يحكي التاريخ الهندي أن ما ندعوه «العالم الحقيقي» هو «الحلم» فيما ليست أحلامنا غير ما ندعوه واقعا، ومع الاستنارة يصبح الدخول إلى عالم الحلم (استيقاظا إلى عالم وحدة العالمين) إذ اللا حلم هو أقصى الحالات الأربع للنفس البشرية حيث «الضياء فوق الطبيعي يغمر الكائن، فلا يرى بعدها الأحلام، وتسري الغبطة كلها في جسده» [أوبانيشاد براشنا] (1). ولأن كتاب «قبلات في يد الهواء» (2) يمعن في الاشتغال على الحلم و يفتح بوابة على «الأحلام في شكل كوابيس أي أنه يشرّع لأكذوبة الحياة ووهمية الحقيقة» (3)، ويوغل «بإصرار في العودة إلى صفاء الذات وأمانيها غير المتحققة واقعيا» (4)- فإنه يصحبنا من الحلم إلى نهاية النفس حيث الغبطة كلها، وكأنه يصحبنا إلى أبعد من الحكي نفسه... إلى اليقظة. فبين حلم و»نهاية حياة» يرتب الكاتب قصصا قصيرة جدا في أضمومة يؤطرها بتقديم ومقال، ويفتح كلاهما نافذة لريح الحكي داخل المجموعة. السيد رمسيس يضع إصبعا على اشتغال الكاتب على الحلم وعلى الكتابة في «غارة فنية» [ص7]، فيما الكاتب يضع سطرا لتوصيف قاس وعميق للقصة القصيرة جدا كنص «عار وسخيف « يدفعنا إلى الدهشة الموجعة [ص70]. ولأني قارئ غير مهذب ، ولا مكترث بالترتيب الجمالي والتيمي الذي يختاره أي كاتب لتصفيف أضمومته، فإني بعثرت كل شيء في «القبلات» وقرأت الخاتمة قبل التقديم ، واخترت النصوص بعينين مغمضتين.. ووجدتني في قمة «لعبي القرائي» مستثارا لأقصى حد من الجنون والعشق. نصوص «على مقاس السنتمتر» تصل في الوقت الأنسب تماما عكس حلم الزعيم الذي فقد البوصلة وصار «غير صالح لساعته «، تصل بقوة بحيث تشبه «صوت ارتطام شيء بشيء ثقيل « كي تزلزل كل زعامة ومرجع ، فتعبث وتبقر وتلعب ثم تعصر العالم أجمع كي يصير في حجم ظرف البريد [ص10]. هو إذن عبور من عمق العري والسخافة إلى قصف فني في غارة موجعة للبِرَك الراكدة؛ غارة تخلق من العبث بالجرح الفني والاجتماعي والسياسي والثقافي مساحة أوسع للدهشة عبر مستويين مترابطين: - نفي المرجع - إدمان التجاوز *** في ذاكرة الأبوة الثقافية ، كان الشعراء والفقهاء والقاصون والنقاد يوصون تلامذتهم داخل أنماط وإطارات ثقافية للاحتذاء قبل التخطي كما في وصية (والبة بن الحباب) في حفظ ونسيان الألف بيت ، فهل هي في العمق استمرار للمؤسسة أم تجاوز ضروري للفكر والفعل الإنساني - ليس في الكتابة وحدها ولكن في كل الشؤون - كي يصنّف في دائرة الإبداع ؟ الأكيد أن العالم يسير باتجاه النفي : نفي المؤسسة ونفي المركز .. وربما النفي المطلق ، ولعل الثورة الفكرية والاجتماعية وأخيرا السياسية إلى جانب التدفق الحر للمعلومة دفع ليس بالسير نحو «عالمية « الرموز والأشياء ، ولكن تحديدا نحو نفيهما معا. فيما يعلمنا التاريخ الانساني أن المركزيات الفكرية تتأسس انطلاقا من نفي وإجماع ، ولعل الإبداع الإنساني لم يكن في الأصل غير تكسير مستمر، ولم يكن الاحتفاء والتأطير داخل «الكادر الذهبي « غير رسالة إعلان بدء التواري [ص65]. وإذ يستند كتاب «قبلات في يد الهواء « على جنس كسّر وخالط وجانس وصرخ بقوة منذ لحظات ميلادٍ مؤسس على خصام الأبوة وعلى طلاق [ص12] ، فإنه يرتكز على صرخة وعلى نفي ، الصرخة التي تتجاوز الممنوع والمقدس ، والنفي الذي يخرج لسانه بشقاوة للزعيم [ص10]، هذا الأخير الذي يعود بعد صفحات كي يبتهج وهو يرى هذا الطفل يكبر و «يعجن جبلا من الحكي « [ص28]. فهل هي مباركة المرجع ؟ وهل هي التعميد والاحتواء الذي يعلن بدء الختام ؟ ثم هل يتسارع الزمن في الأدب كما في التكنولوجيا بحيث لا مجال لاستيعاب جديد وضبطه وفهم آلياته حتى يستقيل ويفسح المجال لآخر لاحق ؟ و هل هي السرعة التي تطبع أذهاننا أم هو الوصف الأزلي لكل إبداع: «إدمان التجاوز»؟ يجيب الماعزي عند منتصف الحكي في القصة الثلاثين أن خط الوصول في الأدب أبعد من الأفق ، وأن «نعسة الغزال « ليست نهاية بالتأكيد بل محطة داخل خط استمرار ممتد[ص38] استمرار يولِّده الحلم أولا - وهو ما يختار الكاتب الاشتغال عليه في جميع النصوص تقريبا- ، و تولِّده اليقظة ثانيا باعتبارها هي الحلم نفسه كما في الفكر الهندي القديم. إن القصة القصيرة جدا عند الماعزي أشبه «برصاصة « تحرق ، تلهب ، تقاتل لأنها لا تثبت في مكان ، ولأنها لا تصير مرجعا. فالرصاصة التي يؤطرها البرواز لا تنطلق ، لكن انتقالها و غُربتها هما أدوات حرقتها واشتغالها واستمرارها [ص24]، ورغم بساطتها وانتشارها وهجرة الكثيرين إليها لأنها صارت جنة الجميع فما تزال «حراما « في دوائر ثقافية عديدة [ص39]، وتلك ?ربما - أكثر صفاتها قوة وأضمن لاستمرارها خارج «المؤسسة «. * هوامش : (1)- موسى ديب الخوري- تفسير الأحلام في الحضارات القديمة- مجلة معابر- أيار 2009. (2)- عز الدين الماعزي- قبلات في يد الهواء- ق ق ج. مطبعة القرويين ط1 ? 2011 (3)- فاطمة بنمحمود- الكتابة بين الحلم والخيبة- موقع «المظلة» (4)- حميد ركاطة- قراءة في قبلات في يد الهواء- موقع دروب