يعتبر كتاب مفاهيم موسعة لنظرية شعرية (اللغة-الموسيقى-الحركة) امتدادا للمشروع النقدي الذي مافتئ الباحث الناقد محمد مفتاح (الغزواني) يشيده سافا من فوق ساف سعيا إلى بلورة تصورات متقدمة وتنظيرات دقيقة لمقاربة الخطاب الأدبي بصفة عامة والخطاب الشعري على وجه الخصوص، واقتراح إطار فلسفي ونظري ومنهاجي أعمل وأشمل يخص « الشعرية الموسعة» التي تنهض على الثالوث (اللغة-الموسيقى-الحركة) باعتباره جذرا تتفرع عنه جذوع وأغصان وأفنان. ومما يبين أن محمد مفتاح حريص على ملاءمة مشروعه وتجدده وتطوره، علاوة على دعمه بالتقاطعات والتواشجات النسقية، إقدامه ، بجرأة الباحث المتواضع، على تدارك ما تخلله من أوجه التقصير، وعلى تعزيز مكامن قوته حتى يحقق مشروعه الأهداف المرجوة ويؤدي رسالته العلمية على الوجه الأمثل، وعلى بلورة آلة صورية قادرة على تحليل النص الشعري في شموليته، وسياقه التداولي، وعلاقته بالفنون الأخرى. 1-الاعتبارات: لما استقرأ الباحث محمد مفتاح جهوده العلمية منذ كتاب « في سيمياء الشعر القديم» إلى صدور« رؤيا التماثل» لاحظ أن القصور يعتري أساسا الفصول المتعلقة بالشعر، وهو يتجلى في قلة الإيغال في دراسة الإيقاع الشعري، وعدم الانكباب على الإلقاء والإنشاد (طاقة الحركة)، والعناية بالشعر التقليدي دون غيره من القوالب الشعرية الثرة والمتنوعة. لقد سعى محمد مفتاح في كتابه الأخير إلى تدارك هذا القصور مستثمرا المكتسبات المعرفية والمنهاجية المضمنة في كتبه السابقة، ومتسلحا بأنواع من الآليات الاستدلالية (على نحو الاستقراء والاستنباط والفرض الاستكشافي والمقايسة والتمثيل)، ومتوخيا توسيع النظرة إلى الشعر بطريقة نسقية وشمولية للإحاطة بمختلف مكوناته وعلائقه ووظائفه. ومن بين الاعتبارات التي تحكمت في إقامة تصور موسع لتلقي الشعر وتحليله نذكر ما يلي: * البحث عن المبادئ الإبداعية والأوليات التأويلية في إطار ما يقدمه العلم المعرفي المعاصر من أدوات علمية. * إعادة الحياة للقول الشعري بدراسة الحركات التوليدية، وإلإشارات المعبرة، وبالتنبيه إلى النغمات المطربة، والتنغيمات الآسرة في فضاء وزمان معينين. * توظيف المبادئ المشتركة بين الشعر وغيره من الفنون والعلوم. * الكشف عن سر الصناعة الشعرية بالانفتاح على نتائج العلوم الدقيقة مثل علم الأعصاب والتشريح ووظائف الأعصاب وعلم النفس وفلسفة الذهن والرياضيات والفلسفة ( الإرث الفيتاغوري والتاريخانية). * الإحاطة بكل التفاعلات الدماغية والذهنية والمحيطية التي تؤدي إلى الحركة والعمل باعتبارهما لبنتين أساسيتين لبقاء الكون وحياة الإنسان. وهذا ما يجعل الشاعر يتحرك وهو يكتب، ويهتز وهو ينشد، ويتحمس وهو يرى الاستجابة المشجعة؛ حركات الشاعر تكون لحنا تحكمه قواعد شبيهة بقواعد الموسيقى كدرجة الحركة، ومدتها، وحدتها، وتركيبها، ودلالتها، ورمزها(1). 