الترجمة فعل كتابة ينتج عن قراءة، وهي ليست فعل نقل أو وسيلة عبور بين لغتين. فالمترجم ليس جسراً. الجسر ضعيف الحضور في الترجمة، ذلك أنّه مساعدة ناقصة العبور، كمدفأة ناقصة الدفء. تقتضي ترجمة الشعر استبدالاً وتحوّلاً؛ اِستبدال دور المترجم من ناقل ثمّ تحوّله إلى شاعر. يقول إدمون كاري: «تعتبر ترجمة الشعر عملية شعرية في المقام الأول، إذ على المترجم أن يهتدي إلى معرفة كيف يبدو كشاعر». يُشبه الجسر مفهوم التسامح، الذي يُشيع التعايش دون القبول بالآخر على سجيّته، بينما مفهوم القبول، الذي يقابل الترجمة، يعني استضافة الآخر وتكريمه، موافقاً حسناته وسلبياته كلّها. يضع دريدا الترجمة باعتبارها «ضيافة الغريب»، خلافاً لما لاحظه أوغست شليغل عن الفرنسيين الذين «يتصرفون بشكل ينمّ عن رغبة في جعل كلّ غريب عن ثقافتهم يتصرّف ويلبس وفق معاييرهم الخاصّة». في كتابه الموسوعيّ عن الترجمة «حصّة الغريب/ شعريّة الترجمة وترجمة الشعر عند العرب»، ترجمة محمد آيت حنّا، «منشورات الجمل»، يدرس كاظم جهاد مفهوم الترجمة وفقهها متقصيّاً آراء الفلاسفة والشعراء الذين اشتغلوا في منجزها من هايدغر وهولدرلين وغوته، إلى دريدا «فيلسوف الترجمة»، مروراً بالكتّاب العرب في العصر الوسيط، الجاحظ والتوحيدي والجرجاني، والمترجمين في العصر الراهن. الترجمة فعل تحويليّ. يقول غوته: «الكيان الذي لا يشهد أي تحوّل يصير إلى زوال». يتجرّأ جهاد ويّوسع ميدان الترجمة من الأدب المكتوب، إلى ترجمة الصورة في الفن التشكيلي، عندما يستشهد بالشاعر الفرنسي ميشيل دوغي: «يمكن أن نفهم من الترجمة معنى الاستذكار واستعادة الذّاكرة داخل لغة مّا؛ إنه الجهد الذي نبذله في سبيل الذّهاب نحن أنفسنا شطرَ ماضٍ مّا، وجعل هذا الماضي نفسه يخطو في اتجاهنا. وذلك بالشكل نفسه الذي قد ينتهجه بيكاسو في التصوير، حين يذهب بنفسه شطر بيلاسكيث أو دولاكروا عبَر استدعائه أو ترجمته (لهما داخل لوحاته)». وعليه فإنّ بيكاسو كان يترجم أعمال دولاكروا في رسوماته، أي يقرأها ويُحوّلها إلى اتجاه تشكيليّ. الترجمة ليست نقلاً لغويّاً، ما يعيبه المؤلف على أدونيس، إذ تفتقد ترجماته لبونفوا وبيرس بحسبه فعلَي القراءة والتحويل، ولم يبدُ ذا دراية كافية بلغة الآخر وشعريّته، وهذا في اعتقادنا قريبٌ ممّا يقصده عبد الفتاح كيليطو في حديثه عن ابن رشد، لمّا فهم الفيلسوف مفهومي التراجيديا والكوميديا الإغريقيّين على أنهما المديح والهجاء السائدان في الثقافة العربية. وهكذا ضاعت فرصة التقاء الأدب العربيّ بالإغريقيّ. إنّ خوض الفلسفة في الترجمة يخلّصها من مفاهيم تقليدية مقنّنة على الخيانة، فتقترح «الخيانة المزدوجة، التي لولاها، لا توجد ترجمة ولا إبداع»، وذلك بمعنى سنأتي إليه، كما تناقش الفلسفة الترجمة بوصفها كتابة إبداعية ذات مفاهيم جديدة: «هل الترجمة نسخة ناقصة عن أصلٍ لا يمكن تقليده، أم هي صورة