خلال برنامج تلفزي حول المشتغلين ليلاً، عَرَضتِ القناة التلفزيونية الثانية المغربية مَشاهد حية من داخل ثكنة تابعة لمصلحة الوقاية المدنية. وأثناء ذلك، تَقدم أحد أفرادها في زيّه الرسمي بخطى ثابتة وانتصب أمام القائد المُستعْرض لصفوفٍ مِن رجالِه كانوا ينتظرون أوامِرَه فقال بصوتٍ مرتفعٍ (جدّاً) وهو يُؤدي التحية العسكرية: "لا شيء يُذكَر". ومع بعض التأمل في هذا المشهد التراجيكوميدي، ننتهي إلى أن عبارة "لاشيء يُذكَر"، المنقولة حَرْفِياً وخَرْفِياً عن الفرنسية، فيها اختزال مُركَّز ومُصيب للمشهد الترجمي على الصعيد المغربي. بمعنى، أوَّلا، أن ثقافة الترجمة من اللغة العربية وإليها بصفتها عملية حضارية ذات طقوس وأبعاد لا تزال هزيلة وقاصرة؛ وثانياً، أن ثقافة النص من حيث هي معرفة ضرورية في إطار الممارسة الترجمية قليلا ما تكون، لسببٍ أو لآخر، حاضرة بالمستوى المطلوب أو المنشود. فلما تأملتُ المشهد الترجمي بحثاً عن شيء يُذكَر، اسْتوقفتْني عِدة مَحطات، منها ما هو نظري ومنها ما يهم جانب الممارسة. لكن الانطباع العام الذي خرجتُ به، وهو انطباع يتقاسمه معي آخرون بكل تأكيد، لا يُبشّر بالخير طالما بقيتِ الترجمة حقلا يَصول ويَجول فيه العارف والجاهل بنفس الخطى والثبات، وتنال فيه الجوانب النظرية والتجريدية والتعميمية والانطباعية حصة الأسد، فيما تظل الجوانب العَمَلية والمقاربات التحليلية والإجرائية عريناً بلا أسد. الواقع أن لدينا العشرات من الأمثلة على وجود خَلل وثغرات جوهرية في البناء الترجمي المغربي (والعربي) اصطلاحاً وتنظيراً وممارسة، وعلى ضرورة صياغة إسْتراتيجية هادِفة في سبيل رفع العوائق وتأسيس أسباب المعرفة الجادة والاحتكاك النافع بالآخر من خلال الترجمة وبوساطتها. ولكي لا أكون تعميميّاً، أوْ تعميميّاً فقط، أقترح اصطلاحات تعريفية ابتدعتُها لوصف أصناف الترجمات السائدة في المغرب والعالم العربي، مع الوقوف عند بعض النماذج العَمَلية من بعض تلك الترجمات (الأدبية والفكرية). وقد تبنّينا في هذا الإطار صيغة "فَعْللة" ونحن نصل بين كلمة "ترجمة" وكلمة أخرى تُميِّز معها الصنف المعني عن غيره. 1. السَّرْجَمة: مصطلح يتكون من "سَرج" (أيْ كذب) و"ترجمة"، وينطبق على نقل ترجمة معينة ضِمنياً أو حَرْفياً دون الاعتراف بصاحبها...مع ادّعاء معرفة الأصل. فهذا مَثلا ناقد يجهل اللغة الإنجليزية ولكنه يحتاج إلى إبراز معرفته بالنقد الحديث وإلمامه بالنقد عند إدوارد سعيد. ماذا يفعل؟ يكتب موضوعه ويذكر في الهوامش عنوان الأصل بالإنجليزية بدل الترجمة التي اعتمدها. 2. النَّرْجَمة: مصطلح يتكون من "نرجسية" و"ترجمة"، ويشير إلى الترجمة التي لا يقبل صاحبها النقد أو التصحيح لأن أناه المترجِمة في ظنه فوق الجميع. كيف ذلك؟ يكتب أحدهم بموضوعية مُبرزاً ضعف الترجمة أو نقائصها فيردّ عليه صاحب الترجمة رداً عنيفاً يروم القذف والإيذاء أكثر مما يستحضر الممارسة الترجمية المحترمة. والمتتبع للأمور سيجد على صفحات الجرائد والمجلات العربية نماذج من هذه المناظرات الغريبة. 