{ الأستاذ إبراهيم الخطيب، هل يمكنك أن تحدثنا عن نمو حس الترجمة لديك؟ لا أعرف ما إذا كان بإمكاني الحديث عن الترجمة باعتبارها ميلا ينمو. كل ما يمكن أن أقوله هو أنني تعلمت مبادئ اللغة الإسبانية وأنا تلميذ بالمدرسة الأهلية بتطوان، حيث كنا نتلقى المبادئ عن أستاذين أحدهما إسباني والآخر مغربي. وعندما التحقت بالتعليم الثانوي كانت لدينا عدة حصص أسبوعية نمارس فيها القراءة والكتابة الإنشائية باللغة الإسبانية أيضا. وأتذكر أنه في تلك المرحلة التعليمية طلب منا تعلم لغة جديدة هي الفرنسية فكان لدينا مجددا أستاذان امرأة من جنسية فرنسية وأستاذ من أصل جزائري لا أزال أذكر جديته وحرصه الشديد على تعليمنا النطق الصحيح. أما في السنة التحضيرية الممهدة لانخراطنا في التعليم الجامعي فقد تلقيت لأول مرة درسا في الترجمة من الإسبانية إلى العربية. وأذكر هنا أنني أهديت نسخة من كتاب » المرايا والمتاهات «، الذي ترجمت فيه بضع قصص لبورخيس، لهذا الأستاذ الجليل الذي لا أنسى فضله، وقد رحل عن دنيانا. كل ذلك لا يعني، بطبيعة الحال، أن تعلم لغة أجنبية أو لغتين يمكن أن يكون حاسما في الميل إلى الترجمة أو ممارستها. إنني أعتقد أن السياق الثقافي بما فيه هاجس الانفتاح على الغيرية هو الذي يكون حافزا على ذلك في نهاية المطاف. { مارست الترجمة لعقود، بعد هذه التجربة في ترجمة الأدب، الرواية، والنقد، ما هو الممكن والمستحيل في هذا النشاط اللغوي التأويلي؟ أعتقد أن الترجمة تقع موقعا وسطا بين الإمكان والاستحالة. هي عمل ممكن لأن االتواصل الإنساني أمر حيوي ومغن في نفس الوقت للوجدان والذاكرة والإحساس. وعمل بالغ الصعوبة، بل ومثبط أحيانا، نظرا لأن الزاد الثقافي للمترجم يكون في الغالب محدودا. والترجمة تحويل ثقافي بامتياز، أي أن المترجم عليه أن يحسن تمرير المعاني من لغة إلى لغة، وكذا تمرير الصور الثقافية المؤسسة لتلك المعاني نظرا لأن لكل لغة حمولتها من الصور الدالة على تجارب حياتية أو تاريخية أو اجتماعية أو نفسية. في تجربتي كمترجم، كنت أحرص دائما على مراجعة بيوغرافيات وسير الكتاب أو الشعراء الذين ترجمت إبداعهم، ليس فقط بهدف تتبع مجريات حيواتهم، وإنما لتبني الصور القابعة في خلفياتهم الثقافية. حدث لي هذا مع بول بولز وخوان غويتيصولو وبورخيس وريموند كارفر، إلخ. { قمت بمجهود خاص في ترجمة الأدب العالمي، إبداعا وتنظيرا،تودوروف، فلاديمير بروب، رولان بارث،خوان غويتيسولو،بول بولز، إدمون عمران المليح،هل منحت لهذه النصوص أبعادا أخرى؟ تلق آخر؟حياةأخرى؟ ترجمت الشكلانيين الروس، وبروب، ورولان بارت لأهداف نقدية محضة. لقد مارست النقد الأدبي في بداية مساري ككاتب انطلاقا من المصطلحات التي كانت متداولة بيننا، والتي استقيناها من مجال النقد الذي كان سائدا في الشرق. كانت مصطلحات تتجاور في حمولتها مفاهيم مستمدة من سوسيولوجيا الثقافة، ومن الإيديولوجيا التقدمية، ومن النقد الماركسي. تلك تأويلات كانت مجدية في حدود طبيعة النصوص الإبداعية التي تعودنا على التعاطي معها في ذلك الوقت، أي في ستينات وسبعينات القرن الماضي. لكني عندما انتقلت إلى الاهتمام بالأدب العالمي كقارئ، اكتشفت أن تلك المصطلحات لم تعد كافية، وأن هنالك مجالا نقديا يتطور في الغرب لابد من اكتشافه والاستعانة به. من هنا انطلقت قراءتي لما كان يسمى بالنقد الجديد. أي ذلك النقد الذي ينظر للأثر الأدبي ككل مكتمل وأن علاقته بذاته أهم بكثير من علاقته بما حوله. من هناك أيضا شرعت في ترجمة الأبحاث والدراسات النقدية