2-المبادئ قدم محمد مفتاح، برهانا على أقواله، معلومات دقيقة عن النسق السمعي والحركي والبصري والذكري اعتمادا على مراجع علمية دقيقة وغنية بغية الاستفادة من فرضياتها ونتائجها في تحليل الخطاب الشعري،وتشييد تأويل على أسس نظرية وعلمية راسخة. وما يهمنا من استجلاء المبادئ المعرفية والحركية والتوليفية، دون التوغل في تفاصيلها ودقائقها ، هو استخلاص الخلفيات التي تحكمت فيها: أ-الاستفادة من العلوم: إذا كان العلماء يبحثون في مكونات الظاهرة قصد ضبط مكوناتها وصفاتها ووظائفها، فإن محلل الخطاب يمتح من مناهجهم وتحليلاتهم ما يسعفه في عمله ومسعاه. وفي هذا الصدد قدم محمد مفتاح (الغزواني) بعض التنظيرات القوية التي يمكن أن تُنزّل في ميدان تحليل الخطاب، وتدعم إمكانات التوازي والتناظر بين الظاهرتين العلمية والأدبية، وإمكانات قياس النص على الدماغ ومكوناته أو الدماغ ومكوناته على النص: أولى هذه التنظيرات ثلاثية دافيد ماز التي تتكون من مستويات متداخلة ومتدرجة (المستوى الطبيعي، ثم المستوى الإدراكي، ثم المستوى اللوغاريثمي) تقضي بتحليل المحسوسات إلى معانيها التي توجد في معاجم اللغة الطبيعية، وتحليل محتويات الرسالة والتمثلات الذهنية، وتبني منطق الدرجات والاتصالية في مقابل الثنائية الصارمة والانفصالية. وثانيها مقترح الفرضية المجزوئية ( نظرية ج.أ. فودور) التي تنطلق من افتراض تكون الدماغ من منطقتين مستقلتين عن بعضهما البعض. وتخلى صاحب هذه الفضية عنها أو كاد بسبب تعرضها لنقد شديد، ونتيجة الإقرار بفرضية الاتصال. وهو ما يتبناه محلل الخطاب لتعليل العلاقة الوطيدة والقوية بين الموسيقى ( تقع في الفص الأيمن) واللغة (تتموضع في الفص الأيسر). وثالثها مسألة التنبؤ التي تعتبر عملية تأويلية مفيدة لملء فرجات النص وإعمال الخلفيات المعرفية. ويجد محلل الخطاب نفسه ملزما على توظيف الذاكرة لبناء أطر أو مدونات أو نماذج ذهنية لفهم النص وملء فراغاته. ورابعها، مسألة السياق التي تقتضي وضع الشعر في سياق الجنس الشعري ونوعه وشكله عبر العصور والأحقاب والأمكنة والفضاء. ب-تضافر العلوم والبحوث الأدبية: توجد مبادئ مشتركة بين الشيء الفيزيائي والجسم البشري والنص الأدبي، وتصح المقايسة بين هذا الثالوث لاشتراكه في بعض العناصر المعروفة أو المفترضة. وبما أن علمي الفيزياء والإحياء متقدمان فهما يعتبران علمين أعليين يقاس عليهما النص الأدبي مع مراعاة خصوصيته. ومن تجليات هذه المقايسة أن النص الأدبي يعد خلية تشتغل وفق قوانين التكرار والتكثيف والتمديد والاستشراف، وتتشظى على مستوى الأحداث والشخصيات والزمن والفضاء والجنس الأدبي. ج-أهمية المحيط: يتوفر جميع البشر على نفس الملكات الحسية والإدراكية والمعرفية. فما سبب الفوارق بينهم أكانت قوية أم طفيفة؟ يحتكم محمد مفتاح(الغزواني) إلى المحيط الخارجي لما له من دور في تشجيع الملكات الفطرية أو كبتها. إذا كان ثريا وتفاعل أهله معه إيجابا تقدم المجتمع وازدهر؛ وإن كان مضعضعا وتفاعلت الساكنة سلبا معه تقهقر وارتد إلى الدرك الأسفل. ومن ثمة تكمن قيمة عمل الأشخاص وحركيتهم ومسؤوليتهم للنهوض بأنفسهم والتأثير في محيطهم اعتمادا على ما يتوفرون عليه من طاقات وإمكانات يشترك البشر جميعهم فيها. إن اختلاف البيئات والمحيطات يسهم في تنوع التجليات اللغوية والحركية