ليس من الغريب أن يرتاد الباحث عبد الكبير الشرقاوي مفاوز مثل هذا الموضوع، وهو المهووس بالترجمة والمولع بها إلى حد لا يمكن للعقل أن يتصوره، فهو من خلال هذه الشرفة، لا يحس بأنه يقدم نماذج ثقافية جديدة للثقافة العربية فحسب، بل يشعر بأنه يدافع عن اللغة العربية، وهي في أحلك فتراتها تأزما وتحديا. ولعل تجربته الكبيرة في مجال الترجمة وتمرسه على اجتياز دروبها الوعرة واكتساح مسالكها الخطرة، جعله يفطن إلى بكارة الموضوع الذي تناوله في هذا البحث، الذي يعد بحق مغامرة في دنيا الكشف. وقد ارتاد عوالم هذا الاستكشاف المحاط بالغرابة مسلحا بخبرته المتعددة وجرأته واتقاد حسه البحثي. وإذا كان، في كل مرة، يطل علينا من خلال ترجماته بنماذج فريدة تكون الحاجة إليها شديدة في ثقافتنا العربية، فإنه أيضا، من خلال بحثه هذا، يسلط الضوء على قارة مخيفة يتحاشاها الباحثون لوعورة مسالكها وقلة الزاد أثناء العبور إليها، فهذا الحقل لم يعرف مخاطرات سابقة، من جهة، ولم يتحدد، بعد، بوصفه منهجا واضحا يُتكأ عليه. وفوق ذلك كله، ليست هناك عدة قوية يمكن الاعتماد على صلابتها لاقتحام عقبات الموضوع الفتي. غير أن عبد الكبير الشرقاوي، بعناده البحثي وصلابة تصميمه وصرامة منطقه العلمي، أقوى من كل عاصفة للتردد، وليس يستند في ذلك سوى إلى ما اقترفه من رحلات مقامرة في مجال الترجمة والتعريب والنقل إلى اللغة العربية من لغات أخرى وثقافات أخرى، خاصة ما يتعلق باللغة الفرنسية. وبهذا يكون هذا الكتاب، الذي صدر عن دار توبقال في حلة بديعة، الجزء الأول من ثلاثة أجزاء، تقاسمت مسار هذا البحث، وقررت حكاية حياته التي لن يقبرها الورق، والتي سرعان ما سيطفح بهارها في رؤى الباحثين. وقد اتخذ البحث، من أجل إرساء معالم شعرية للترجمة، نموذج الملحمة اليونانية في الأدب العربي، بوصفها إحدى الظواهر الثقافية التي ارتحلت بقوة من النسق الثقافي اليوناني إلى النسق الثقافي العربي، بواسطة الترجمة، حتى إنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من هذا النسق. وتشكل الكتاب من قسمين، القسم الأول: يتضمن فصلين، والقسم الثاني جاء في ثلاثة فصول، إضافة إلى مقدمة للباحث؛ ومدخل توقف من خلاله على مجموعة من المفاهيم الاستراتيجية التي سيحتاجها المسار البحثي. ففي المقدمة، عمد الباحث إلى الوقوف على الدواعي التي جعلته يختار هذا الموضوع بالضبط، دون غيره، منبها إلى ما تكبده من مشاق مادية ومعنوية، تمثلت بالأساس في شبه انعدام تام للعدة المنهجية والأداتية والموضوعية التي يمكن الارتكاز عليها لولوج عتمة المسلك الذي يتحصن فيه الموضوع، مبينا الآفاق التي مهدت له سبل هذا الاقتحام، والغاية التي رسمها من خلال مناورته البحثية هذه. أما المدخل فهو الآخر احتوى على ثلاثة فصول: الأول في نقد الترجمة، والثاني في مقاربة أولى لمفهوم الترجمة عند العرب، والثالث في تعريب الملحمة، والرابع في تعريب مصطلح «ملحمة»، في حين أن القسم الأول تضمن فصلين: الأول في سيرة هوميروس والثاني في شعر هوميروس، أما القسم الثاني فيتوفر على فصول ثلاثة: الأول في مفهوم النوع الملحمي عند أرسطو، الثاني في ترجمة أبي بشر بن متى بن يونس لكتاب فن الشعر ومفهوم الملحمة الأرسطي، والثالث في شروح الفلاسفة على كتاب فن الشعر ومفهوم الملحمة الأرسطي. ويحدد الباحث أهداف مغامرته البحثية هذه بقوله: «فتاريخ الترجمة الأدبية العربية لم يكد يكتب بعد، وكثير من صفحاته لاتزال مطوية رغم إشراقها، والهدف الثاني هو استكشاف مناهج وطرائق تحليل الأدب المترجم، الذي