خلال الفترة الأولى من بروز ظاهرة الاستعمار، سيتصف الفكر الغربي الرأسمالي /الكولونيالي في علاقته بالمستعمرات وشعوبها وثقافاتها بنوع من الدونية والاحتقار والميز، مما سيؤدي إلى تقسيم الأمم حسب أعراقهم (ساميون و آراميون) أو حسب مناطقهم الجغرافية (شرق /غرب) أو "عقولهم " وثقافاتهم وحضارتهم (بدائيون/متوحشون/همجيون # متحضرون متمدنون)وكل ذلك من أجل تبرير ذلك النوع من الاحتلال الذي يستهدف زورا وبهتانا تقديم يد العون والمساعدة للسكان البدائيين من اجل تقدمهم ودخولهم التاريخ على يديه . حينئذ ستكون مواد الأدب و الثقافة الشعبية للمستعمرات موضوعا لاهتمام الغربيين من منطلق مركزية العقل والحضارة و الإنسان الأوربي لكن هذه المحاولة الثقافية وما فيها من استعلاء عرقي وعنصري ستنتهي إلى الباب المسدود بسبب تناقضات الامبريالية والاستعمار في صراعهما مع حركات التحرر الوطني . لذا، سينتقل الاستعمار نحو صيغة جديدة في الهيمنة والاستغلال، وسينتقل معه وعيه الزائف وقراءاته الأيديولوجية لثقافة وشخصية تلك الشعوب المضطهدة. في المرحلة الثانية من الهيمنة والامبريالية، سيتغير خطاب الاستعمار الجديد بصورة تكاد تكون جذرية أي من النقيض إلى النقيض لكن فقط على مستوى الظاهر أما الجوهر فقد بقي هو هو لم يتغير لا في عنفه ولا في هيمنته . في هذه المرحلة الثانية، سيتم الاهتمام ب"الثقافة الشعبية" من خلال علوم جديدة ابتكرها الغرب للتشريح والحفر الاركيولوجي قصد الولوج أقصى أعماق البنيات الذهنية الشعورية منها و اللا شعورية .ومن تلك العلوم المستحدثة :الاثنولوجيا -الانتروبولوجيا - الاستشراف-وبالتالي فإنه في ظل هذه العلوم الاستعمارية لن يتم تقسيم الشعوب والأمم جغرافيا أو عرقيا-فقط- بل حتى ثقافيا وحضاريا ،لهذا سيتم إطلاق العديد من الأفكار والشعارات التي تحمل في جوفها المساواة والعقلانية و الإنسانية غير أنها تخفي في جوفها اللامساواة واللاعقلانية من قبيل : * أن كل شعب له ثقافته الخاصة به والمعبرة عنه بحسب حاجاته وخصوصيته * أن قيمة كل ثقافة لا تقاس بالمقارنة إلى ثقافة أخرى بل إلى ذاتها فحسب ،فلا تفاضل بينها ولو تعلق الأمر بثقافة قومية كبرى مع ثقافة عشيرة صغرى . * لا قيمة لوسائل التعبير سواء أكانت مكتوبة أو شفوية، عقلية أو وجدانية ، علمية أو سحرية ،بل القيمة للشيء نفسه وليس لغيره ، هذا المنحى يبدو وكأنه يحاول إعادة الاعتبار للثقافات التي كانت محتقرة محاصرة ومهمشة .غير انه في العمق يرسخ الاحتقار،وذلك حين تلصق بهذه الشعوب هذا النمط من التفكير تاركين بذلك للثقافة الغربية احتكار الموضوعية والعقلانية والتاريخانية والحداثة . فهذا الغرب، هو الذي يدعي أن له وسائل التحليل العقلي والعلمي وحق "التأويل "لأنه يرى نفسه متفوقا على"الآخر"، ويرى أن العالم والباحث الأوربي أكثر عقلانية وعلمية من الأديب والمثقف "الشعبي" وبذلك فهو يملك السلطة والقوة للتعاطي مع ما يسميه ب"الثقافة الشعبية". إنهم يخرجون من بزتهم العسكرية ومن عنفهم الاستعماري ويدخلون إلى معطفهم "الإنساني "و الإيديولوجي بقوة العنف الثقافي عبر نافذة الثقافة الشعبية وينتهون في تحاليلهم و تأويلاتهم إلى نوع من التمايز الحضاري أو عنصرية ثقافية بين بني البشر وتحت قناع الدفاع عن الوحدة الثقافية للشعوب لأنهم حين يدافعون عن ثقافة الجماعات "البدائية"والشعوب المضطهدة والمستعمرة مبرزين شخصيتها الثقافية والفكرية إنما في الحقيقة يخفون ذلك التمايز وتلك الدونية الثقافية والحضارية للشعوب غير الأوربية: هل يعقل أن يعلو السحر على العلم ؟