؤتمر مراكش وفي الاقتراحات الكفيلة بتجاوز الصعوبات التي تقف في وجه هذه القضية أو تلك . وبالتالي السعي لبلورة الشعار الذي يلتئم في ظله المؤتمر: «لضمان تنمية اقتصادية وبشرية مستدامة، لنكن جميعا طرفا في الحل بمحاربة الرشوة» و...ملاحقة المفسدين واسترجاع ما جنوه من فسادهم .