خصصنا، في العدد الماضي من الملحق الثقافي، ملفا للمفكر والكاتب المغربي الدكتور محمد مفتاح بمناسبة فوزه بجائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع آداب، عن كتاب «مفاهيم موسعة لنظرية شعرية (اللغة-الموسيقى-الحركة)». وضمن ذلك الملف نشرنا الجزء الأول من الدراسة القيمة والمحكمة التي أنجزها محمد الداهي حول الكتاب والتي خص بها «الاتحاد الثقافي». هنا الجزء الثاني والأخير من الدراسة. 5 - المنهاجية: يعتمد محمد مفتاح، في معظم أعماله، على مناهج متعددة سعيا إلى الإكباب على الظاهرة الأدبية في تعقدها وشموليتها من جهة وتشابكها وتعالقها بظواهر مماثلة من جهة ثانية. وهو ما نهجه في هذا الكتاب متوخيا اقتراح نظرية شاملة وعامة لمقاربة الشعر بطريقة شعرية موسعة (الآلة الصورية) تهم الثالوث اللغة- الموسيقى- الحركة، وتقوم على مبادئ ماورائية (المعرفة والحركة والتوليف والانتظام)، وتعتمد على تصورات ونظريات ومناهج مستقاة من العلوم المعرفية، وتمتح موادها وعناصرها من المكتسبات المعرفية والشعرية العربية والغربية قديمها وحديثها. وتستند هذه النظرية إلى المنهاجية السيميائية بدعوى أنها متجذرة في الطبيعة البشرية، ومتعالية على الزمان والمكان والأشخاص، وقادرة- بحكم استنادها إلى الأوليات المنطقية والرياضية-على استثمار مكاسب العلوم المعرفية ( بما تحتوي عليه من علم الأعصاب وعلم تحصيل المعرفة واللسانيات وفلسفة الذهن وعلم النفس وعلم الاجتماع) وتدبيرها على الوجه الأحسن. ومن بين الاعتبارات التي حفزت محمد مفتاح على إرساء النظرية الشعرية الموسعة على أسس سيميائية نذكر ما يلي: 1-أن توظف المبادئ المجردة المشتركة بين مجالات متعددة ( العلوم الخالصة، والعلوم الاجتماعية والإنسانية) لدراسة الشعر بفاعلية وشمولية ونسقية(النظرية الاتصالية) عوض الاقتصار على عناصر جزئية مفصولة عن بعضها البعض ومعزولة عن سياقاتها، أو مقاربتها بطريقة مختزلة وعشوائية. 2-أن يدرس الشعر ضمن الفنون الأخرى التي تتقاطع في بعض السمات المشتركة، وتتبادل التأثير فيما بينها(المسرح والسينما والنحت والرسم والتشكيل). ومما يجعل شعر التفعلة ظاهرة معقدة وعويصة، هو أنه -علاوة على انفتاحها على الثقافات الأخرى- يدمج فنونا متنوعة (ما اصطلح عليه محمد مفتاح بالتفان) في بنية متراصة ومفرغة. وهذا ما يقتضي استثمار المفاهيم الملائمة لمقاربة الفنون والمكونات المتداخلة والكشف عن المبادئ المشتركة بين اللغة والموسيقى واللغة بطريقة موحدة ومتصلة ونسقية. 3-أن يدرس الإنسان في تفاعله مع المحيط بالحواس الخمس والتذكر مع مراعاة مع ما يتوفر عليه من مؤهلات دماغية وذهنية لتنفيذ مشروعاته الشخصية والجماعية، وتحسين عمله وإتقان حركاته حتى يكون عنصرا فاعلا في المجتمع، ومسهما في تقدم مجتمعه وازدهاره. اضطر محمد مفتاح إلى انتقاد مكامن الخلل والقصور في النظرية السيميائية البارسية حرصا على إنشاء نظرية سيميائية معاصرة ومركبة. * النظرية السيميائية المعاصرة: حاول السيميائيون تدارك نقائص نظرياتهم بإحداث تعديلات وتحويرات عليها لكنهم ظلوا أسارى منطلقاتهم الميتافريقية. وهذا ما حفز محمد مفتاح على اقتراح مفاهيم وجيهة لتعزيز النظرية السيميائية منهجا وأداء.؛ وهي كما يلي: - الاتصال: إن كل شيء يشبه كل شيء بجهة من الجهات، ويختلف معه في جانب من الجوانب. وهذا ما يجعل الكون عبارة عن متصل يقطع إلى أجزاء متنافرة، ويجعل اللغة جماعا من العناصر المتشابهة والمختلفة. - التدريج: كل شيء يمكن أن يدرج إلى مراتب. ويعد المنطق المتدرج لب الحياة وحافزا للتغلب على تعقدها. - التحركية: انتبه السيمائيون إلى نواقص الدورية المبتذلة أو الحركية الخطية لكونها لا تعير اهتماما للتحولات المفاجئة التي يمكن أن تغير مسار الحركة جذريا. وهذا ما جعلهم يتبنون « تحركية فوضوية مستعينين بمفاهيم نظرية الكوارث؛ مثل كارثة الصراع التي تعني الانشطار الثنائي، وكارثة التشعب العادي الذي يتعدى الثنائية، وكارثة التشعب الفراشي؛ ومن الفروض أن ينتج عن الانشطار والتشعب صيرورة غير خطية متوقفة أو غير متوفقة..»(6). * المنهاجية المركبة: يزاوج محمد مفتاح بين السميائيتين الأمريكية والأوروبية مستمدا منهما المفاهيم الملائمة (على نحو التحليل بالمقومات ، والتشاكل، والمربع السيميائي، والأيقون، والمؤشر، والمؤول، والرمز، والصيرورة الدلالية اللامنتهية، وخاصة الاستعارة لمقايسة مجال بمجال )، ويعتمد أيضا على اللسانيات والشعريات وتحليل الخطاب سعيا إلى اقتراح نظرية شعرية أوسع تسعف على الكشف عن المكونات الظاهرة والخفية التي تجمع بين الموسيقى و الشعر من جهة وبين الشعر والمكونات الأخرى من جهة ثانية، وتقدم تصورات متقدمة لاستيعاب الملكات اللغوية والموسيقية والحركية اعتمادا على نتائج البحوث العلمية المعاصرة فيما يخص هندسة الدماغ/ الذهن، وتكشف عن المبادئ الموحدة والبنيات المتقاطعة، وتعلل النسق الموحد والمعالجة المتعاونة التي تنهض على تضافر الأنساق(النسق الصوتي والنسق التركيبي والنسق الدلالي)، وتقاطع عملياتها وتفاعلها تحقيقا لأهداف مشتركة. 6 - التنزيل: خصص محمد مفتاح الجزء (أنغام ورموز) الثالث لدراسة متن يشمل عينات من شعر التفعلة، ويمتد على ما يزيد على أربعين سنة، ويخضع لتحقيب يجري مجاري العادات الإبداعية الإنسانية(7) دون الفصل المطلق بين أنواع الشعر وأشكاله، وإحداث القطيعة الجذرية في الإبداع الشعري والموسيقي.درس محمد مفتاح في القسم الأول من الجزء الثاني دواوين شعراء مغاربة معاصرين ، معظمهم ينتمي إلى التيار التقليلي ( المهدي أخريف، حسن نجمي، عبد الرحمن بوعلي، رشيد المومني)؛ في حين أن واحدا منهم ينتسب إلى النزعة التكثيرية (محمد بنيس). و لا يحجب هذا التصنيف السمات المشتركة التي يتقاسمها الشعراء فيما بينهم ؛ ومن ضمنها الانفتاح على الثقافة الكونية، والاشتراك في بعض الأطروحات الفكرية والمظاهر الشكلانية. تتفق الدواوين كلها في إثارة جملة من القضايا تهم الصنعة الشعرية من قبيل هوية الكتابة، والموقف من اللغة،و المزج بين الفنون في القصيدة الواحدة، وتشييد أشكال هندسية من تلاقح البياض والسواد. ومن بين الأمور التي روعيت في تحليل المتن نذكر أساسا ما يلي: * التوفيق بين الكليات الجامعة والتجليات الخصوصية، والمواءمة بين المعطيات الكونية والاعتبارات الاجتماعية والذاتية، والمزاوجة بين التحليل الجمالي وبين الكشف عن المحددات الأساسية للنص الشعري. * استجماع المعطيات الدلالية والإيقاعية والموسيقية، وتحليلها بطريقة نسقية، واعتماد حقائق علمية(عضوية الكائن البشري) وأطروحات فلسفية(فلسفة انتظام الكون)، وطرق إجرائية مستقاة من علم الموسيقى. * إعادة النظر في كثير من المفاهيم المتداولة في تحليل الخطاب الشعري لعجزها عن تفسير بعض الظواهر الشعرية المعقدة، وعدم قدرتها