كانت الحكايات التي تروى ، خاصة في الشتاء ، حيث تُقضى ساعات السمر حول موقد النار حاجة ماسة قبل الانصراف إلى النوم ، كما أن هذه اللحظة الدافئة تعتبر مناسبة للحديث بين أفراد الأسرة ، وكلما دبَّ الدفء في أجسامهم المرتعشة بلسعات البرد النازل توا من القمم البيضاء سرى ألفة تمنحهم الطمأنينة ، والرغبة في تجاوز الحديث عن العابر في يومهم ، إلى حديث يعلو بهم بعيدا ، وينسيهم ولو إلى حين بعضا من همومهم . تنفتح شهية الكبار على فتنة العجائبي والغرائبي من خلال حكايات يحفظونها عن ظهر قلب ، ويتفننون في حكيها،وحين يتوقف الراوي لأخذ نفس،أولشرب جرعة من الشاي، فإنه قبل السكوت يختار منعطفا أشد تشويقا في الحكاية . الشيء الذي يجعل الآذان تستعجل الإصغاء رغبة منها في مواصلة التلذذ بالمحكي الفتَّان . كانت الحكايات الأشد فتنة وإبهارا تلك التي أبطالها حيوانات كالأسد والنمروالذئب والثعلب والقنفذ والقرد والثوروالحمار والنحلة والنملة والضبع والأفعى والسنجاب وغيرهم من القاطنين في الغابة قبل انقراض بعضهم من طرف الوحش الأكثر ضراوة في الدنيا ، والذي هو الإنسان مع الأسف . كنا نتعجب ، ونحن ننصت بشغف كبير لتلك الحكايات التي لا تبلى ولا تنسى ، لأنها فتحت أخيلتنا على الرحب الشاسع ، وحين ننام تتسلل تلك العوالم المدهشة إلى أحلامنا السعيدة . كنا أيضا نندهش لأن تلك الحيوانات تتكلم كالبشر، وتتصف بطبائعهم وسلوكاتهم ؛ إذ فيها الذكي و الغبي.الماكر المحتال المخادع ، والساذج المغفل . القوي الذي لا يقهر، والضعيف الذي لا حول له ، ولا قوة . من بين هذه الحيوانات كلها أحببنا القنفذ المعروف في اللسان الأمازيغي بِبومْحَنْدْ . أحببنا هذا الكائن الصغير والضعيف لأنه ذكي جدا ، وبمقدوره أن يسلك من أكثر المقالب فداحة ، خاصة التي يدبرها له باستمرار الماكران المخادعان الذئب والثعلب . من تلك المقالب الخطيرة التي يمكن أن تفضي إلى الموت الأكيد ما جاء في هذه الحكاية . كان القنفذ والذئب يسيران في خلاء لا ماء فيه ، ولا حياة .اشتد بهما العطش ، وجف ريقهما. راحا يلهثان بحثا عن جرعة ماء . بعد البحث المضني عثرا على بئر عميقة . حارا كيف يشربان ، والماء الزلال في القاع بعيد المنال . بعد لحظة تفكير طلب الذئب من القنفذ أن ينزل لجلب الماء ،وذلك لخفته ورشاقة حركاته. وافق من غير تردد . نزل إلى البئر. شرب واستقى لصاحبه. هذا الأخير بعد أن شرب لاحت له فكرة رهيبة ؛ هي أن يترك القنفذ يواجه مصيره ، كما حدث ليوسف في الجب . قبل أن يغادر الذئب المكان مقهقها سمع من أعماق البئر القنفذ يغني مستبشرا . استغرب الذئب ، وسأل صاحبه . كيف تغني، وأنت في وضع لا يحسد عليه ؟ أجاب القنفذ : فرحي لا حد له. وجدت خروفا سقط في البئر ، وهو حي يرزق ، وبإمكاني أن أزدرده بمفردي . سال لعاب الذئب لهذا الخبر السار ، وقرر النزول . أمسك بالحبل ، أما القنفذ فقد قفز إلى الدلو ، ولأن الذئب أثقل وزنا من القنفذ ، فإنه نزل بسرعة فائقة إلى عمق البئر، و لما التقى القنفذ الصاعد إلى أعلى بسرعة فائقة أيضا ، خاطبه : إلى أين ؟ أجابه القنفذ : هذا هو حال الدنيا يا عزيزي، شي طالع ، شي هابط . هذه الحكايات توارثتها الأجيال، يحكيها الأجداد للأحفاد،وهي مستقاة من البيئة الجبلية، حيث الغابات الكثيفة ، والحيوانات المتعددة قبل أن ينقرض الكثير منها بسبب الزحف المتوحش للإنسان . من هذه المملكة : مملكة السبع ورعاياه من مختلف الحيوانات تسربت على لسان الراوي تلك المحكيات المدهشة ، التي إن هي إلا إحالة ذكية على مملكة الإنسان، وما يوجد فيها من طبائع تتأرجح بين ثنائية الخير والشر. كانت تلك الحكايات هي المنشأ الأول للتعلم قبل الكُتَّاب والمدرسة. كانت الإنصات الأول قبل مجيء المذياع والكهرباء والتلفزيون ،وغيرها من المستحدثات التي غزت القرى والبوادي ، وعلى رأسها الإنترنيت ، الشيء الذي جعل الجدة تفقد وظيفتها في الحكي والتواصل مع الأحفاد لتنزوي في ركن من البيت شبه مهملة بعد أن أصبحت حكاياتها في خبر كان لأنها مجرد « خُبِّيرْ» . علمونا بطرقة ذكية ،وغير مباشرة العديد من القيم الأخلاقية، وما الواجب والعهد والأمانة . علمونا عاقبة الخيانة ، وعدم الوفاء بالعهد. عرفوا قبل صناع الرسوم المتحركة أن الطفل لكي يُمرَّر له خطاب تربوي لابد من سحره أولا ، وأحسن وسيلة لإقناعه بالإنصات هو فتنة الحكاية القادرة على تغيير سلوكه لكي ينضبط لقيم وأعراف الجماعة التي ينتمي إليها . ألم تغيرالحكاية السفاح شهريار؛ إذ استطاعت أن تشفيه من عقدة قتل الحريم ليصبح بعد ألف ليلة وليلة إنسانا سويا ، بعد أن فقد بوصلة الاتزان؟ هذه الحكايات بغض النظر عن وظيفتها التربوية كانت الوسيلة الوحيدة للسَّمر حول موقد النار، خاصة في ليالي الشتاء الطويلة والباردة جدا، والتواصل مع الخارق العجيب والمدهش ، خاصة ، وأننا كأطفال لم نكن نميز بين الواقع والخيال ، بل إن الذي كرس ذلك الاعتقاد هو أن الجدات والأمهات أنفسهن يصدقن أيضا تلك الأحداث العجيبة، وأكثر من ذلك كانت كل واحدة منهن تؤمن بعوالم سرية وخفية تتعايش معنا،وما علينا إلا أن نطلب دائما بين الحين والآخر، وفي أماكن معلومة « التسليم « اتقاءً لأي مكروه . لهذا السبب أيضا تُعَلَّق في أعناقنا تمائم ورقيات كتب جداولها فقيه وإمام القبيلة ، أو أي عابر من أولئك الذين يعرفون بالشرفاء تارة ، وبالمجاذيب تارة أخرى . كانت الحكاية المحلية تتغذى باستمرار بما يرويه رواة الحكايات في الأسواق. يأتون عبرالفج من السهول والقرى والمدن بحكايات مستمد من بيئات أخرى . يتسرب أبطال تلك الحكايات من حلقة السوق إلى السجل المحلي للحكي ، فيكون مزيجا بديعا بين الآتي والمقيم.