يتحدث «موريس بلانشو» عن هوية النص الأدبي ويعتبرها موجودة في التخوم بين النص الأصلي والنص المترجم. أي أن هذه الهوية ليست شيئا ذاتيا فقط، بل هي جوهر يظهر أثناء الفعل الترجمي الذي « يتعرض» له النص. لكن التسليم بهذه الأهمية لا ينبغي أن يمر دون الانتباه إلى مجموعة من المخاطر الأدبية واللغوية التي تتعرض لها كل ترجمة، وخصوصا ترجمة الشعر. هذا هو محور كتاب حسن بحراوي «مدارات المستحيل» (منشورات بيت الشعر في المغرب،2011). لماذا ترجمة الشعر وحدها هي التي تعتبر مغامرة غير مضمونة النتائج، دون ترجمات فروع المعارف الأخرى، ومنها ترجمة الرواية الأقرب إلى تجربة ترجمة الشعر- خصوصا إذا كان الروائي من النوع الذي يضمن نصه الاستعارات ومنعرجات اللغة الأدبية التي تحول النص الروائي إلى نص شعري متوتر الشكل، متعدد الدلالة، صعب التأويل، إشاري اللغة، حسب تعبير رولان بارت. والاستشهادات والمقولات كثيرة في هذا الصدد. لنذكر منها واحدة ضمنها بحراوي كتابه، وهي لإدمون كاري:» تعتبر ترجمة الشعر عملية شعرية في المقام الأول، إذ على المترجم أن يهتدي إلى معرفة كيف يبدو كشاعر». وهذا الاهتداء يعني المحافظة باستمرار على كل العناصر الشعرية، بما فيها القافية ونظام الصور والبنية الصوتية. من المشاغل الكبرى لكل المترجمين والمهتمين بنظريات وإبستمولوجيا الترجمة، وليس فقط مترجمي الشعر: هل الترجمة ممكنة أم مستحيلة؟ بل هناك من اعتبر الحديث عن نظرية للترجمة مجرد مكر ويوتوبيا. وهنا نذكر كتاب « عن الترجمة» للفيلسوف الفرنسي المعاصر «بول ريكور» الذي يركز على نفس القضية: إمكان/استحالة الترجمة باعتبارها قضية شكلت»تحديا» في مختلف العصور. وقد عبر عن ذلك ببراعة عبد السلام بنعبد العالي قائلا :» والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة، في الوقت نفسه». نجد صفة «التحدي» في أول مقالة في الكتاب:» تحدي وسعادة الترجمة». وفي ذلك يلتقي «ريكور» مع «أ.بيرمان» الذي ركز وشدد على كلمة «تحدي» إذ يقول:» في الحقيقة، هناك تحد يتخذ من المعنى وسلطة الترجمة رهانا». غير أن «ريكور» يتناول موضوعه من وجهة نظر تأويلية، أي أن الترجمة هي عبارة عن تأويل، مهما كانت ترجمة تقنية. وبذلك يصبح كل مترجم مؤولا، حسب تعبير «ج.إ.ويلهيلم». في كثير من الأحيان ترفض اللغة أن تتعاون مع المترجم، فمن يستطيع مثلا ترجمة « أما بعد « إلى الفرنسية؟ بل من يستطيع ترجمة « أما بعد» إلى العربية بالذات؟ يتساءل «ع.كيليطو». وهذا هو الامتحان الصعب الذي يجتازه المترجم، الذي يجد نفسه في الأغلب الحالات مضطرا إلى ارتداء أقنعة النصوص التي يترجمها: شعر، فلسفة، رواية، تاريخ.....إلخ منذ البداية تحدث بحراوي، بطريقة مطولة، عن الصعوبات المرتبطة بالترجمة معتبرا إياها رهانا صعبا، يكون من المستحيل رفعه أحيانا. فالمترجم يتحمل قسطا في رفع التحدي، واللغة تتحمل الأقساط الباقية. إن الترجمة، لهذه الأسباب، هي أصعب ممارسة لسانية على الإطلاق. أولا لأنها تطرح مباشرة علاقة الذاتي بالأجنبي، وثانيا لأنها تنطلق، في المقام الأول، من الفهم. و»الفهم ، هو الترجمة» حسب تعبير جورج ستاينر في كتابه «بعد بابل». لكن الفهم يطرح في المقام الأول كلما شرعنا في الترجمة، مادام البشر يتكلمون لغات عديدة. يؤكد بحراوي أن الترجمة تشتد خطورتها كلما كان المترجم يعمل على نص ليس «رسالته هو المضمون وحده، بل يكون فيه المضمون شديد الارتباط بالعبارة، أي بالشكل نفسه الذي يفترض إيجاد صيغة لنقله». وكغيره من الكتب العربية التي تناولت ترجمة الشعر بالبحث، لم يخل كتاب بحراوي من عبارة الجاحظ التي سجنتنا قرونا داخل شباكها: « الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب ولا كالكلام المنثور.» وهذه المقولة ، التي تؤكد الاستحالة الكلية، تقف في مقابل قولة إدمون كاري التي ذكرت في البداية، أو قولة جون دنهام الذي صرح:» لا يقتصر دور مترجم الشعر على ترجمة لغة إلى لغة، بل يتعداه إلى نقل شعر إلى شعر». ولنذكر هنا، من خلال تجربة متواضعة خاصة، أن سعادة المترجم، وكل مزدوجي اللغة، كامنة في عملية نقل النص من لغة إلى لغة أخرى. لكن هذه السعادة يعتبرها ريكور مثلا أمرا مضرا، نظرا لوجود تنافر جذري بين اللغات. وهذا ما يجعل الترجمة، نظريا، عملية متعذرة. لكن لولا وجود تلك «الذخيرة المشتركة» بين اللغات العالمية لما أمكن الحديث أصلا عن وجود ترجمة، تماما كما أثبت ذلك الجاحظ في القرن التاسع الميلادي. لكن بحراوي يعود، نظريا مرة أخرى، شأنه شأن جميع العاملين في مجال الترجمة الأدبية، ليؤكد أن هذه العملية اللسانية المعقدة تسير دائما على طريق صعب. فيتوقف عند المترجمين العرب الذين أحجموا عن ترجمة الآثار الأدبية القديمة وخاصة منها الأعمال الملحمية والشعرية ، الإغريقية والرومانية، مثل ملاحم هوميروس و أنيادة فيرجيل. هذه النصوص الكبرى التي تبدو كأنها كتبت كي لا تترجم. غير أن كيليطو يؤكد أن العرب وحدهم هم من كتبوا شعرا غامضا وصعبا بغرض ألا تمتد إليه يد المترجمين.