على تنظيم الفوضى، وعقلنة الهذيان، والاقتراب من الشعر واقتحام حماه. * توليد المفاهيم ونحتها ( من قبيل التبايض والتساوض والتفان والبصعمة والصومتة والتذاكر والشعسقى) لتفسير المكونات المتداخلة والمتشابكة، والتغلب على حل المشاكل العويصة، واستجلاء تفاعل النص مع نصوص مختلفة ومع المحيط الاجتماعي والثقافي. تتضمن الأشعار المحللة على توافقات موسيقية ظاهرة أو مختلفة. وهي، في مجملها، محكومة بأوليات موسيقية. وهذا ما يبين فرضية قوية مفادها أن «الشعر موسيقى في لغة طبيعية». فعلاوة على استضمار الشعر للقواعد العروضية، يتوفر أيضا على مكونات التأليف اللحني. ومن ضمنها على سبيل المثال التنميط، وقواعد التقطيع والبروز، والسلم الكبير، والسلم الصغير، والسلالم المترادفة، والاختزال..الخ. وهو ما يجعل النص الشعري مشرعا على قراءات محتملة،إما أن يقرأ مقاميا أو توافقيا أو تسلسليا. وهكذا فهو لا يمتثل لنموذج ثابت من التأليف، وإنما يستوعب تشابكا وتداخلا على مستوى الإيقاع العميق. وبناء على حرص محمد مفتاح على فرضيتي التركيب والإدماج، كان يمد الجسور بين الشعر والموسيقى، ويحدث تفاعلا ديناميا بينها بالمفاهيم المترحلة والمقايسة، ويقطع النص الشعري بطريقة متدرجة مستندة إلى التناسب الرياضي الموسيقي، ورصد مختلف المراحل التي ينمو فيها الشعر بالتوتر، والاسترخاء، والقوة والضعف، والتقدم والاستباق، وصولا إلى الذروة وارتدادا منها.. وكل هذه المراحل تسعف النص الشعري على إقامة التوافقات بين المكونات المختلفة، وإثراء البنيات الإيقاعية والموسيقية وتنوعها. درس محمد مفتاح في القسم الثاني متنا مكونا من : قصيدة« الرأس والنهر» لأدونيس، ثم قصيدة « أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي» لمحمود درويش ، ثم ديوان« هناك تبقى» لمحمد بنيس. سعيا إلى اقتراح منهجية تأليفية منتقاة من علم الموسيقى، استند محمد مفتاح، في تحليل قصيدة أدونيس، إلى قواعد الموسيقى التوافقية، وبين أنها، على نحو مثيلاتها، تنمو من نواة تتوالد منها جمل منتظمة في عمليتي التوتر والاسترخاء ومحكومة بإيقاع موسيقي. ومن بين العناصر المعتمد عليها نذكر التجميع الاختزالي (ترابط المكونات وتتابعها) والاختزال التمطيطي (إبعاد المستويات غير المهمة حرصا على بقاء النواة الصلبة) واختزال المسافة الزمنية (القوة والضعف) والتراتب الاختزالي(التوفيق بين التوتر والاسترخاء). ووظف محمد مفتاح استراتجيات متعددة لتحليل القصيدة من جوانب وزوايا مختلفة. ومن ضمنها: الإستراتجية التنازلية (استخلاص دلالات النص انطلاقا من العنوان)، والإستراتجية الاتصالية(تدرج موضوعات النص من البداية إلى النهاية وتوطد علاقاتها بالمستويات الفنية)، وإستراتجية التهويل(هيمنة موضوعة الكارثة العظمى في القصيدة). ورغم الطابع الشذري للقصيدة فهي متراصة في شكل بنية شاملة تستوعب العلائق الظاهرة والخفية بين مختلف الفنون، وخصوصا الموسيقى والمسرح والشعر والتشكيل. ولم يعر محمد مفتاح، انسجاما مع طبيعة موضوعه، أكبر اهتمام إلا للخلفية الموسيقية مستندا إلى النظرية التوافقية لقياس القصيدة على التأليف السمفوني لوجود قواسم كثيرة بينهما، مثل كيفية التأليف، والإيقاع، والتناص، والدلالة. ركز محمد مفتاح ، في تحليل قصيدة محمود درويش، على بنية التقريب(مقارنة وضع العرب في الأندلس بوضعهم في فلسطين)،والرمزية الصوتية، والبناء