جديدة لنصّ هو نفسه غير مكتمل؟». إذاً، تتبادل الفلسفة والترجمة إمكانات التفاهم والإنقاذ، لذا، يُفرد جهاد فصلاً هو الأهمّ في كتابه، وهو مخلّص الترجمة من السطحية، عنوانه «الفلسفة والترجمة». إنه غاية الكتاب وجوهرالفعل الترجميّ. إذ يحقّق الوضوح-التفاهم، ويصون الترجمة من المفاهيم القديمة البالية، أي ينقذها. وهكذا، تخفّفت مهمّة الكاتب لاحقاً، فاتّجه عمودياً، إلى موضوعه الأساس: «شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب». عندما يتناول المؤلف ترجمات بعض الأدباء العرب المعاصرين من أمثال سعدي يوسف، خليل الخوري، فؤاد رفقة، بدوي وأدونيس، يشتغل على نقد الترجمة بعيداً من الخيانة. يتقصّى أساساً مثول الفعل التحويليّ أم لا في ترجماتهم، فهو يكون قريباً من مفهوم الخيانة المزدوجة بالمعنى الذي طرحه عبد السلام بنعبد العالي، معنى السّعي إلى زحزحة كلتا اللّغتين، المترجَم عنها والمترجَم إليها، ليتحقّق اللّقاء. إنّه يُعيب على المترجمين تجاهلهم حتّى في لغتهم العربية مثول هذا الفعل الذي يسبّب غيابه ضعضعة العمل الإبداعي، ويجعله محصوراً في فهم المترجم ذاته، منغلقاً من دون اكتناه عالم اللغة المترجمَة. بعبارة أخرى، ظَلَّ أفق المترجمين عربياً ولم يستفد من اللغات المترجَمة، الفرنسية أو الانكليزية، بل وأفقروا أحياناً حتى أفقهم العربيّ، فلم يخضعوا إلى صفة «بلبلة الألسن» واجتهدوا أن تظل ألسنتهم صافية غير مزدوجة. يقول رودولف بانفيتز «إنّ أحسن ترجماتنا تنطلق من مبدأ خاطئ، وهي تزعم إضفاء الطابع الألمانيّ على السنسكريتية والإغريقية والإنجليزية بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعاً سنسكريتياَ وإغريقياً وإنجليزياً». الجدير ذكره، ابتدأت الترجمة الكتابية من تاريخ بلبلة الألسن في بابل، من حاجة التفاهم وايواء الآخر. الترجمة إيواء. لكنّها كفعل تحويليّ، ابتدأت منذ وجود الإنسان على الأرض، فها هو قابيل يتعلّم من الغراب أسلوب دفن أخيه هابيل، إذ استطاع تحويل فعل المشاهدة إلى نتيجة أرضية ذات صلة بالنظر. ما قام به الغراب يماثل النّص، والدفن يماثل الترجمة. الترجمة حاضرة في التداول اليوميّ أيضاً، «يترجم الأقوال إلى أفعال». العرب أكثر الأمم حفظاً للشعر، إنّ حفّاظ الشعر هم مترجمون، لأنهم يقرأونه أولاً، ثمّ يحفظون منه ما ينقص ذواتهم، ما يفتقدونه عاطفياً ورؤيوياً. فلا تُحفظ الأبيات الجميلة كلّها وإنّما فقط تلك التي تناسب القارئ بعد ترجمتها روحيّاً. وتماهياً مع مقولة بنيامين: «النصّ يستمرّ في الحياة بفعل الترجمة» يمنح الحفظُ الشعرَ الحياة، ويحُلّ حفّاظهُ وحدهم دون قارئيه محلّ المترجمين. حتى فعل الاستنساخ محمود في الترجمة، مثل فعل الخيانة. الترجمة خيانة اللاخيانة، بتعبير أدقّ هي خيانة الخيانات، أو كما يقول بورخيس»خيانة الأصول» فالنصّ متلبّس بآخرين قبل مؤلّفه، وهذا اللّبس يحفظ استمراره، مثلما يعمّر طويلاً الجلد الأسمر بفعل تلّبسه أشعة الشمس بخلاف الجلد الأبيض الخالي منه. يُبعد دريدا الخيانة العمودية الأخلاقية جاعلاً منها خيانة أفقية تمتد إلى النصوص قبل كتابتها: «يا له من ديَن عجيب لا يَدين به أحدٌ لأحد»، بمعنى خيانة لا أحد. اِرتبط مفهوم الاستنساخ بالذمّ في الثقافة العربية، المؤثرة لمفهوم المبيّضة على المسوّدة. لأنها ثقافة تجنح في الوقت الراهن إلى المطلقيّة كي تُتمّم ما بها من نقص، بعكس التراث، الذي استنسخ ثقافة الأمم، وأعطى صفة عربية للتأليف وقتذاك. المسوّدة طموحة لا تمتلك عقدة الكمال والغلبة بخلاف المبيّضة شبيهة الثقافة السائدة، التي تزدان بشعور الغلبة والفضل على الآخرين. لذا، ثمة تبجّح بهذه المبيّضة غير القابلة للإستنساخ لأنها منسوخة أصلاً من نسوخ كثيرة واكتمل تأويلها، فباتت جامدة. فمن أين جاء مفهوم ازدراء المسوّدة والنسّاخ؟ يجب الفصل بين الترجمة النقلية والأخرى التحويلية، فالورّاقون هم مترجمون أيضاً ولكن غير تحويليّين. صفة النقل تغلب عليهم، دون صفة الاستنساخ. منْ يقرأ (ويترجم) آراء الكاتب كاظم جهاد بخصوص الترجمة العربية المعاصرة، يلتقي رأياً صريحاً بأنّ مترجميها هم في كثير من الأحيان ورّاقون، ناقلو نصوص بعيداً من الاستنساخ والتحويل. إنّه يُدخل موضوعاً سجالياً يستمدّ جمالياته من قدرته استيعاب الخلافات والتوافقات، فكلّ ترجمة، مهما تكن، لابدّ أن تُغني النصوص، وتفتح باب التأويل، مُراد الترجمة. ينتقد المؤلف ترجماتهم بوصفها تعرض على الغريب المأوى فقط، من دون إشاعة لا نهائية أخلاق الضيافة، فيطالب بحصّة الغريب التي تعني الرعاية والمشاركة وهما مفقودتان في الترجمات تلك، حبيسة الضيافة الخالية من القبول غير المشروط، إنّها ضيافة ناقصة بخيلة، تشبه الجسر، تشبه التسامح. ليس بطراً اهتمام الكاتب بالحواشي والاقتباسات في جلّ أعماله، ويندر وجود هذا الولع في الثقافة العربية. يتعلّق الأمر بأسلوب كتابة يُكرّم الهوامش والاقتباسات، التي تعاني في تقاليدنا من دونيّة المستوى ومن الغفليّة. أحياناً، يبدو النصّ غير تامّ الوضوح، يتوسّل الإثبات فلا يجده، فيأتي هامشه ليضيء مضمَراً تاريخيّاً أو معرفيّاً فيه. يُقلّل هذا الأسلوب من كبرياء الكاتب-المضيِّف إزاء الهامش-الغريب. فكأنّه يلجأ إلى أسلوب الهوامش والحواشي بحاجة معوِّضة، ليأخذ حصّة من التقدير للغريب. هامش ذو رحابة، تمليه رغبة في رعاية النصّ. كما يمنح شكل الكتابة عناية فائقة. العنوان شكل، الحاشية شكل، الأفكار أشكال، كما هي أشكال التعبير الأخرى، العاطفية منها، كالضحك البكاء، أو الإبداعية. وجود المتن والهامش معاً في الصفحة يجبرهما على تقاسم المنزلة والتماهي بعلاقة صحبة. علاقة إقناع بوجودهما. يُعرّض كاظم جهاد نفسه ثلاث مرات إلى أحكامه النقدية في الترجمة والكتابة والتواصل مع الآخر، مرّة عندما يوافق على