والإبداعية. كما أن واقعه لا يمكن أن يزحزح عن الاعتقاد بوجود مشتركات إنسانية. وفي هذا المنحى اقترح محمد مفتاح مبادئ طبيعية (الحركة) وبشرية(السمع والبصر والذاكرة) وتوليفية(التوليف والتنظيم) لفهم مقاصد الإنسان وأنشطته وتحركاته وقدراته للتفاعل مع محيطه والتأثير عليه بهدف وضع حلول للتحولات العنيفة والكوارث وضمان التعايش البشري في وئام ومحبة. ومن ثمة يتضح دور الثقافة ( ومن ضمنها أساسا الموسيقى والشعر)، مع مراعاة المتغير والثابت، والفطري والمكتسب، ومرونة الأنساق الإدراكية، في انسجام الكون وتنظيمه،وتنمية ملكات الأفراد وتحسين قدراتهم على الإبداع والابتكار، وتكوين الإنسان الكامل بطرق تهذيبية متكاملة ( حسب لسان الدين بن الخطيب). د- التناول الشمولي أو النسقي: لا يمكن أن تفهم مكونات النص وعناصره إلا في علائق بعضها ببعض، وفي إطار شمولي ونسقي يقتضي البدء من الكل إلى الجزء، أو من الجزء إلى الكل، ومن نسق الأنساق إلى أصغر نسق أو من أصغر نسق إلى نسق الأنساق. ه النظام والاتصال: قد يتوهم الباحث أن النص متشظ ومتفرع إلى عناصر لا تربط بينها صلات معينة، في حين تتسم بتداخلها وانسجامها في بنيات متراصة. يعترف محمد مفتاح بوجود أشكال من الكوارث والفوضى والعماء لكنها مؤقتة وظرفية قبل أن تستقر على نظام متسق، وتنضبط لقانون عام يؤطرها ويعبد الطريق نحو مستقبل يرضي جميع الأطراف المتنازعة. 3-الإشكال: أدلى محمد مفتاح بدلوه لإضاءة العلاقة بين اللغة والموسيقى والشعر اعتمادا على نظريات ومقاربات لها سندها التاريخي والعلمي. وقام، بالنظر إلى تطور العلم، باختزال سيرورة هذه العلاقة في حقبتين أساسيتين وهما الحقبة التقليدية( من العهود الغابرة إلى المنتصف الأول من القرن العشرين) ثم الحقبة المعاصرة. ولم يكن هم محمد مفتاح التأريخ لهذه العلاقة وإنما تناولها في ضوء علوم العصر بصفة خاصة، وإبراز مدى امتثالها لنظرية التشاكلات بين كل ما في الكون. وهي انتقلت إلى العالم الإسلامي فتلقاها بعض بالقبول التام، وبعض بالتعديل والتكييف؛ إلا أن ما قبله الجميع هو العلاقة بين الشعر والموسيقى؛ وخير ما يمثلها كتاب « الأغاني»، وكتاب « كمال أدب الغناء»، حيث يجد القارئ تداخلا بين صناعتي الموسيقى والشعر؛ إذ يصوغ الشعراء قصائدهم على منوال القواعد الموسيقية، ويلحن الموسيقيون بحسب ما تقتضيه التقاليد الشعرية الراقية(2). وقد اسهمت هذه العلاقة بين الشعر والموسيقى في نهاية القرن التاسع عشر إلى إحداث تحول حاسم في الذائقة الموسيقية-الشعرية ، أفضى إلى انحسار القصيدة التقليدية وظهور قصيدة النثر والنثر الشعري المتحرر من قيود الوزن، وإلى الاعتماد على حاستي السمع والبصر حتى تكتسب القصيدة حيويتها من عملية الإنشاد والعزف، ويستثمر فضاؤها أشكالا متعددة مما كان له أثر في فن التشكيل. وما يعاب على الحقبة التقليدية اعتماد الشعراء والموسيقيين على الحدس والتفلسف أكثر من استنادهم إلى العلم الخاص. ومما تميزت به الحقبة المعاصرة هو استناد العلوم المعرفية (طب التشريح/ وظائف الأعضاء والعلوم العصبية/ علم النفس