هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء        الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب        أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر والمترجم جمال خيري ل «الملحق» .. لاوجود لترجمة وفية لأن الوفاء للأصل خانق

لا يُترجِم إلا مَا يقدِّم له جَرعَةً كافيَةً منَ المُتعَة. ولا يرَى إلى النَّص الأدَبي بوَصفهِ لغةً بمُسْتوياتها التركيبيَّة والنَّحوية والصَّوتية وحَسب، بل باعتبارهِ نصّاً بمَحمول اجتمَاعي وتاريخِي وَجغرافي...إلخ، أي باعتبَارهِ بنيَة ثقافيةً شامِلة؛ وهو مَا يُوجب على أيِّ مُترجم الإلمَام بالسِّياق الثقافِي للغتيْن اللتين يتحرَّك بينهُما. يَخلصُ الشاعرُ والمُترجم جَمال خيري، في هَذا المُقتطف مِن الحِوارِ، إلى أنَّ الترجَمة إعادَة كتابَة تمنحُ النصَّ أفقاً جديداً. كمَا يَتفاعل معَ أسْئِلة همَّت تحوُّلاتِ النَّص وَهوَ يعبُر منْ لغةٍ إلى أخرَى، مثلمَا همَّت مَوضُوعَ ارْتباطِ «الخِيانة» و»الوَفاء» بالتَّرجَمة وتفاصِيل أخرَى ضِمنهَا ترْجَمتُه لثلاثَةٍ منْ دَواوِين الشَّاعر عَبد اللطِيف الَّلعبِي...
n يبدو أنك صرت في السنوات الأخيرة مأخوذا، أكثر من أي وقت مضى، بترجمة الأدب الفرنسي. ونصوصك المترجمة التي تسنى لي أن أتابعها في عدد من المواقع، كانت على درجة عالية من العمق... أحب أن أسألك: على أي أساس تنتقي نصوصك، ثم ما هي درجة الوعي لديك بحاجة القارئ العربي إلى ما تقدمه له من ترجمات؟
pp النصوص التي أنتقيها، الشعرية منها على الخصوص، وأشتغل على ترجمتها، أو بالأحرى التجارب الشعرية التي أتقدم بها إلى القارئ العربي، تربطني بها علاقة عشق ومتعة. فالانتقاء، طبعا، يتم وسط ركام من التجارب/الدواوين، التي أتناولها بعد التنقيب عنها أو اكتشافها بلا توقع، بالدرس والاستفسار عبر القراءة، وبالعودة إلى قراءتها مرات أخرى مشدودا بما تركته فيَ من أثر مثير وسؤال ملحاح أو قلق.
وأظن أنني عبر تجربتي البسيطة في قراءة وكتابة الشعر، العربي منه والفرنسي، تمكنت من اكتساب وتطوير بعض الأدوات النقدية الانتقائية، وبعض المراس الحدسي الناتج عما أتمكنه من متابعة للحركة الشعرية، يجعلاني قد أتوفق (وهذا ما أرجوه) في اختيار ما يمكنه أن يساهم في سد حاجة القارئ العربي، أو على الأقل فتح شهيته، إلى معرفة تجارب شعرية متميزة وممتازة قد تبقى عنه بعيدة المنال بحكم الحاجز اللغوي واعتبارات أخرى غير لغوية. وكل هذا لا يتم بيسر في غياب ظروف مثالية للنشر.
ولا ننسى أنني قارئ عربي قبل أن أكون شاعرا أو مترجما. وموقعي ها هنا بفرنسا، وفي باريس بخاصة، يجعلني كما داخل مكتبة أنقب بين الكتب، فيما يبدو لي القارئ العربي خلف الزجاج يتفرج على ما يزين الواجهة.