رغم انتسابه إلى النسق الأدبي، فهو مع ذلك ذو خصوصية نوعية في منشئه وإنتاجه وتلقيه تستدعي طرائق تحليل نوعية خاصة ضمن النص الواصف الكبير الذي موضوعه الأدب، والهدف التالي، الذي هو غاية البحث وخلاصته، سيكون إيجاد شعرية الترجمة بوصفها نظرية عامة لتحليل الأدب المترجم، وتشييد خطاب واصف يحيا على المراوحة الدائمة بين الممارسة، التي هي جوهر الترجمة والنظرية، التي بدونها تفقد الممارسة الترجمية إحداثياتها ووعيها بذاتها. وشعرية الترجمة بهذا الوصف هي مشروع وحلم أكثر منها حقيقة قائمة». وقد اشتغل الباحث، في مسار بحثه هذا، بنصوص ناتجة عن عمليات نقل وتعريب وترجمة لنصوص ملحمية أو ذات صلة بجنس الملحمة من آداب غير عربية، وسيكون موضوع هذا البحث «دراسة تعريب هذه النصوص وطرائق صياغتها النصية وأشكال اندراجها في النسق الأدبي العربي أثناء فترة تاريخية تمتد من بدايات الحركة الترجمية عند العرب بعد الإسلام حتى نهاية القرن التاسع عشر». وقد أشار الأستاذ عبد الكبير الشرقاوي إلى أنه طيلة هذه الفترة الهائلة من الزمن، لم يصلنا إلا نزر قليل من الأعمال الملحمية المترجمة، والتي ضاع أغلبها ولم يتبق منها سوى بعض النتف القليلة من الشواهد والنماذج المختصرة. ولعل هذا العامل كان من العوائق التي اعترضت سبيل البحث وجعلته يعاني الأمرين قبل أن يخرج إلى حيز الوجود، وكما هو معروف، فندرة المادة المشتغل بها أو ضعفها أو ضياعها يشكل أهم العقبات أمام الباحثين، ويجعلهم عاجزين عن إعطاء تصور ثابت وكامل وعام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كانت تنتصب أمام الباحث عقبة هامة أخرى وهي انصراف المترجمين العرب الأوائل إلى ترجمة العلوم والفلسفة والمعارف المرتبطة بها، مع إغفال ترجمة المعارف الأدبية والنقدية إلى اللغة العربية. دون أن ننسى ضعف الترجمة الأدبية لدى العرب، كل هذه الأسباب تضافرت، حسب الباحث، لتترك فراغا مهولا في هذا الجانب. إن النصوص المترجمة إلى العربية ذات وضع خاص فهي نصوص منقولة إلى العربية وتدخل النسق الثقافي العربي بشكل فرعي. وقد تصبح في فترة ما مهمة وجوهرية، لذلك ف«الأدب المترجم يستدعي ويستلزم حقلا تحليليا خاصا يمتلك موضوعه ومناهجه في البحث يمكن تعيينه بمصطلح نقد الترجمة أو النقد الترجمي، وهو مجال من البحث العلمي لما يتجاوز مرحلة الولادة والتأسيس، وماتزال حدوده بعيدة عن الثبات والوضوح». وهذا يدل على أن هذا النوع من النقد، الذي يختص بتحليل النصوص المترجمة، يوجد على تخوم حقلين مختلفين: النقد الأدبي بمعناه الواسع وعلم الترجمة. ولا يمكن للنقد الترجمي أن يستقل بذاته وموضوعه ومجاله المعرفي إلا بإيجاد منهج ملائم وجهاز مفهومي واضح، وسيرورات إجرائية ومراسيم بحثية خاصة، غير أن هذا متعذر الآن مادام هذا النموذج النقدي في بداياته الأولى ولا تزال المناهج المقترحة لدراسة الأدب المترجم مجرد خطاطات ومشاريع وتصورات تعوزها تجربة راسخة وطويلة الأمد. وقد وجد الباحث نفسه موزعا بين النصوص المترجمة للملحمة وتحليلها ودراسة نسقها البنائي والفني والخطابي والتداولي، وبين إيجاد منهج نقدي للترجمة ومعضلاته النظرية والتطبيقية. وقد صادف الباحث، أثناء مزاولته لهذه التجربة الحلوة /المرة، عبئا آخر وهو اتساع حقول البحث وتداخلها الناجمان عن إهمال الباحثين وإغفالهم لموضوع تعريب الملحمة ونصوصها المترجمة، وضياع دراسات في نقد الترجمة، وقد كان لهذا الاتساع أثر دون شك على صرامة المنهج ودقه وسائل البحث، وهو أمر لا بد منه بالنسبة إلى حقل بحث بكر مثل هذا.