ترجمة كتابه «حصّة الغريب»، وهو في الأصل دراسة مكتوبة بالفرنسية، ومرّة ثانية عندما يتّفق مع المترجم على ترجمة أشعار رامبو، غير فارضٍ عليه ترجمته المنشورة لدى «دار الجمل» (لنا عودة مقاربة للقصائد في مقال ثانٍ) مرتكباً محاسبة ذاته، بعد أن يضعها تحت مجهر مترجمه، ومرّة ثالثة حين يتكفل مراجعة الكتاب وهي الأخطر. إذ يقرأ نفسه مترجَماً إلى لغته العربية التي بها ينقد ترجمات الآخرين، مقارِباً نفسه ومرآة منهجه النقديّ بمنظار الغريب، فتتأجّج آثار التطابق والخيانة والاستنساخ لجهة «فداحة الغربة التي تفرضها ترجمات الآخرين على النصوص». كأنه يريد تعويض الخسارة، بعد اعترافه الضمنيّ استحالة تلافيها. يقف الإبداع فوق ميزان الخسارة المعوِّضة والتعويض الخاسر. يُشاع في الثقافة العربية للأسف ازدراء القبيح والتبجّح بنشر الجمال كأنّ الابداع يتبنّى خصومتهما، لا تصالحهما. أليس الرّديء ما يميز الجيّد؟ كالخيانة تميّز الوفاء؟ في خلاصة جامعة لآراء متنوّعة، ولأفكار متعارضة أو متّفقة، إضافة إلى خبرته التحويلية، يمحّص جهاد بالعكس ويقارن، ليُعلن الترجمة ابداعاً يقرّبها من الشعر والرواية والتشكيل: «الترجمة الأدبية تشتغل على الدّلالات الحافّة أو المصاحِبة أكثر ممّا على الدّلالات المباشرة، ولا يغطّي بُعد الدّلالات الحافّة هذا كلمات المترجم فحسب، وإنّما يتجاوزه نحوَ مجموع إرث لغة، ذلك الإرث الذي قد تجمعه بالنصّ كلّ اشكال التناص والاستشهاد والإحالة». يتضمّن تقديم المؤلّف اعتراف تقدير حرّ لجهة المترجم: «فليكن الشكر على هذه الطبعة لمحمد آيت حنّا وحده»، واعترافاً مقيّداً إلى آخر سيتولّى ضيافة المؤلف، اتفاقاً أم خلافاً معه: «وليكن لي أن أضطلع بالمسؤوليّة عن كلّ هفوة في المقاربة التحليليّة أو النقديّة، وعن كلّ إساءة فهم». يصف عمله بذات الشيء الذي يقول عن ترجمات الآخرين، فيكتسب شجاعة اعترافَيْن، الأوّل امتداح جهد مترجِمه، والثاني حيازته وحده عواقب إساءة الفهم والتماهي مع الهفوة. إنّ هذا الكتاب نتيجة ضيافة إيواء متبادلة بين المؤلف والمترجم، لا ضيافة استقبال. ضيافة كهذه يندر وجودها في تقاليد الثقافة العربية التي تبخس جهد محرّر النصوص والمصحّح ولا تثبت اسميهما في الكتب. وهو بداية عمل جماعيّ مشترك. «ترجمة بيدين»، تحويراً لعبارة عبد السلام بنعبد العالي «الكتابة بيدين»، في إزاحة للأقنعة وتبنّي الوضوح وقيم الامتنان. السؤال، كيف سينظر المترجمون العرب إلى أعمالهم بعد صدور الكتاب؟ وهل علّة الترجمة عندنا سببها شحة التفكير الفلسفي مقارنة بالأوربيين الذين لم يترك المؤلف ساحة ترجمة عندهم إلاّ وقرأ ميادينها؟ تشي ترجمة «حصّة الغريب» إلى العربية بجهد متأنّ يقتفي غاية الإبداع وهي الإقناع، عارفاً أن اللاّمرئيّ في النصوص والعصيّ على الترجمة قابلٌ للتطويع والكشف، إذا ما أحسنَ المترجم ضيافة الغريب، ممتلكاً ناصية التأويل.