n أتيت على ذكر عوائق النشر، وهذا الموضوع له شجونه، كما تعلم؛ دعنا نؤجل الحديث في هذا الموضوع، واسمح لي بسؤال إضافي بشأن الترجمة أصوغه كما يلي: هل تكفي المعرفة الجيدة باللغة لتحقيق ترجمة جيدة لنص ما؟ أم هل هناك متطلبات أخرى يقتضيها فعل الترجمة؟
pp إتقان اللغة (لغتين على الأقل) شرط محتَّم للقيام بترجمة نص ما. ومن نافلة القول إن الكتابة لا تتم إلا باللغة، وإن الترجمة في تعريف بسيط هي تحويل من لغة إلى لغة. نسمي الأولى اللغة الأصل، أي لغة النص الأصلي المطلوب ترجمته. والثانية، نسميها اللغة الهدف، بمعنى أنها لغة النص الذي نرمي إليه. ولهذا ننعته بالنص الهدف. ولكن المعرفة الجيدة باللغة، أو بالأحرى باللغتين لا تفيد في تحقيق ترجمة جيدة لنص ما. فالنص، وحديثي ها هنا عن النص الأدبي، ليس اللغة فقط؛ اللغة بمستوياتها التركيبي والصرفي والقاموسي (ولا نغفل كذلك المستوى الصوتي الذي لا يهتم به المترجمون إلا نادرا)، بل النص الأدبي يتجاوز ذلك إلى نطاق الدلالي/التداولي، الاجتماعي/الجغرافي، التاريخي/الحضاري، الفني/الجمالي. أي أن النص بنية ثقافية ولتحقيق ترجمته يلزم على المترجم أن يكون ملما بثقافة اللغتين. فالترجمة ليست تحويل نص ما من لغة إلى لغة، بل من ثقافة إلى ثقافة. إنها إعادة كتابة تمنح النص أفقا جديدا عبر وفي ثقافة أخرى. إنها إبداع ولا تكون جيِّدة إلا حين يبدو النص الهدف مبتكرا لدى المتلقي.
n صحيح، فالنص الهدف كما سميته، وللاعتبارات التي ذكرتها، يصير نصا بروح جديدة كما لو أنه كائن بذاته وليس مسنودا إلى نص آخر. لكن هناك من قد يستفسر عن مصير روح النص الأصلي. ما الذي تقوله بهذا الصدد؟
pp رغم أن هذا الاستفسار يكتسب مصداقيته من واقع الترجمة، فأنا لا أظن أنها تمنح لنص ما روحا جديدة. إنما هي تنفخ في روحه حيوية طريفة وتمنح لمادته نشاطا وتجدد دينامية أسلوبه. فروح النص هي الذات الكاتبة أسلوبها وتجربتها وعوالمها التي تُنبضُها لغته في ثقافة معينة. وهذا ما يلزم على المترجم ألا يغيبه عن ذهنه، فهو لا يترجم متواليات وتراكيب لغوية خارج ما تحتويه من سياقات تداولية وإحالات معرفية، اجتماعية وسياسية وتاريخية وما ترج به من إيحاءات وخلفيات بل يترجم كل هذه الحمولة، أي التجربة اللغوية الثقافية للنص وللذات الكاتبة. فهو إذن ملزم بمعرفة ما يقع خارج اللغتين من سياقات تداولية وإحالات معرفية وغيرها، وملزم كذلك باعتبار خصوصيات وخلفيات وتقنيات الذات الكاتبة وكلتا اللغتين.
فلنمثل للمسألة ببساطة: النص الأصل في لغته بين دفتي كتاب، يظل نصا مجمَّدا بالنسبة للقارئ الذي يجهل هذه اللغة. ودور المترجم هو أن يقدم لهذا القارئ في لغته تقريبا النص نفسه متحركا متدفقا. وأود ألا يُفهم من كلامي هذا أنني أقصد أن الترجمة نسخة طبق الأصل، ليس إلا.