والأصوات) إلى أسس علمية راسخة قوامها ما يوجد في الدماغ من باحة خاصة بالموسيقى في الجهة اليمنى وأخرى خاصة باللغة في الجهة اليسرى. إن التحقيب المقترح غير مشيد على القطائع المطلقة إذ يوجد خيط رفيع يربط بينها«وهو البنية العميقة اللاواعية المتجذرة في الدماغ/ الذهن البشري؛ وعناصرها التفكير بالمقابل، والتجزيء، والتدريج، والتنظيم، والتوليف»(3). . ومما استنتجه محمد مفتاح من التحقيب أن الشعر العربي، من أقدم العصور إلى العهد الحديث، ظل يدور في فلك التصورات القديمة والوسيطة. ولما جاءت الحقبة الحديثة انفتح، بدرجات متفاوتة، على المستجدات الشعرية / الموسيقية الحديثة و المعاصرة. وهذا ما حفز محمد مفتاح على استيحاء المعطيات والمفاهيم الملائمة من إبدالي التوافقية/ اللاتوافقية لتحليل عينات من الشعر العربي المعاصر. 4 -النظريات الموسيقية: استند محمد مفتاح إلى أربع نظريات تبين العلاقة الوثيقة بين اللغة والموسيقى، وتتدرج من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الجزئي، وهي: النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية لراي جاكيندوف R.Jackendoff وفريد ليردال F.lendahl، ثم نظرية التعبير الإيقاعي، ثم النظرية الإيقاعية، ثم النظرية الموحدة. ومن غايات النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية، نذكر أساسا ما يلي: -تخليص الموسيقى من التقسيمات والتشتت وكثرة المقامات، وإحلال البنية التجميعية التي تنهض على التوليف والتحليل في آن واحد، أي الانطلاق من النواة فالخلية فالمكرورة.. فإلى المقطوعة، أو من المقطوعة فإلى القسم.. فإلى النواة(4). -وجود نواة بمثابة المنطلق والمنتهى، والإقرار بمهيمنة هي ذروة التوتر الذي ينحل بالرجوع إلى الأساس (الاستقرار أو الاسترخاء). -الاعتماد على علم النفس الخاص بدراسة الأشكال التي أثرت في كثير من النظريات المعاصرة ( مثل النظرية البنيوية ونظرية الأنساق ونظريات الاستعارة والنظرية الموسيقية) التي ترفض التعامل مع الظواهر على نحو مفرق ومشتت، وتدرس «جواهر» هذه الظواهر لاستخلاص الصفات المشتركة ( النظرية الظاهراتية). - العناية بالتحويل باعتباره مكونا أساسيا لتوليد محدثات عديدة من نواة صغيرة. و ما يهم مفتاح هو التحويل على مستوى البنيات السيميائية العميقة وعلى المستويات السطحية في النصوص الشعرية وفي القطع الموسيقية بصفة أساسية، وفي اللوحات التشكيلية للاستئناس والتمثيل. -اللجوء إلى الاستنباط (الإستراتجية التنازلية) لتفادي تحكم معطيات التجربة في التحليل. واستنتج محمد مفتاح من هذا الكتاب وجود علاقة وثيقة بين البنية الشعرية والبنية الموسيقية، إذ أن كلا منهما يتولد من نواة فخلية فمكرورة فموضوعة فمقطوعة فقصيدة وذلك على الرغم من اختلاف مكوناتهما وعناصرهما واستقلال بعضهما عن بعض. ويعد هذا الكتاب خطوة موفقة أولى في اتجاه إبراز ما يجمع بين الموسيقى والشعر، ولبنة اعتمد عليها باحثون آخرون للضرب على المنوال نفسه أو لتصحيح مكامن الخلل. وفيما يلي بعض الأسس التي استندت إليها النظريات الثلاث الأخرى لتأكيد