3. النَّفْجمة: مصطلح يتكون من "نفج" (أي افتخار المرء بما ليس عنده) و"ترجمة"، والمقصود به هي تلك الترجمة المنسوبة إلى الأنا رغم أنها من وضع آخر أو آخرين. وهذه الظاهرة معروفة في الأوساط الجامعية حيث ينجز الطلبة الباحثون ترجمة فيتبناها المُشْرف عليهم، بل وقد يُتاجر فيها بعد إسنادها إلى نفسه. 4. الجَرْجَمة: مصطلح يتكون من "جرج" و"ترجمة"، وهي الترجمة التي لا فائدة منها سوى الاتجار وأصحابها تخصيصاً هم جامعيون يتفرغون لها إلى حد بعيد على حساب البحث العلمي والأخلاقيات الأكاديمية. أمّا الترجمة التجارية البحتة التي ينجزها المحترفون فهي غير مَعنية هُنا. 5. "ترْجَمْجَمة"، حيث يتكون المصطلح من "جَمجمة" (أي عدم توضيح الكلام) و"ترجمة". التسمية تخرج استثناء عن صيغة "فعللة" وبها أشير إلى الترجمة التي تتضمن التحريف والتضليل وعدم الإفهام بسبب ثقافة المترجم القاصرة. فبعد عشرين سنة تقريباً من الانتظار صدرت الترجمة العربية (2000) لكتاب إدوارد سعيد الهام في مجال النقد: The World, the Text and the Critic. لكن أيُعقل أن يسنِد "اتحاد الكتاب العرب" (المسؤول عن نشر هذه الترجمة) عملا من هذا الحجم والأهمية إلى مترجم لا يميز بين الدال والمدلول (في اللسانيات)، وبين القوة والسلطة أو بين الكلام والخطاب (بالمعنى السوسيوثقافي)، ومعرفته بالنظريات الأدبية (الغربية) وبالمعجم النقدي والفلسفي محدودة حتى لا نقول شبه غائبة؟ وقد أبدع مُترجمنا حتى في العناوين فأصبح كتاب إدوارد سعيد Covering Islam عند عبد الكريم محفوض "دفاعا عن الإسلام" وانقلب كتاب ميشيل فوكوSurveiller et punir إلى "النظام والعقاب"، وهلمّ جَراً. 6. العَرجمة: هذا المصطلح يزاوج بين "العربية" و"ترجمة" ويشير إلى ترجمة نص أجنبي إلى اللغة العربية عن ترجمة وسيطة ثانية أو ثالثة أو رابعة وليس عن الأصل. وإذا بحثنا عن الأمثلة لم نجد لها حصراً، لكننا سنذكر ثلاثة نماذج، على سبيل المثال لا الحصر: الناقد الإيطالي أومبرطو إيكو والأديب البرتغالي فرناندو بيصّوا والكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكيّ. المُروّجون لإيكو والعارفون له في المغرب لا يعرفونه إلا من خلال اللغة الفرنسية والمترجمون لنصوصه ينطلقون من الترجمات الفرنسية. أما بيصُّوا فيُعْرَف ويُعرَّف به ويترجَم له انطلاقاً من اللغة الإسبانية. والمطروح هنا ليس جودة الترجمة عن لغة وسيطة، بل هذا الإصرار للترجمة من أجل الترجمة. ففي حال إيكو لا داعي مبدئيا لنقله إلى العربية ما دام المشتغلون في الحقل النقدي (اللساني والسميائي) لا يجهلون اللغة الفرنسية. وإذا كان واضع الترجمة يسعى إلى تقريب النص أكثر إلى القارئ بالعربية، فمَن يضمن له الدقة والوفاء في الترجمة الفرنسية التي يَنقل عنها؟ أضف إلى ذلك أن مثل هذه الترجمات (عن غير الأصل) عادة ما تتم سنين بعد صدور الأصل مع ما (قد) يترتب عن ذلك من ضياع للجهد إما لأن المتن المترجم قد عاد "عقيماً" أو متجاوَزاً من الناحية النظرية أو فقط لأن الباحثين قد اطلعوا على محتواه في الترجمة الفرنسية. وقد عرف بيصّوا نفس المصير، وإن كانت أهميته لدى القارئ المغربي وكثافة ترجمته لا تزال محدودة. فقد عوّدَنا المهدي أخريف على أنْ يترجم نصوصه (2001) اعتماداً على الترجمات الإسبانية التي وضعها آنْخِيل كْريسْبو. لستُ من حيث المبدأ ضدّ الترجمة عن لغة وسيطة، ولكني أعتقد أن لِذلك شروطاً وظروفاً