إذن، وهذا غالب ظني، فلن يستفسر عن مصير روح النص الأصلي إلا الذي قدم له المترجم جسمانا هامدا لا بدنا متوهجا بالحياة. فالترجمة الجيدة هي التي تنسينا أن النص الهدف نسخة لا مشروعية لها إلا من خلال الأصل.
n عطفا على ما تفضلت به، أريد الإشارة إلى ارتباط مفردة «الخيانة» لدى الكثيرين بالترجمة، بل منهم من يراها «خيانة إجبارية» للنص طالما أن المترجم يكون أمام نظامين لغويين مختلفين مثلما ذهب إلى ذلك الكاتب الجزائري واسيني الأعرج؛ كيف تستقبل الكلام عن موضوع «الخيانة» التي يربطها أدونيس، خلافا لهؤلاء، ب»قاموس «الأمن» - النقيض المطلق للشعر» كما يقول؟
pp لفظة ترجمة تختلف معانيها من لغة إلى أخرى وتحيل على خلفيات شتى، حتى أنه يقال عنها إنها اللفظة التي لا تُترجم، أو التي لا تعد ترجماتها ولا تحصى. ولا ننسى أنها تحيل في اللغة العربية إلى السيرة وإلى التفسير إلى الإبانة والنقل... إلخ. ومقولة «الترجمة خيانة»، وهي لعبة لغوية، واردة في كل الثقافات، وما يزال البعض يبحث عن أصلها إن كان فعلا إيطاليا أم فرنسيا، لكن المتفق عليه أنها أتت من مقولة كَنَسِية لا علاقة لها بالترجمة فحواها «المرتد خائن» نعتا للمسيحيين الذين ارتدوا عن دينهم ودخلوا الوثنية خوفا من التعذيب في عهد الإمبراطور الروماني ديوكلتيانوس.
والذي يقوله السيدان واسيني الأعرج وأدونيس، يقوله غالب المترجمين في كل اللغات. وهو دفاع عن الترجمة عموما وعن ترجماتهم ونظرياتهم بخاصة، ثم هو دفاع عن النفس بحيث إن كلمة «خيانة» وفي كل اللغات كلمة انتقاصية قدحية جعلت كل المترجمين يسقطون في مأزق رد الفعل وإبعاد التهمة بغية الدفاع عن النفس وهذا أمر لا يفيد في معالجة الأسئلة الذي تطرحها الترجمة أو تُطرح عليها.
فلنعالج الأمر ببساطة: حين نترجم نصا من اللغة الفرنسية مثلا إلى اللغة العربية، فنحن نقلبه كتابيا. ننقله من كتابة تبدأ من يسار الورقة إلى كتابة تنطلق من اليمين. وننقله خطيا من حروف لغة أشكالها لا تشبه أشكال اللغة الأخرى بتاتا، وبصوائت وصوامت مختلفة. فنحن منذ البداية نغير في النص. هذه الاختلافات دليل على أن النص في لغته الأصل يدخل سلسلة من التحولات ليصبح النص نفسه غيرا لنفسه في آن عبر اللغة الهدف.
فهل يعقل أن نتحدث ها هنا عن الخيانة؟ ثم إن الخيانة لا تكون إلا بنقيضها، فلا يمكن أن نتحدث عن الخيانة بغض النظر عن الوفاء. فهل مقولة «الترجمة خيانة» تعني أن «عدم الترجمة وفاء»؟ النص المترجم مهما بلغت به درجات «الوفاء» في العلياء يبقى نصا آخر، كتابة جديدة وإبداعا جديدا. ويكفي أن نتناول أوفى وأصدق وأخلص وأنزه نص مترجم، أن نتناوله بالترجمة المضادة، يعني أن نعيد ترجمته إلى لغته الأصل وسنرى أنه سيصبح نصا مغايرا عن أصل أصله، نصا جديدا آخر. فالنص، أي نص، ليس لصيقا بلغة ما، بل هو محمول بها وهي مشحونة به.
في نظري ليس هناك ترجمة وفية وترجمة خائنة، وقد أجبت يوما عما يشبه هذا (في حوار أجراه معي الأخ محمد جليد عن صحيفة «أخبار اليوم» حول ترجمتي للشاعر عبد اللطيف اللعبي) قائلا إنني لا أظن أن ثمة ترجمة وفية، لأن الوفاء يقتضي منها أن تكون طبق الأصل، وهذا ليس بالإمكان، وليس المطلوب من الترجمة، بتاتا. الترجمة إعادة كتابة قد تفلح وقد تخيب. ولهذا فإن كان لا مناص من الحديث عن الخيانة، خيانة النص، فهي تكمن في الجهل بلغتيه وخلفياتهما السوسيوثقافية، الأمر الذي يولد الرداءة والركاكة والتزييف وتضع بين أيدينا نصوصا لا تنتمي إلى هذه اللغة أو تلك، لا أصل ولا هدف لها.
