" لْحْديثتْ"، "تَحادّيتْ"، "القِيسْتْ"، كلّها مصطلحات تطلق بأمازيغية زَيان على الحكاية. إنّها الحكاية الشّعبية الأمازيغية، تلك الأحدوثة التي يَسرُدُها راوٍ مُشافَهَةً، عبارة عن مُغامَرات مُتَخيّلة تَقومُ بِها كائناتٌ بشرية أو حيوانِيّة في عَوالِمَ واقِعيّة أو خارِقة والغَرَضُ مِنها الإمتاعُ والتّرفيه والوعظ وضرب المَثل. والحِكاية الشّعبية الأمازيغية تختَلِفُ عَنِ الأسطورة والخُرافة. فالأسطورة قِصّة مُختَلقة تعطي تفسيرا للظّواهر ونشأة الوُجود. والخُرافة قصة قائمة على أحداث تاريخيّة وَقَعَتْ حَقيقة لكِنّها خَضَعَت لتحريفات، بينما الحكاية الشّعبية سُمّيت شعبية لارتِباطِها بِمِخيال الشّعب إبداعا وخَلقا وسردا. والمِخيال الأمازيغي بالأطلس المُتَوسّط يحْبَل بحكايات مستمَدّة مِن البيئة المَحلّية، تعكِس جوانِب من حياة المجتمع الأمازيغي المادّية والرّوحية. حكايات مشحونة الدّلالة، قويّة التأثير، ذات مسحة فطرية جميلة عبّر بها الإنسان الأمازيغي عن انفعالاته وهويّته وواقعه بالإفصاحِ تارة و بالرّمز تارة أخرى. أهمّ أنواع الحكايات الرائجة في الأدب الشّعبي الأمازيغي الشّفهي بالمنطقة، حكاية الحيوان، والحكاية الفانتستيكية والساخرة، وهي حكاياتٌ كثيرة، وسمِعناها عن جدّاتِنا و أمّهاتِنا تناقلها الرّواة شفاهة، ومِن أشهرها نذكر: حِكايات الحيوان: نستحضر مِنها "تَاجْضيتْ وْغانِيمْ" /عصفورة القَصَب، "أَرْكازْ دْ يفيغْر" /الرجل والثعبان، "عبد المالك د تيمْلالين" /عبد المالك والضِّباء، "إكْفْرْ دييزْمْ د وْلغم" /السلحفاة والأسد والجَمَل .. الحكايات الفانتاستيكية: أشهرها "بوسْبع تْمْجّين"/ ذو الآذان السبعة، "تارباتْ دْ الغول" /لفتاة والغول، "تِسليتْ نآيتْ سْخْمان" / عروس آهل سخمان، "أحجّام دْ ومدّاكل نّس" /الحلّاق وصديقه.. الحِكايات السّاخِرة : ومِنها حكاية "أوشّن د يينسي"/ الذئب والقُنفذ ، "حمّو لّْحْرامي" /حمّو المُحتال.. لنَتَوقّف عند هذه الحِكايات العَشْر على مستوى الشكل والمضمون لاستجلاء بعض خصائصها وكذا أبعادها. الخصائص الشّكلية: إنّ الحكاية الشّعبية الأمازيغية لها جماليات خاصّة ومواصفات فنّية يمكن رصدها في النقاط التالية : اختيار عناوين الحكايات: العنوان يُستمَدُّ من عُنصُرٍ بارز في الحكاية. وفي الغالب يتمّ التركيز على الشخوص الرئيسة في وضع العناوين. ومن مميزات العنوان في هذه الحكايات الربط أوالعطف بين عنصرين أحدهما يكون الذات (البطل) والأخر مُعارضٌ أو بطلٌ مضادّ كما في:" أَرْكازْ دْ يفيغْر" ، "أوشّن د يينسي".. هذا ويُعمد أيضا إلى الرّبط بين أكثر من عنصرين بينها علاقة صراع كما في حكاية " إكْفْرْ د ييزْمْ د وْلغم " استهلال الحِكاية: تُستهل الحِكاية الشّعبية الأمازيغية ببداية نَمَطيّة مِثل: "إكا إج ورياز .." (كان هناك رَجُل..)