الموسيقي(تجليات الموسيقى المقامية والتناظرية والتوافقية والتسلسلية والتقليلية في القصيدة)، والبنيات الدلالية والرمزية. ومن بين الأمور التي توقف عندها في تحليل المكون الموسيقي نذكر ما يلي: * يقلد الشاعر التوليفات الموسيقية. * تتيح الموسيقى للشاعر إمكانات وفرصا متعددة لتنويع البنيات الإيقاعية. * يصرف اهتمامه عن الصخب الإيديولوجي والتعقيد والاصطناع ليولي أهمية قصوى لجوهر الشعر وتحالفه مع الفلسفة. انطلق محمد مفتاح، في مقاربة ديوان محمد بنيس، من افتراض وجود توحيد ووحدة عميقة (ما عبر عنه بالاتصالية) تقي الفرد من الانخداع بالتشرذم والتشظي الظاهرين. وبرهن على ذلك من خلال اللحن والإيقاع والدلالة مستوحيا عدته من علم الموسيقى. ورغم استثمار الشاعر لنغمات وطنينات موسيقية فهو ليس موسيقيا بالتعلم والاكتساب، وإنما استلهم القواعد الموسيقية بالفطرة والغريزة. وهي راسخة في دماغه يحينها، كلما اقتضت الضرورة ذلك، في نظم الشعر وتأليفه، وفي تعزيز الوحدة المتكثرة التي تبدد مظاهر العماء والفوضى والتشظي وتجلياتها في الوجود. يعبر ديوان محمد بنيس عن المضامين الثرة بشعر التفعلة الواحدة الذي يمكن تسميته بالشعر المعبور، وبتعدد التفعلات في الشعر المسطور، وبالمنثور المنصاف المرصوف، أو المشتت الأصوات المتشظي. وبعد أن حلل نماذج من المعبور والمسطور قارب مقطوعة من المنثور، وتوقف عند مشاكل الوقف التي تؤثر سلبا في إنشاد الشعر أو قراءته. وبناء على التحليل المستند إلى الإيقاع استخلص ما يلي: « في ضوء هذا يمكن أن يكون هناك تضافر بين الأوزان، والإيقاع، والتركيب ، والمعنى، لاقتراح أوقاف دقيقة تعتمد على المسافة الزمنية، وأوقاف تقريبية تستند إلى الجمل، والمعنى، ذلك أن الاعتماد وحده على الجمل إذا وجدت يبخس الشعر خصائصه، والاستناد إلى الإيقاع وحده يخل بالتواصل الذي هو هدف كل رسالة، ويعدم هوية الشعر فيصير كأنه مجرد أصوات منظمة شبيهة بموسيقى ما»(8). 7 - الآفاق: يفتح كتاب محمد مفتاح آفاقا متعددة للبحث العلمي مقترحا آلة صورية (مبادئ معرفية وتركيبية وتنظيمية وحركية) لإنجاز نظرية شعرية موسعة قادرة على تفكيك بنية النص الشعري المعقدة، واستخلاص كليات بشرية وخصائص نوعية منه، ومقاربة طبيعته ووظيفته وعلاقته بالعلوم والفنون. وفيما يلي بعض الآفاق التي يقترحها الباحث محمد مفتاح على غيره من الباحثين في مجال النقد والأدب والموسيقى والتربية قصد الإفادة منها ومناقشتها وتطويرها: * استند محمد مفتاح إلى منهاجية سيميائية عامة ومركبة (مشيدة على أسس العلوم المعرفية المعاصرة، ومستقاة من اللسانيات والشعرية وتحليل الخطاب لاقتراح نظرية أوسع تسعف على تحليل النص الشعري في شمولية ونسقية إلماما بمختلف عناصره القاعدية والأساسية من جهة، وتمكن من الكشف عن مكوناته العميقة والسطحية التي تجمع بينه والموسيقى من جهة ، وبينه والفنون الأخرى من جهة ثانية. وإذا كان محمد مفتاح، في مؤلفاته السابقة، يعير اهتماما كبيرا للشعر العمودي، فهو، في مؤلفه الجديد، اختار عينة من شعر التفعلة لشعراء معاصرين، مغاربة ومشارقة، للتدليل على استفادتهم، بدرجات متفاوتة، من الحقبة الموسيقية المعاصرة التي انبثقت ضمن العلوم المعرفية المعاصرة. ويتضح من التحليل أن محمد مفتاح ظل وفيا للنموذج الذي سبق أن اقترحه في كتابيه « تحليل الخطاب الشعري»(9) و«دينامية النص» (10) لمقاربة النص الشعري