وهل يعقل أن يتساوى البدائي والمتمدن ؟هل يعقل أن يسمو اللاعقل على العقل ؟وهل يعقل أن يدافع الليبيرالي عن السحر والبداوة والخرافة ضد قيم العلم والعقل والحرية؟؟ إن المثقف الأوربي والغربي عموما المتواطئ مع المؤسسة الاستعمارية سعى لتحنيط الثقافة الشعبية وتحويل بلدان المستعمرات القديمة والجديدة إلى متاحف محنطة وتحويل ثقافتها إلى فولكلور جامد . ومن النماذج الاستعمارية التي حرفت الجوهر الثقافي والإنساني للشخصية الثقافية والأدبية للاما زيغي، الباحث اللغوي والاثنولوجي الفرنسي هنري بأسي H-Bassetوخصوصا في دراسته الخاصة عن الأدب الامازيغي Essai Sur La Littérature Des Berbères. من الأجناس الأدبية التي اهتم بها هنري بآسي في كتابه السالف الذكر نجد الحكاية الامازيغية التي اسقط عليها الكثير الأحكام الدونية وصنفها إلى ثلاثة أنواع : أ-الحكاية العجيبة وهي نوع من الحكايات التي تؤسس عالما سحريا غرائبيا و عجائبيا وتصور المدركات غير الحسية و الامور الخارقة للعادة فتحكي عن المردة والعفاريت والسحرة .ومن جملة هذه الشخصيات الغريبة التي وقف عندها بآسي : _الغول ogre:وتقدم في الحكاية العجيبة كآكلة اللحوم البشرية Les Anthropophages أو في شكل امرأة عجوز شمطاء عمياء Borgne تسكن الأدغال والكهوف وكل الأماكن المخيفة والبعيدة عن التجمعات البشرية . -الجن :وتحضر هذه الشخصيات الغريبة لأداء مهمات صعبة وخارقة أو تحضر لتهديد بطل زائف أو حقيقي -المرأة الشرسة Marâtre :وهي شخصية مستحوذة على الحكايات الشعبية الموجهة للأطفال بدافع الردع أو التخويف. ب-الحكاية الحيوانية وهي من أشهر الحكايات التي احتفظت بمقومات الحياة الثقافية عبر آلاف السنين تشرح ،وتحكي، وتسلي ، وتعلم ،مازجة كل ذلك مزجا بديعا يثير الدهشة الفنية . ويرى هنري بآسي أن هذه الحكايات توضع في قالب وعلى شكل لغز أو أحجية يحاول الحاكي بواسطتها أن يمزجها بقول مأثور أو حكمة امازيغية ،والحيوانات داخل هذا الصنف الحكائي تتكلم وتتصرف كما يتصرف الإنسان في حياته الاجتماعية،والحيوان الرئيسي دائما هو ابن آوى،هذا الأخير يلعب دور البطولة في الحكاية الامازيغية ويشبه إلى حد ما دور الثعلب في الحكايات الأوربية أو الأرنب في الحكاية السودانية أو العنكبوت في حكايات شاطئ غينيا. وابن آوى هذا يأتي مرة في صورة ثعلب ومرة أخرى في صورة الذئب وينافسه في البطولة القنفذ (بومحند)وبجانبهما شخصيات حيوانية أخرى كالأسد والكلب والبغل والحمار والخنزير البري ثم الطيور . أما الشخصيات الإنسانية فدورها ضعيف ولا مفعول لها في تسيير الأحداث أو تأزيمها وان اغلب هذه الحيوانات تمثل شخصيات إبدالية تعويضية، فإذا كان القنفذ يمثل المكر والحيلة، فالأسد يجسد القوة المصحوبة بالبلادة . إن الهدف في خلق هذا النوع من الحكايات هو استخراج ما فيها من حكم، ولكن هذه الحكم لا تخرج عن نطاق ثنائية الخير والشر (القوة والحيلة ) وعليها بنى هانرى بآسي أخلاقيات المجتمع الامازيغي . ج-الحكاية الهزلية: وهي من اشهر الحكايات التي لها وجود و تأثير في الثقافة الامازيغية وتدخل في باب التسلية والمتعة ، فهي حكاية مضحكة ومثيرة ترمي إلى النكتة المرحة والفكاهة المحببة والروح الخفيفة وتستمد مواضيعها من التجارب الحياتية اليومية للإنسان داخل البوتقة الاجتماعية التي ينهل منها رصيده الثقافي وتستعمل خاصة من طرف الرجال.