خاصة، لعل أبرزها أن تكون لغة الأصل مجهولة أو شبه مجهولة بالنسبة إلى القارئ المغربي (والعربي) وبعيدة عن اللغة الوسيطة ، ويكون النص المترجَم من الأهمية (الثقافية) بمكان بحيث لا يمكن تأجيل أمر الإفادة منه. ولا أظن صراحة أن ترجمة كتابات بيصّوا عن الإسبانية قد راعت شروطا أو ظروفا تُذكَر، بل إنها خضعت لنزوة شخصية لا غير. وحينما تموّل وزارة الثقافة (والاتصال) بالمال العام مشروعا كهذا تصبح النزوة نزوتين. أما فيما يخص أنطونيو تابوكيّ، فتُشكِّل ترجمة أشهر رواية له Sostiene Pereira نموذجاً واضحاً وصارخاً لآفة الترجمة عن غير الأصل. وقد أنجزتْ روز مخلوف الترجمة العربية (1997) انطلاقا من الترجمة الإنجليزية التي تحمل Pereira Pretends عنوانا لها وجاء عنوانها العربي يقول: "بيريرا يدّعي". ولمّا كان فهم المترجم الإنجليزي غير دقيق لكونه جعل بيرايرا في ترجمته "يدّعي" بدل أن "يحْكي" أو "يرْوي" أو "يقول" فإنه عرَّض الرواية بأكملها لغير قليل من الضرر الدلالي والجمالي. نَذكر بأن كلمة Sostiene ، التي تتكَرّر في رواية تابوكيّ عن قصد مُمَنْهَج كل سطْرين أو ثلاثة تقريباً، تُعَدّ السر والمفتاح من أجل فهمها واستيعاب شحنتها السردية والبويطيقية. وإذا قرأنا الكلمة في سياقها الإيطالي وجدناها قريبة جداً على مستوى المعنى من عبارة "حدّثنا" في الحكي العربي، لكون بيرايرا يُحَدِّث ساردنا أو يتحدث إليه مثلما فعل قبله عيسى بن هشام مع سارد مقامات الهمذاني والحارث بن همام مع سارد مقامات الحريري. 7. الغَرْجَمة: هذا المصطلح يتكون من "الغَرْب" و"ترجمة" ويدل على الترجمة من اللغة العربية إلى لغة غربية لكن "من فوق"، أي وفق موقف استعلائي من الناحية الثقافية والحضارية. وسأسوق مثاليْن من بين أمثلة عديدة في هذا المجال، ويتمثل أولهما في مِلفّ خاص عن الشعر المغربي في مجلة إسبانية (أطلانطيكا، ع.22/ 2000) تُعْنى بنشر الشعر، بينما يتمثل الثاني في الترجمة الإنجليزية لكِتاب من التراث العربي الإسلامي ألفه آخِر مُوريسكيّ كَتب بالعربية. يتعلق الأمر بأفوقاي الحَجَري وكِتابه "ناصرُ الدين على القوم الكافرين" الذي ترجمه الأساتذة الهولنديين قاسم السامرائي وفانْ كونِنْسْفيلد وفيخَرْسْ (1997). قد تساعد ترجمة المتون العربية إلى اللغات الغربية تخصيصاً على توكيد خطاب المغايرة من خلال إضعاف أو تقليص هيمنة المركزية الأوروغَرْبية؛ كما قد تعمل على احتواء أصحاب المتون وخطابهم القومي عبر تبني أخطوطة تبتدع الفجوات الدلالية التي تحُول دون تحقُّق التغاير الثقافي والخطاب العابر للثقافات. فمثلما تكون القومية الخالصة أو المنغلقة عائقا أمام إنماء هذا الفرع من الخطاب، يكون الاستشراق من جهته مسؤولا عن إنماء خطاب يكرس الهيمنة الغربية عبر الاستطراد والتأويل الإيديولوجي عند تناول الخطاب العربي وفَرْض الأنا الغَرْبية على مضامينه ومفاهيمه. والاستشراق، كما هو معروف، نشأ في أحضان الترجمة التي ساعدت المستشرقين كثيراً على تأصيل خطابهم؛ بل إنهم عبَّدوا بها طريق الاستعمار أمام حكوماتهم. وإذا كانت الترجمتان المعنيتان هاهنا لا تستجيبان مبدئيا لنية استشراقية (كلاسيكية) فإننا نعتقد (مبدئيا كذلك) بأن أصحاب المشروعين لن يُقدِموا قطْعا على