، "إنّاك إدّا إجْ وْرْياز" (قيل إنّ رجُلا ذَهَب..) ، "نّانْ كْزْمَانْ يْكّا إجْ وْرياز" (قالوا أيام زمان: كان رجل..) ، " إنّاك واهْوَّا كزمان يكّا إج ورياز" ( قيلَ في قديم الزمان :كان هناك رجُل).. ففي الاستهلال يُشار غالبا إلى عنصر زمن الحكاية (إكّا، كْزمانْ)، وعنصر الحَدث (إدّا)، وإلى الشخصية (أرْياز). تعدد الروايات: فالحكاية يحفظها الراوي مشافهة عن راو آخر فيؤدّيها بِلٌغتِه غير متقيّد بألفاظ الحكاية، ولا ببعض التفاصيل. وإن كان يتقيد بشخصياتها وأحداثها الرّئيسة، ومُجمل بِنائها العامّ. فسِمة المُرونة هذه من سِمات الأدب الشّعبي الذي تنتجه الجماعة وتتداول مادّته بصرف النظر عن تحويرات وتطويرات تطالُهُ في الشكل والمضمون تِبعا لمزاج الرّاوي أو مواقفه أو ظروف بيئته الاجتماعية. النّهاية السّعيدة: إنّ خطاطة الأحداث المسرودة دائما تنتهي بنهاية سعيدة، وذلك بجعل الخير ينتصر على الشّرّ. ففي حكاية "تجضيت وغانيم" ستعود البنت الذكية إلى الأهالي بعد التخلّص من الغول بمساعدة الفارس، والقنفذ سيقضي على مكر الذئب، والطّفل "عبد المالك" سيعود إلى أهله بعد أن عاش زمنا في كنَف الضِّباء.. استحضار المَروي له في الحكي: حيث يعمد الرّاوي في غيرما مناسبة، مُتَعَمّدا، إلى إقحام المتلقى، إما بِلفت انتباهه، أو تنبيهه، أو الاعتذار له، ليتأكّد من متابعته وإقامة التواصل معه ومدى رسوخ المحكي في نفسه، من نماذج ذلك في قصة "تجضيت وغانيم" قول الرّاوي " كانا قد تركا جَرْوًا حاشا وجوهكوم وبضعَ قِطع ثياب بالية.."، فعبارة "حاشا وجوهكم" تؤدي هذه الوظيفة التواصلية مع المتلقي. وهنا تظهر الوظيفة الميتاسردية للخطاب، إذ يتحول خِطاب الرّاوي إلى خِطابٍ يتَحدّث مِن خلاله عن الحَكي وعن الحِكاية. كأن يقول الرّاوي في نهاية الحكاية " ..ثاذْ أكّانْ لْقِيسْتْ إِنُو، أداخْ يْعّاوْن رْبّي د لِيخْرة"/ هذه هي قصتي، ربّي يرحمنا في آخرتنا. زمن الحكاية والحكي: تعتمد الحكاية الشّعبية على زمن عجائبي، زمن قديم لمّا كانت الكائنات تنطق والأنسان يعاشر الحيوان والغيلان والجن.. أمّا زمن الحكي فهو زمن صاعِد كرونولوجيا من الحاضر إلى المستقبل وقد ينحرف إلى الماضي استرجاعا، أو يستشرف المستقبل استِباقا. ويتميز زمن الحكايات الأمازيغية بالامتداد والطّول، فقد يستغرق أعواما بل عُمر شخصية بِأكمله كما في قصة "تَجضيت وغانيم"، فزمن القصة يرافق البطلة من طفولتِها إلى زواجِها، إلى تخليفها ولدا، ثمّ موتها. التّرابط المَنطقي للأحداث : ترتبط الأحداث في الحكاية الشّعبية ارتباطا منطقيا متماسكا قائما على مبدأ السببية ، حيث يفضي بنا الحدث إلى الآخر. المكان الغرائبي: تمّ توظيف أماكن فانتاستيكية داخل الحكايات الشّعبية. أماكن غريبة موحشة (الخلاء، مساكن الغيلان، الوادي، الغابة..) هذا ويسود الفضاء القروي على الحكايات ، وذلك راجِع إلى التصاق الإنسان الأمازيغي بالبادية. الرؤية السردية من خلف: هناك سيادة لرؤية سردية عالمة من خلف ،حيث يبدو الراوي مُحايدا ومُلما بتفاصيل الأحداث