العلاقة الوطيدة بين الشعر والموسيقى، وتعزيز ما دعت إليه النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية: - العناية بالمكونات الإيقاعية الثلاثة : أولها الوزن الذي يعد بمثابة الاستجابة الإيقاعية لنبضات مطردة في وسيط حسي ومتجذرة في الانتظام البيولوجي للكائن، وثانيها التجميع بوصفه عملية تجزئ النص إلى مجموعات صغيرة متراتبة ومتساوية، وثالثها التمطيط الذي يقر بتوفر كل جهة من جهات النص على ذروة الوصول/ الانطلاق البنيوي. - مقايسة الإيقاع الشعري على الإيقاع الموسيقي اعتمادا على مفاهيم منتقاة من نظريات متنوعة ، ومن ضمنها نظرية الاختزال الإيقاعي، ونظرية التجميع الإيقاعي، والنظرية الإيقاعية. وهذا مما أسهم في سد بعض النقص الموجود في النقد الأدبي الذي أهمل الترابط الحاصل بين الإيقاعين الشعري والموسيقي. - تأكيد جوهرية النواة الموسيقية التي تتولد منها اللغة. فهذه النواة تعد بمثابة عماد اللغة وقطب رحاها. وبمراعاة قواعدها يحصل تناسب الأصوات، وبإغفالها يحدث التنافر. - وجود ملكة عميقة تتحكم في النسق الإدراكي الذي يبحث في مبدأي البساطة والمشابهة. يُعنى بالبساطة القدرة على اختزال المعقد إلى عناصر بسيطة يسهل استيعابها، ويفيد مبدأ المشابهة ضم النظير والمماثل إلى صنويهما قصد حل مشكل الإبهام. - بيان دور السياق الثقافي واللغوي في تطوير الموهبة الموسيقية والحس الثقافي المرهف. - اقتراح قواعد التشكيل السليم للتجميع. ومن ضمنها المجاورة ( يجب على عناصر المجموعة أن تكون متجاورة) والذروة ( وجوب توفر المكونات الضعيفة على مكون واحد قوي) وسحرية العدد سبعة( توفر المجموعة على سبعة مكونات) والجذر( إن النص مجموعة منبثقة من شيء ما) (5). - تأويل حركات الشاعر يحتاج إلى التعرف على هندسة الدماغ/ الذهن. وتلعب الحركة دورا أساسيا في إيضاح معنى القصيدة. إن النظريات الموسيقية المعتمدة تجلي المبادئ الأربعة التي تهم نشاط الكائن البشري، وأداءه في الحياة، وقدرته على التوليف والتنظيم والإبداع ، وتقدم تصورات متقدمة ومتكاملة لتعليل الترابط الوثيق بين الإيقاعين الشعري والموسيقي، وإمكانية الدمج بين القواعد الشعرية والموسيقية لضبط إيقاع السواد والبياض معا. 5 -المنهاجية: يعتمد محمد مفتاح، في معظم أعماله، على مناهج متعددة سعيا إلى الإكباب على الظاهرة الأدبية في تعقدها وشموليتها من جهة وتشابكها وتعالقها بظواهر مماثلة من جهة ثانية. وهو ما نهجه في هذا الكتاب متوخيا اقتراح نظرية شاملة وعامة لمقاربة الشعر بطريقة شعرية موسعة (الآلة الصورية) تهم الثالوث اللغة- الموسيقى- الحركة، وتقوم على مبادئ ماورائية (المعرفة والحركة والتوليف والانتظام)، وتعتمد على تصورات ونظريات ومناهج مستقاة من العلوم المعرفية، وتمتح موادها وعناصرها من المكتسبات المعرفية والشعرية العربية والغربية قديمها وحديثها. وتستند هذه النظرية إلى المنهاجية السيميائية بدعوى أنها متجذرة في الطبيعة البشرية، ومتعالية على الزمان والمكان والأشخاص، وقادرة- بحكم استنادها إلى الأوليات المنطقية والرياضية-على استثمار مكاسب العلوم المعرفية ( بما تحتوي عليه من علم الأعصاب وعلم تحصيل المعرفة واللسانيات وفلسفة الذهن وعلم النفس وعلم الاجتماع) وتدبيرها على الوجه الأحسن. الهوامش: 1 - محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية اللغة-الموسيقى-الحركة ، الجزء الأول مبادئ ومسارات، المركز الثقافي العربي، ط1، 2010، ص20. 