نقل مَتن من الثقافة الغَرْبية إلى إحدى لغاتها بنفس القدر من الجرأة واللامبالاة الذي أبانوا عنه عند نقل هذه المتون العَرَبية. تعتري ترجمة كتاب الموريسكي أفوقاي الحجري إلى الإنجليزية نواقص جمة فيما يتعلق بتأويل النص العربي؛ وهذا راجع أساساً إلى كون المنهجية التي تبناها المترجمون قد اعتمدت على الترجمة الحرْفية للكلمات وعرفت العجلة في تأويل المعاني، فجاء الأسلوب ركيكا والمعجم مقحَما والمضمون العام على قدر كبير من الخلل. أمّا بخصوص الأشعار المغربية فبقدر ما نثني على مبادرة المجلة "أطلانطيكا" بقدر ما نستغرب موقف المشرفين عليها من النقد المغربي حيث رفضوا أن يُقال إن في الترجمة أخطاء فادحة ومن بين المترجَم لهم أسماء غير شاعرة. خلاصة القول، يبدو أن أصحاب المبادرات الغَرْبيّين لترجمة النصوص العَرَبية إلى لغاتهم (المتحضرة؟) لم يعوا بعد الوعي الكامل والنهائي بما تحْمله مواقف الكثيرين منهم من ترفع واستعلاء ترفضه الأخلاق الإنسانية مثلما ترفضه الترجمة من حيث هي وساطة حضارية للتعارف والحوار والمثاقفة بين الشعوب. النص العربي له ثقافته مثلما للمترجِم الغَرْبي ثقافته، والترجمةُ الموضوعية لا تكون إلا بمراعاة حقيقة حقوق الطرفين. وفي ختام هذه المقالة، أود أن أقدِّم بعض الملاحظات (الأخرى) الخاصة بمجال الترجمة في المغرب والعالم العربي عسى أن نناقش محتواها وتُسهم في رفع بعض الخجل الذي تعاني منه الترجمة: - عبارة "الترجمة خيانة" ُردِّدت إلى حد التخمة وربما حان الأوان لنجتهد عِلميا ونبدع بعيدا عن هذا اللف البلاغي الأجوف. - الترجمة (الأدبية والفكرية) تتم في الغالب بدون مراجعة واضحة ومسئولة. - الترجمة في مجال الأدب قليلة وفي مجال النقد لا تواكب التقدم الحاصل على المستوى التنظيري. - الترجمة تتم في الغالب الأغلب عن الفرنسية، ثم الإسبانية والإنجليزية والألمانية غير أن الحصة المترجمة تظل في المجموع ضئيلة جدا. - الأعلام الأجنبية تنقل إلى العربية بصورة تشوه الأصل فنجد بورخيس بدل بورخيص وغويتسولو مكان غويطيصولو وبارت وسرفانتيس وتابوتشي وبيسوا بدلا عن بارط وثربانطيس وتابوكّي وبيصّوا، وما إليها من أمثلة. - الترجمة لا تتمتع بفضاء جامعي واسع وملائم تدرّس فيه كمادة حضارية على يد أساتذة يتمتعون بالتكوين والكفاءة الضروريين. - الترجمة تفتقر إلى العنصر النسائي، مع أن بابها مفتوح في وجهها، ولا يستدعي ولوجها تمييزاً إيجابياً ولا إجراء إدارياً أو سياسياً لكي تحصل المناصفة. وفي خاتمة الختام، لن يفوتنا أن نقول إن الترجمة ليست وسيلة حضارية فحسب، بل هي أيضاً مسؤولية حضارية. لذلك لا بد أن نستنكر المواقف الترجمية المنتجة لما يشبه ظاهرة/ عبارة "لا شيء يُذكر" التي، على بساطتها الظاهرية، تحمل في ثناياها الكثير عن وضعنا الثقافي مما ينبغي أن نصححه ونرد به الاعتبار إلى نصنا وتراثنا وهويتنا إزاء الآخرين ونصوصهم وثقافتهم. وفي كل الأحوال، الأمر في العمق يستدعي أن تتحول الترجمة لدينا إلى ثقافة جديرة؛ والأجدر، إلى ثقافة معافاة من مُركب النقص، ولدى الآخر (الغربي تخصيصاً) إلى ثقافة معفية من الاستعلاء تروم تأصيل الحوار الحضاري البناء عبر قراءة مسئولة في ثقافة النص الذي يُنتجه الآخر. *أكاديمي ومترجم