أما الشخصيات الرئيسية فيها، فقليلة وحصرها هنري بآسي في ثلاثة انماط: -المرأة كشخصية مثيرة للفتن الاجتماعية والأخلاقية -الرجل الأبله والمضحك Imbécile وهو الأكثر شعبية في هذا الصنف الأخير: انه المضحك الشعبي "باقشيش"الذي له نفس دور جحا المولود في الشرق ويشارك باقشيش في هذا الدور المسلي شخصيات شعبية وفي بعض الأحيان تنافسه ك: "بوش كركر"(في بلاد الاوراس) و"حمو احرايمي"(في بلاد الأطلس)وعمي/ سي موسى(في الريف). من خلال هذه القراءة الفنية، نلاحظ أن هنري بآسي لا ينظر إلى هذه الحكايات الغريبة إلا من زاوية فولكلورية ،في حين أن الغريب والعجيب يلتصق بذات الامازيغي وهو جزء من واقعه الفكري والثقافي والأدبي، فما يعتبره الباحث الكولونيالي غرائبيا هو في الحقيقة لا غرابة فيه لأن مناخ الابتعاد عن العقلانية الوضعية بتلك الصورة التي كانت عليها في تلك المرحلة هو أمر لا يعرفه إلا الامازيغي وحده . إن الحديث عن الحيوانات والجن و الغول أو عن بعض الشخصيات الوهمية لا تشكل مثار الغرابة عند الامازيغي فبآسي لم يفهم ولم يكن بطبيعة الحال قادرا على أن يفهم اوان يدخل جلد الامازيغي لكي يفهم هذه الغرائبية في صورتها الحقيقية عند الامازيغ. لقد قام هنري باسي بعرض الحكايات على مقاس المعايير الفنية الكلاسيكية الأوربية خصوصا في تصنيف الحكايات ودراسة الشخوص وهذا نزوع نقدي موجود في الثقافة الأوربية الكلاسيكية أي البحث عما يسمى بالأنواع (أنواع الشخصيات )اذ يقوم بآسي بتحديد مسار كل شخصية وجمع عدد من الشخصيات في خانات محددة حسب طبيعتها ووظيفتها : القنفذ رمز للذكاء والمكر والحيلة عكس الذئب رمز الشراسة والخبث والبلادة أما الأسد فهو رمز القوة والتخويف إلى غير ذلك من الإسقاطات التي استوردها بآسي من الثقافة الأوربية الكلاسيكية ،ومن النقد الفني الكلاسيكي أساسا . إن بآسي حدد لكل شخصية مسارها وطبيعتها وجمع هذه الشخصيات في خانات محددة سلفا :الشرير -الواهب - المحتال - البطل الزائف- البطل الحقيقي ..وان نظام تقنين الشخصيات بهذه الطريقة وتصنيفها بهذا الشكل الجامد فيه كثير من التعسف وذلك لاختلاف الفضاء داخل الحكاية الامازيغية عن الفضاء في الحكاية الأوربية . لقد اختزل لنا هذا الباحث الكولونيالي الحكاية الامازيغية في ثنائية الشر والحيلة ليبين لنا أن المجتمع الامازيغي مبني على أخلاقيات الشر والحيلة وهذا غير منطقي لأنه لا يمكن أن نستخرج أخلاقيات مجتمع من المجتمعات من خلال نوع أدبي معين أو في مجموعة من المتون الحكائية انظر1921 éditions stouky Hesperis-2eme Trimestre eأو أعمال الجامعة الصيفية لاكا دير -الدورة الثالثة إن الطريقة المتبعة عند الكولونياليين والاثنولوجيين والفولكلوريين الغربيين تطغى عليها مواقف ملتبسة تهتم بالحكاية الامازيغية كوثيقة سوسيولوجية أو اثنوغرافية خدمة للهيمنة الاستعمارية ومؤسساتها العسكرية والثقافية * محمد بادرة :أستاذ باحث في الثقافة الامازيغية