2 - محمد مفتاح، مفاهيم موسعة لنظرية شعرية اللغة-الموسيقى-الحركة ، الجزء الثاني نظريات وأنساق، المركز الثقافي العربي، ط1، 2010، ص/ص 40-41. 3 - المرجع نفسه ص48. 4 - المرجع نفسه ص69. 5 -فيما يخص تفصيل « قواعد التكوين السليم للتجميع» ، انظر المرجع نفسه ص/ص 105-106. تصريح الدكتور محمد مفتاح بخصوص إصداره الجديد: مفاهيم موسعة لنظرية شعرية «اللغة الموسيقى الحركة» «مبدئيا أشكر الاتحاد الاشتراكي، وخصوصاً القيمين والمهتمين بالشأن الثقافي. بالنسبة لمقاصد الكتاب، فهو «نحو التأسيس لنظرية شعرية جديدة. وللكتاب أبعاد متعددة، وعنوانه يشير إلى أحدها. والنظرية الشعرية المقترحة في الكتاب، تعيد الاهتمام بالمكتوب، وفي الوقت نفسه، تهتم بالمنطوق أيضاً، بمعنى أنها تعتني بالسواد والبياض والصوت والصمت في آن واحد. هذا جانب، والجانب الثاني أنها تهتم بأداء الشاعر من حيث إنه ينشد شعره في محفل من الناس، فيقوم بحركات، وهو ينشد، سواء كانت الحركات بيديه أو عينيه أو رأسه أو باقي أعضاء جسده الأخرى، فهذه الحركات للشاعر، هي بمثابة نص أيضاً، فهي قد تشرح وتفسر ما غمض في النص المكتوب. وبناء على هذا، فإن حركات الشاعر، هي نص يحتاج إلى استخلاص قواعده النحوية، كما تستخلص القواعد النحوية للنص اللغوي. البعد الثالث، هو أن أداء الشاعر يتم في مقتضيات أحوال وظروف معينة أولا من حيث الفضاء، هل هو قاعة أو مسرح أو مجرد غرفة، ومن حيث المتلقون، ما هي حيثياتهم، أهم شعراء أم مجرد أناس عاديين، أم هم سياسيون، معنى هذا أن الجمهور المتلقي، يكون له تأثير في أداء الشاعر، ومن ثم في تأويل القصيدة الشعرية. البعد الرابع، وهو أن المتلقين يمنحون معاني لما ينشده الشاعر كلٌّ بحسب مؤهلاته الثقافية ومعتقداته الإيديولوجية. وتأسيساً على هذا، فإن النظرية الشعرية الموسعة تهتم بالمكتوب وبالمنطوق أو بالصوت والصمت وبأداء الشاعر وبكيفية التلقي.وعليه، فإن المقاربة اقتضت اللجوء إلى علم الموسيقى، واتخاذه علماً أساسياً أو أولياً ليقاس عليه الخطاب الشعري، إذ أن الخطاب الموسيقى هو متقدم في دراسة الإيقاع والصمت، لهذا، فإنني اتخذته أصلا قِست عليه الخطاب الشعري،هذه ناحية. ومن أخرى، إن الشعر المعاصر أو بعضه على الأقل هو يحاكي بعض الرسومات وبعض الخربشات، لأنه أحيانا يكون عبارة عن أصوات مبعثرة وكلمات متناثرة، وبناء على هذا، فإن علم اللسانيات بكل تلاوينه لا يمكن أن يقارب هذا الشعر بفعالية، لذلك يجب الالتجاء هنا إلى علم الرسم والتشكيل. لهذا كله، فإن الشعر من حيث هو شعر يتداخل مع الموسيقى، ومع التشكيل ومع المسرح. هذا إذن هو معنى النظرية الموسعة. يتحصل مما تقدم أن ما أشرت إليه من نظرية شعرية موسعة، ليس