n عدم إمكان حصول ترجمة طبق الأصل، كما قلت، هذا ما يعتبره آخرون «خيانة»، لأن النص الأصلي وقد تحول إلى لغة أخرى يظهر بأبعاد أخرى جديدة، وقد ينزاح ويقول ما لم يقله النص الأصل...
pp بالفعل، فحين نقول إن الترجمة تفتح أفقا جديدا لنص ما، فهذا بعض مما نعنيه. أي أنها تقدمه في أبعاد لغوية أخرى بخلفيات ثقافية جديدة. الوقوف عند حرفية النص والتعلق بتلابيبه يخنقه ويجمده وهو خائنه الأول.
فالترجمة عموما مستويات ثلاث: الأول، ترجمة ظاهرية تلتصق بسطح النص وتطفو على حرفيته طلبا في محاكاته، وتظن نفسها أمينة بهذه المحاذاة لما هو مباشر شكلا ومضمونا في النص. فهي مثلا (مثلا بسيطا) لا حصرا، قد تترجم جملة «Ils sont revenus sur leurs pas» ب: «رجعوا على خطواتهم»، فهل فعلا هذه الترجمة الظاهرية أفلحت في توصيل الجملة الفرنسية بعربية سليمة إلى المتلقي العربي؟ هل نعتبرها ترجمة وفية لا لشيء إلا لأنها لزقت بحرفية النص؟ لا أظن. إنها كتابة بالعربية على نحو فرنسي.
المستوى الثاني في الترجمة، هو المستوى التوليدي، أي أنه نابع من قراءة متأنية متأملة للنص الأصل لغة دلالة وتداولا، ومتأمل كذلك في اللغة التي يترْجِم بها إليها على نفس الشاكلة أي لغة دلالة وتداولا. إنه مستوى الترجمة التي تريد نفسها عارفة، فهي تحاور النص وتتوقف على حيثياته وتتجاوز ظاهره إلى ما قد يخفيه كي تولِّدُه في اللغة الهدف باحثة فيها عما يضمن لها الجودة داخل اللغة والثقافة المترجَمِ بها وإليها. فمثلا هي قد تترجم نفس الجملة السابقة ب «رجعوا على أعقابهم»، وهذا تعبير عربي يفي بالمهمة.
ثم هناك المستوى الثالث وهو نوع من الترجمة التأويلية التي تأخذ كامل الحرية في التصرف بالنص، وتمضي أبعد من المطلوب أحيانا، أي أنها تضيف إلى النص ولعلها تشطب منه وتلغي، وأحيانا أخرى قد تحمله ما لا يتحمل. وقد تترجم نفس الجملة مثلا ب: عادوا خائبين»، وإنما هذه الترجمة، حسب ما يبدو لي، لضرب من المغالاة.
الترجمة تمر بمراحل معينة من الاشتغال تبدأ بقراءة النص الأصل مرارا لضبطه وسبر أغواره. وتنتهي بالعمل على النص الهدف بالتصحيح والتنقيح. وترجمة المحاذاة، أي الحرفية، ليست سوى بعض من مرحلة الاشتغال الأولى. إنها تشبه المسودة، إنها التصور المبدئي للنص، كتابة أولية، ما علمونا أن نسميه «وسخا» في المدرسة الابتدائية، ليس إلا.