والشخصيات وانفعالاتها الوجدانية . فالضمير المهيمن في السّرد هو الغائب دائما. الخاصّية الفانتاستيكية: تعتمد هذه الخاصيّة بشكل لافت في رواية الأحداث، حيث يحضر الامتساخ الفانتاستيكي بقوّة فنجد المرآة تتحول إلى بقرة، والحيوانات تأخذ صورا إنسانية. هذا إلى جانب ملامِح فنّية أخرى كالتّناصّ مع حكايات أخرى، والترميز من خلال شخصيات وعوامل وأشياء تحيل على قيم أخلاقية ودلالات إنسانية، إضافة إلى انبناء الحكاية على عوامل سيميائية مساعدة تدعم الذات لبلوغ الموضوع المرغوب فيه.. وغيرها الخصائص المضمونية: ومن النّاحية الدّلالية الموضوعاتية، فمن الملاحظ أن الحكاية الشّعبية الأمازيغية بمنطقة الأطلس المتوسط، تَسِمها مجموعة من السّمات المضمونية الدّلالية أبرزها: إن أغلب الحكايات الشّعبية الأمازيغية تعالج ثنائية الخير والشّرّ، وتنبني على الصّراع بين القوى الخيِّرة والشّرّيرة، فتأتي الخاتمة مُعبّرة عن تطلّعات الّإنسان في انتصار الخير وتحقيق العدل. فالرجل ذو الآذان السّبعة في قصة "بوسْبعْ تمْجّين" سينتصر على شرّ الرجلِ الثعبانِ وأمه، وعلى صاحب القطيع المُستَبِدّ. والصّبية الذكية ستنتصر، على الغولة رمز الشّر في حكاية "تاجضيت وغانيم، والرجل سيقضي على الثعبان في حكاية " أرياز د يفيغر". وهكذا في معظم الحكايات.. هناكَ تَحسين لصورة الرجل في مِخيال الحِكاية الشّعبية مُقابِلَ تصوير مكر المرأة وانتقاد كيدها وحِيَلها خاصّة حينما يتعلّق الأمر بزوجة الأب، أو الضرة . هذا بارزٌ في حِكايات مِثل "بوسبع تمجين" فالأخَوان لمّا توفيت أمّهما تخلّصَتْ منهما الضّرّة وهاجرت مع أبيهم وتركتهم يواجهون مصيرا مجهولا. الحكايات الشّعبية الأمازيغية تَصدر عن عقلية أنتجَها مُجتمع ذكوريّ يُكَرِّس سُلطَة الرجل مقابل خنوع وسلبية المرأة . وذلك جليّ في سلوك الشخصيات ومواقفهم ورؤيتهم إلى الوُجود. ففي حكاية بِعُنوان "بو وْييس ذ تَمْطّوط نّس" / صاحب الحصان وزوجته، مثلا نجِدُ المرأة تسلّم زمام القرار للرجل، بِحيث لم تُناقش زوجها المُفلِس عند استبدالِه لحصانه بالثور، ثم استبداله للثور بكبش، ثم الكبش بديك، وبيعِ الدّيك بثمن زهيد. فهذا دليل على خضوع المرأة لسلطة المُجتمع الأمازيغيّ الذكوريّ. ضِف إلى ذلك أنّ هذه الحكايات تحمِل أبعادا رمزية عميقة حول علاقة الإنسان الأمازيغي بالطبيعة. فالشخصيات أكثر ارتباطا بعوالم الريف والبادية، إذ إنّ هناك حميمية تربطهم بالأرض وحنينا يشُدّهم إلى الدّيار / "أمازير" كُلّما ابتَعدوا عنها. وهناك حضور للمجال الطّبيعي، واحتفاء بالطبيعة لأنّها تمثل مصدر النشاطِ الفلاحي بالمنطقة القائمِ على الزراعة والرّعي والصّيد. هذا ما نجِدُه جليّا في حكاية صاحِب الآذان السّبعة الذي يزاول الرّعي وجدّه كان صيّادا، وفي حكاية القنفذ والذئب اللذان اشتركا في زراعة قطعة أرضية.. الحكاية الشعبية الأمازيغية مِرآة للحياة الاجتماعية، إذ تُصوّر صدى المعاناة