انطلاقا من المحورين الأفقي والعمودي اللذين يستوعبان عناصر جديدة، ويغيران مواقع عناصر أخرى أو يستغنيان عنها تبعا لخصوصية النص وتعقد بنياته. ويضطر محمد مفتاح في كل مؤلف على حدة إلى إضافة عناصر جديدة بحجة استحالة وجود نص أدبي نقي ( ما اصطلح عليه محمد مفتاح بالتفان(11، ووجود عناصر فوق تاريخية، وبالنظر، أيضا، إلى مقصدية المبدع ومحيطه وتفاعله مع الثقافة الكونية، وتقدم العلوم واكتشافاتها. * اعتمد محمد مفتاح ، على جري عادته، على النظرية الاتصالية لقياس انسجام النص على تماسك الكون واتساق مكوناته، وبيان أن كل ما في الوجود يستمد نسغه ودلالته بالتنظيم، وإبراز دور الموسيقى في تواصل الناس فيما بينهم، و في تغليب كفة التناسب والاتصال على كفة التنافر والانفصال واستند محمد مفتاح، في هذا المضمار، إلى فرض المصدر المندمج التركيبي المشترك لتعليل مدى تضافر مكونات الدماغ وفصوصه (ما يخزنه من تمثلات تركيبية وموسيقية ولسانية) في أداء وظائفها المشتركة رغم انفصالها ظاهريا. وهذا ما يتشخص في أفعال البشر الناجمة عن المصادر العصبية المسؤولة عن تنشيط التمثلات التركيبية المخزنة. وبعد أن شغل محمد مفتاح فروضا متباينة في صدقيتها ( مدى قوتها أو ضعفها أو هشاشتها(12 اقترح فرضا خاصا يقر بأن اللغة موسيقى. ويفضي التسليم بهذا الافتراض إلى أن الشعر موسيقى. إن استفادة محمد مفتاح من منجزات العلوم المعرفية المعاصرة ومكتسباتها جعله يمعن النظر في الصلات الدقيقة بين الفصوص الدماغية لإبراز دورها المشترك في حفز الإنسان على القيام بأفعال وحركات منسجمة، والانجذاب إلى اللغة باعتبارها موسيقى. وهو ما يندرج في إطار سعيه إلى تقدم المجتمع ، وحرصه على انسجامه وتماسكه درءا لكل الأخطار المحدقة والمفاجئة التي يمكن أن تفضي به إلى الفوضى والتفرقة والعماء. * استنتج محمد مفتاح من النظرية الشعرية الموسعة خلاصات تربوية تقضي بمعاودة النظر في البرامج التعليمية لتدارك نقائصها وسد ثغراتها بالمستحدثات المعرفية والعلمية الجديدة. ومن ضمنها نذكر ما يلي: - إن اعتبار الموسيقى أم العلوم، بما تتضمنه من أبعاد تربوية وتهذيبية وأخلاقية وعلاجية، يحتم إدماج حصص تعليمية في المنظومة التربوية يتولى تلقينها مختصون في الموسيقى. إن مثل هذا التجديد التربوي سيبعد العقم عن منهاج اللغة العربية، ويخلص العروض مما لحق به من تمحلات وتفريعات غير مجدية كالزحافات والعلل.« لقد أدى هذا الزعم إلى ما أدى إليه، وخصوصا التحجير، والتحجر، اللذين لا سبيل إلى القضاء عليهما إلا بنظرية تناغمية تجعل الهجانة، والتضاد، والتقابل، من مكونات الخطاب الموسيقي، ومن سبل إغنائه ، وإثرائه، وتفسح المجال أمام التمزيج بين التفعلات، والأوزان» (13) - تزويد المتعلم بمعلومات تتعلق بعلم الأعصاب وعلم التشريح وعلم الوظائف حتى يتسنى له تعرُّف أن الخطاب الشعري وليد مكونات دماغية متشابكة ومتصلة ( ما يدرك بنسق السمع والبصر، وما يخزن في الذاكرة)، وأن الشاعر مزود بمورثات تتفاعل إيجابا أو سلبا مع المحيط، فإما يعمل على تطويرها أو كبحها. * لم يحلل محمد مفتاح المكون الموسيقي فحسب، وإنما بين مدى تفاعله مع مكونات أخرى ( على نحو التخييل والتمثلات والتفان والموضوعات وحركات الشاعر..) لتبديد بلاغة غموضه، وتقريب معانيه العويصة من القراء، وبيان تفاعله مع الثقافات الكونية، وقدرته على المزاوجة بين الكليات البشرية