n بعيدا عن الجانب النظري، اسمح لي بالوقوف عند إحدى تجاربك العملية الأخيرة، أقصد ترجمتك ل»الفصل المفقود، يليه حب-جكرندا» وهو أحد الدواوين الثلاثة الصادرة لعبد اللطيف اللعبي ضمن منشورات بيت الشعر المغربي لسنة 2015 في كتاب تحت عنوان «بستاني الروح»، ما تقييمك لما قمت به وأنت تترجم اللعبي؟ هل كنت أمام نصوص فرنسية شكلا ومحمولا ثقافيا أم أمام عمل أدبي فرنسي اللغة مغربي الروح؟
pp مَعْذِرَة لابد لي قبل أي رد من توضيح مسألة «الجانب النظري» فيما يخص الترجمة؛ فأنا لا أعتبر نظرية معينة بكلامي السابق، بل أعبِّر عن ممارستي للترجمة حسب تجربتي البسيطة في ميدانها، فعلا وقراءة. لقد زاولت الترجمة سابقا من حين لحين إما مضطرا حين كنت طالبا جامعيا وكانت جل المصادر والمراجع باللغة الفرنسية. أو طلبا في بعض المتعة حين كنت أقوم بتحويل بعض النصوص الشعرية لازدرادها باللغة العربية. لأنني كنت وها ما أزال أعتبر الترجمة لعبة ممتعة بحق. والممارسات الفتية التي قمت بها قبلا، أفادتني أولا في إعادة كتابة بعض قصائدي من كتاب «وكأني أحلتني حدود بلادي»، وإصدار ديواني «باتري-سيد» بالفرنسية. ثم، ومع الزمن والمراس أفادتني في تنميق طريقتي الخاصة في الترجمة، وهي عبارة عن مجموعة من الإجراءات تبدأ بقراءة النص الأصل مرارا وتسجيل ملاحظات عما يمكن تحميله وما لابد من تحويله، وتمر بمراحل أخرى منها البحث المعجمي والتحقيق التداولي وغيرهما إلى أن تنتهي بالاشتغال على لغة النص الهدف وجماليته. النظرية لا تصنع المترجم، إنما المراس المراس (والتشديد مني).
وبهذه الطريقة اشتغلت على ترجمة دواوين الشاعر عبد اللطيف اللعبي، ومن بينها الديوانين اللذين ذكرتهما، وقبلهما ديوان «منطقة الاضطرابات» عند صدوره (أي قبلهما) وهو منشور كاملا على صفحات المجلة الإليكترونية «قاب قوسين». وشعر عبد اللطيف اللعبي يتطلب الحذر والتأني، لأن لغته، التي تبدو بسيطة سهلة المنال، تخفي تصوره العميق للعالم والإنسان والأشياء. إنها لغة إيحائية وليست تصريحية، وكأنها (وفعلا أحيانا) تعتمد أساليب الحكمة والطرفة، وتجعل ترجمته ضربا من السهل الممتنع.
في الدواوين التي تناولتها بالترجمة، انطلقت مبدئيا من اعتبار شعر اللعبي شعرا فرنسيا فهو مكتوب باللغة الفرنسية ولا يمكن في نظري أن نفرغ لغة ما من خلفياتها، فاللغة ليست شكلا فقط وكلماتها ليست جوفاء بل مشحونة بحمولات سوسيو-ثقافية. والكتابة بالفرنسية ليست موجهة إلى القارئ العربي (المغربي على وجه الخصوص) بل إلى قارئ يمتلك نفس اللغة أينما كان، وكيفما كان فرنسيا أو غير فرنسي. وقد ترجمت شعر اللعبي وعيا مني أنه لا يصل إلى القارئ المغربي والعربي عموما. نعم هناك أسماء بعض الأمكنة المغربية تتخلل دواوينه من حين لحين، وبعض الإحالات إلى ما هو ثقافي مغربي، ولكن هل هذا وحده يضمن للنص مغربيته؟ أم أن هوية الشاعر المغربية هي الكفيلة بذلك؟
ومن جهتي كقارئ لشعر عبد اللطيف اللعبي، أرى أنه (أي شعره) يتجاوز هوية الانتماء الوطني أو الثقافي أو اللغوي إلى ما هو أبعد وأعمق. إنه شعر إنساني بامتياز. شعر الإنسان أينما وكيفما كان لا يضيق نَفَسَه بالمحليات أو الفولكلوريات، بل يسع الأرض وما ومن عليها وفي أجوائها وأعماقها. وهذا، أظنه آت من سيرة الشاعر نفسه، عبد اللطيف اللعبي شاعر قضايا الإنسان (الحرية، الكرامة؛ المساواة...إلخ) والذي عانى السجن والمنفى دفاعا عنها (...).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.