إلا الجانب الجمالي، ذلك أن هناك أبعاداً أخرى، يهدف إليها الكتاب، منها ربْط التحليل الشعري بالتطورات العلمية المعاصرة التي تسمى الآن بالعلوم المعرفية، التي تقوم على تعاضد وتكامل العلوم المعرفية، التي تقوم على تعاضد وتكامل العلوم والمعارف، فمثلا نجد اللسانيات تتداخل مع الموسيقى، مع الاعتماد على علم الأعصاب والتشريح ووظائف الأعضاء، ذلك أن الشعار السائد الآن، هو أن كل شيء في الدماغ. ومن هنا صار يعتبر علم الأعصاب إبدال القرن الواحد والعشرين. لهذا، اقترحت في آخر الكتاب أنه يجب تقديم دروس في الدماغ ومكوناته، لأنه لا يمكن فهم الأطروحات اللسانية الحديثة إلا بمعرفة باحات الدماغ وجهاته و العلائق فيما بينها، ذلك أن أطروحة تشومسكي في اللغة قامت على افتراض الانفصال أو الاستقلال بين الباحات، مثلا باحة الموسيقى في الجهة اليمنى من الدماغ، وباحة اللغة في الجهة اليسرى من الدماغ. وإذا ما أخذ بهذا الاستقلال، فإنه لا علاقة بين الموسيقى واللغة، على أن هذا الفرض الاستقلالي، أعيد فيه النظر، وصار من قبيل المسلمات أن الباحات متداخلة ومتفاعلة في ما بينها بحسب ما أظهرته أنواع التخطيطات الديماغية. وبناء على هذه الفرضية الأخيرة، جعلت تداخلا قوياً بين الموسيقى واللغة، بل إنني غامرت وجعلت الموسيقى هي أصل اللغة، ولذلك اقترحت في آخر الكتاب أن يبتدأ بالتنغيمات لتعليم الطفل، بمعنى أننا إذا أردنا أن نحفظه القرآن الكريم نأتي له بقارىء مجيد يثير تلك الجذور الموسيقية المنغرزة في الدماغ، ذلك أن الدراسات المعاصرة تجعل للموسيقى دوراً أساسياً في صياغة الذكاء البشري. هذا بخصوص المعطى العلمي، وهناك بعد آخر يطرحه الكتاب، وهو البعد الإنساني، يتجلى في التركيز على النوى المشتركة بين البشر جميعاً، أو ما يعرف بالكليات الإنسانية، ومعنى هذا أن هناك أبعاداً مضمرة تدفع التعصبات والعرقيات والتطرفات. نأخذ البعد الثالث، وهو مراعاة الجهة الجغرافية، ذلك أن ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وما تفرع عنها، هي في العمق واحدة، لكن العوامل الجغرافية جعلت ثقافة تختلف عن أخرى في بعض المكونات، لكن لماذا التركيز على هذه الجهة؟ لنستنتج أن كانط، ديكارت، سبينوزا، اتجاهات الرومانسية هي أصول مشتركة، لكنها وجدت في بيئات أخرى هادئة كامنة، أي أن ليس هناك ما تقوله ثقافة عربية، ثقافة غربية، ونجعل هناك حواجز، إنما هي ثقافة واحدة من حيث منشأها.. وثقافة الغرب هي في التجليات وليس في العمق، لذلك يجب الانتباه الى الفضاءات الفكرية. وقد أكد كثير من الدراسات أن الصينيين لم يعرفوا المنطق الأرسطي سوى في القرن الرابع عشر، وأن الصين وما حولها، لم تعرف نظرية العناصر الأربعة، في حين أنها في ثقافة البحر الأبيض المتوسط أساسية. فإذن، لابد من مراعاة المشترك والمختلف بين الأمم، ولكن يبقى مكونات الإنسانية الأساسية متماثلة، ليس متطابقة، لأن ثمة دراسات معاصرة، تؤكد أن البشرية هي نتاج شخص واحد، قد يكون افريقيا، ولذلك، فلا عرقية، وإنما جُعلت الإنسانية شعوباً وقبائل لضرورة التنوع الجغرافي.».