والخصوصية الاجتماعية والثقافية. إن طبيعة النص المعقدة وتشابكه مع فنون أخرى حفزا محمد مفتاح على عدم التقيد بمميزاته البنيوية حرصا على بيان ديناميته، وسياقه التداولي، وخلفياته المعرفية، وعلاقته بالمبدع والمحيط، وتحاوره مع نصوص سابقة (التناص الداخلي والخارجي). وقد عمد ، سعيا إلى تحقيق أهدافه العلمية، إلى المزاوجة بين البعدين النقدي ( النقد المعرفي الذي يعنى بمضامين النصوص وتمثلاتها وتفاعلها مع نصوص وثقافات أخرى) والشعري ( شعرية موسعة تبحث في العلاقة بين اللغة (الشعر) والموسيقى والحركة) اعتمادا على مفاهيم سيمائية متجددة. الهوامش: 6 - محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية اللغة-الموسيقى-الحركة ، الجزء الثالث أنغام ورموز، المركز الثقافي العربي، ط1، ص 33. 7 - لعل ما يتبنى هو تجزيء الشعر العربي الحديث والمعاصر إلى أمدين بعيدين: أولهما أمد التفعلة التي صيغ فيها الشعر العمودي وغيره من الأنواع الأخرى ( على نحو الموشحات والأزجال والعاميات المختلفة)، وثانيهما حقبة (الشعثرة) و(النثيرة) و(الصواف). المرجع نفسه ص38. 8 - المرجع نفسه ص303. 9 -«استقينا عناصره من بنية شديدة التعقيد وهي الشعر، فأنواع الخطاب الأخرى غير المعقدة مثل النحو والفلسفة والفقه...وما شاكلها من ضروب الخطاب«العلمية» لا يعار فيها الاهتمام للعنصر الصوتي، ولكن المعجم واسترسال المعنى وخطيته ومنطقية التركيب تكون هي الأساس. ومعنى هذا أن العناصر الأفقية تختلف نسبة وجودها في فنون الخطاب، لأنها محكومة بالمحور العمودي(المقصدية -المجتمعية) أي أن المتكلم وحالاته العقلية المشعور بها(الرغبات والمعتقدات) وغير المشعور بها (النرفزة والاكتئاب اللامباشرين)، ومحيطه العام يوجهان فعله وعمله الكلاميين....وهكذا فإن العملية الكلامية بمختلف وظائفها تعكس مواقف الذات وأفعالها وحالاتها العقلية وتمثل في الوقت نفسه العلاقات الإنسانية المتفاعلة» . انظر محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري (استراتجية التناص)، ط2، المركز الثقافي العربي، 1986، ص 169. 10 - «على أن هذه المفاهيم جميعها هي عمودية بالنسبة إلى عناصر الخطاب الشعري التي هي : الأصوات، والمعجم، والتركيب، والمعنى والتداول. ولكن هذه العناصر ليست خاصة بالخطاب الشعري إذ كل خطاب يحتوي عليها، ولهذا ، فإننا ملزمون بإنجاز عملية فرز وبتحديد خصائص بنيوية مميزة لكل خطاب . وهذه العملية مستحيلة لعدم وجود أي جنس أدبي نقي، ولتحطيم المبدعين المعاصرين قيود الأجناس الأدبية ومواصفاتها، ومع ذلك ، فإنه لابد من التسليم بوجود خصائص فوق تاريخية تكون مرئية أحيانا ، ومحتاجة إلى استنباط أحيانا أخرى».محمد مفتاح، دينامية النص [ تنظير وإنجاز]، ط1، المركز الثقافي العربي 1987، ص 54.. 11 - نظرا لاستحالة استخلاص سمات مميزة للخطاب بدعوى انفتاحه على خطابات أخرى وتداخله معها. 12 - « اشتغلنا بفروض ، أحدها قوي يدعي أن كثيرا من قوانين الموسيقى ، وقواعدها، هي ما يحكم اللغة الطبيعية؛ ثانيها ضعيف يفترض أن هناك مصدرا عصبيا مندمجا مشتركا بين الموسيقى واللغة معا؛ وثالثها أضعف يسلم بكليات جامعة بين اللغة والموسيقى، لكن مواد كل منهما مختلفة عن الأخرى كل الاختلاف» محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية، الجزء الثالث، م.سا ص 321. 13 - محمد مفتاح، الجزء الثالث أنغام ورموز، م.سا ص346.