التي تصب في هذا الاتجاه، وهي نصوص كنت أنشرها في بعض المجلات أو الكتب، كما كنت أستعمل مضامينها في التدريس بالتعليم العالي، وفي نقد بعض الأعمال الأدبية المغربية التي أتيح لي الاطلاع عليها، ووجدتها قابلة لمبضعي كناقد. إنه مسار يندرج في مجريات عملي ككاتب ومترجم في فترة محددة، وليس بإمكاني أن أدعي الآن أنني لا أزال كذلك، فقد جرت تحت النهر مياه كثيرة، وبما أننا لن نسبح في النهر مرتين، فأنا ولاشك الآن شخص آخر. { ماهي خلاصاتك الترجمية، إن شئت،الاقتراب من كيف تصنع النصوص؟ أم الاقتراب من السياق الحضاري ككل؟ لقد أشرت في إجابة سابقة إلى علاقة الترجمة بالسياق الحضاري للنصوص، او ما سميته الصور الثقافية. لكني أود هنا التركيز على شيء هام يتعلق بترجمة الإبداع، شعرا كان أو رواية أو قصة قصيرة، وهذا الشيء الهام يندرج تحت سؤال المقاربة. إنني أعتقد أن المترجم، في المجال الذي سبقت الإشارة إليه، يجب أن يكون ناقدا، بل إنني أرى أن الترجمة هي أعلى مراتب النقد الأدبي، فالمترجم، قبل الإقدام عل ترجمة نص إبداعي ليس مطالبا فقط بفهم معانيه أو معناه العام، إنما يتوجب عليه الوقوف وقفة تمعن عند بنيته، ومساراتها الخفية. ذلك أن النص الإبداعي ليس سطحا شفافا يكشف في لغته وسهولة ما يعتمل في باطنه، وإنما هو بنية ثخينة، تكاد تكون عمياء أثناء قراءة سريعة أو قراءة بدون بوصلة. لقد أشرت فيما قبل إلى أهمية الاستعانة بسير من نترجم لهم، لكن ذلك لن يكون وحده كافيا. فالمبدع بقدر ما يستمد صوره الثقافية من محيطه، بقدر ما يعمل على تحويلها عن طريق خلق مسافات ضمنية بينه وبينها. ثم إن الإبداع لا يعني الكتابة فقط استمدادا من الذات، وإنما المحاكاة، واللعب، ومعاكسة القارئ. في تجربتي كمترجم واجهت هذه الصعوبات أثناء ترجمة روايات خوان غويتيصولو وكذا قصص بورخيس، وخاصة على صعيد تراتبية المتن والعلاقة بين الملفوظ والمحذوف نظرا للغنى الكبير الذي يميز نصوص هذين الكاتبين. { يقال عن إبراهيم الخطيب إنه مترجم مبدع، خالق لنص ثالث، كيف تنظر إلى هذا التوصيف؟ هل أنا مترجم مبدع؟ في الواقع لا أملك الجواب على ذلك. وكل ما يمكن أن أقوله هو أنني لم أنظر في يوم من الأيام إلى الترجمة كتسلية بل كمسؤولية. مسؤولية ذاتية، فأنا لم أترجم إلا ما كان منسجما مع ذائقتي، ومسؤولية ثقافية، لأني لم أترجم لملء فراغ وإنما لتلبية حاجة ماسة، هي حاجة الانفتاح على الغيرية. من هنا فإنه ليس بمستطاعي تقييم عملي، إنما اترك لغيري فعل ذلك. { هل يتذكر إبراهيم الخطيب أول نص ترجمه، اللبنة الأولى التي جعلت منك مترجما رفيعا في البداية قمت بترجمة الشعر، أي أنني بدأت بالأصعب. كان ذلك استجابة عفوية لولعي بقراءة الشعر. قرأت للشعراء المغاربة والعرب، وكتبت عن بعضهم. كتبت عن المجاطي ومحمد الخمار الكنوني وأدونيس ونزار قباني وغير هؤلاء. قرأت ايضا قصائد لفولكنر و ريموند كارفر وبول بولز وبورخيس. أما فيما يتصل بالترجمة فقد نشر لي المرحوم عبد الجبار السحيمي في العلم الثقافي أوائل السبعينات قصائد للوركا ولشعراء سيرياليين فرنسيين، كما نشرت لي جريدة » الشرق الأوسط « قصائد لكارفر ترجمتها عن الإنجليزية. إنني أعتقد أن ترجمة الشعر تكاد تكون مهمة مستحيلة وفي نفس الوقت أرى أن تعقيد البنية الشعرية يساعد على التأمل والتأني قبل الإقدام على تحويل نص ما إلى لغة ثانية. بعبارة أخرى، إن المترجم يشعر إزاء الشعر بمسؤولية أكبر حيث لا يكون الفهم كافيا، بل لابد من إدراك العلاقات بين السابق واللاحق، والرمز والتلفظ.