والألام والآمال والأحلام، وتعبّر عن مضامين اجتماعية وإنسانية. إذ نجد أغلبها تعالج قضايا الفقر والجوع والظلم والقهر والعدل والمساواة والحرية، وتطرَح مضامين أخلاقية. كما تتميز هذه الحكايات بتصوير قيم الشّجاعة والتّضحية والبطولة والكرم والإخلاص والوفاء والجمال. مما يجعل منها نصوصا تربويّة في المقام الأوّل تُوَجه بدرجة أولى لليافعين المُقبلين على حياة صعبة يملؤها التحدّي والغموض. تَمّ توظيف الكائنات الحيوانية كرموز إنسانية على غرار الحكايات العالمية، كما عند عبد الله بن المقفّع في كليلة ودِمْنة ، وعند الفرنسي لافونطين في حكاياته الخرافية les fables . ويأخذ الحيوان داخل الحكاية الأمازيغية تمظهرا واقِعيّا فتحضر الحيوانات بشكلها الواقعي وبِسماتها المُتداولة في المَعيش اليوميّ كالثور والحصان والثعبان والذئب .. أو يأخذ تمَظهرا أسطوريا في شَكله واسمِه ودوره مثل "تْرْكَّو"/ الغولة في قصة "تجضيت وغانيم"، والتي تحمل صفة أسطورية ترمز في الغالب إلى الشّر المُطلق. هذا والحيوانُ في الحكاية الأمازيغية شخصية فاعلة حاسمة في تصعيد الأحداث نحو العقدة. الحكاية الأمازيغية تعبّر عن تجارب إنسانية يشترك فيها الإنسان الأمازيغي مع مُعظم التجارب الإنسانية الأخرى، مما يجعل منها حكايات ذات طابع كونيّ تستوعب التجربة الإنسانية في عمقها وأبعادها الوجودية. تتلاقى الحكايات الأمازيغية مع مجموعة من الحكايات العالمية وتتفاعل مَعَها ثقافيا، ويعود ذلك تاريخيا، حسب الباحث الأمازيغي محمد أقضاض، إلى أنّ الأمازيغ وسكان بلدان شمال إفريقيا عامة تفاعلوا وتثاقفوا مع شعوب أخرى خاصة شُعوب حوض البحر الأبيض المُتَوسّط، في لُغَتِه وسلوكِه وفكره وفي مجالات روحية ودينية وفنية وأدبية. فمثلا قصة "عبد المالك والضِّباء" تذكرنا بأسطورة "ماوكلي" وحكاية حي بن يقظان المأثورة عن ابن طفيل الأندلسي. وورود الغول والغولة في الحكاية الأمازيغية أيضا ماهو إلّا امتداد للثقافة الشّعبية العربية التي كانت تعتبر الغيلان جنسا من مردة الجنّ و الشياطين. الحكاية الشّعبية تختزن ذاكرة الإنسان الأمازيغي بمنطقة الأطلس المتوسط وتلخص تجاربه الحياتية وتقاليده وطقوسه الرمزية الفولكلورية، وتعبّر عن رؤاه وتصوراته للوجود، وتعكِس مُمارساته الاجتماعية وانفعالاته النفسية وتمثلاته القيمية. تلك إذن أهم الخصائص الشكلية و المضمونية التي تميز الحكاية الشّعبية الأمازيغية بمنطقة الأطلس المتوسّط ، وتجعل منها مادة أدبية حية تستحق الاحتفاء. ونظرا للطّابع الشّعبي الشّفهي للحكاية الأمازيغية فقد تُركت مُتونها الشّفوية لتُواجِه احتمال النّسيان والتّلاشي، مما يجعلنا نُلحّ على ضرورة الاهتمام بها و دراستها وحِمايتها وتدوينها، وإدراجِها في البرامِج التعليمية، والعمل على توظيفها في المسرح والسّينما وفي وسائل الإعلام. (*) قاص من إقليمخنيفرة، له مجموعة «مسخ ذوات الناب» ورواية «هذيانات ما بعد الغروب»