لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. ما هي الأجواء العامة، المحيطة بمولاي العربي الشابي (عائليا ووطنيا) سنة استقراره النهائي بالمغرب، بحي درب السلطان بالدارالبيضاء، بعد ماي 1952؟. إنه سؤال حاسم، لإدراك معنى المنحى النضالي الذي ستأخذه حياة الرجل ابتداء من السنة الموالية 1953، الذي جعله يجاور خطر الموت لسنوات. كانت قيادة الحزب، الذي هو منتم إليه (حزب الإستقلال)، والذي كان منسقا جهويا له في منطقة "لالوار" بالجنوب الفرنسي بين 1946 و 1952، في غالبيتها إما في السجون أو في المنافي داخل المغرب وخارجه. المهدي بنبركة معتقل ومنفي إلى منطقة صحراوية نائية بأغبالو نكردوس منذ 1950، رفقة عدد كبير من الوطنيين المغاربة، ضمنهم فقهاء وتجار وعمال. وفي سنة 1951 اعتقلت أول القيادات النقابية المغربية، المتمثلة في الطيب بن بوعزة والمحجوب بن الصديق، وشرع في محاكمتهما بالرباط (في نفس البناية التي تحتضن المقر العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان اليوم). ولن يتأخر اعتقال باقي القيادات في دجنبر 1952، وفي مقدمتهم صديقه عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان قد فتح مكتب محاماة بالرباط، وأيضا أحمد بلافريج (الذي كان يزوره مرارا في منزله بسانتيتيان من قبل)، وأحمد اليزيدي. وهي الإعتقالات التي جاءت بعد أحداث دموية خطيرة وقعت في الدارالبيضاء، عايشها عن قرب مولاي العربي الشابي، التي اشتهرت ب "أحداث كاريان سنطرال"، تضامنا مع الزعيم النقابي التونسي، المغتال من قبل الجماعات الإرهابية الفرنسية بتونس، الشهيد فرحات حشاد (سألتقي بابنه في بداية الألفية ببيت نجل الشهيد محمد الزرقطوني، الأخ والصديق عبد الكريم الزرقطوني، وقال لي كلمة دالة في سياق حديث ثنائي: "موقف الشعب المغربي معنا كعائلة وكشعب في تونس لا ينسى، فقد سقيتم بالدم الطاهر لأبنائكم الشهداء، تربة روح والدي الشهيد"). مثلما أنه سيعيش لحظة عائلية وطنية مثيرة، ودالة في الآن نفسه، مع أطفاله بمدرسة جسوس في سنة 1952، حين قررت السلطات الإستعمارية الفرنسية أن لا ينجح أي أحد من تلاميذ المؤسسة، انتقاما من مؤسس تلك المدرسة الوطنية أحمد بلافريج، الذي لعب دورا محوريا في اجتماع هيئة الأممالمتحدة، الذي شاء القدر أن يتصادف مع أحداث الدارالبيضاء يوم الإثنين 8 دجنبر 1952، لصالح القضية الوطنية المغربية. وهو الإجتماع الذي حضره بلافريج، بجواز سفر باكستاني ضمن الوفد الديبلوماسي الباكستاني الذي يقوده رئيسها حينها والمسؤول عن ديبلوماسيتها الجنرال محمد أيوب خان. هكذا تم دفع تلاميذ مدرسة وطنية هي مدرسة جسوس بالرباط إلى الرسوب، فقط انتقاما من مواقف، مؤسسها والمشرف العام عليها، السياسية الوطنية. كان مولاي العربي، إذن، يعايش كل هذه الأحداث الوطنية، من موقعه السياسي كعضو بحزب الإستقلال بالدارالبيضاء، وأيضا من موقع علاقته القوية بقيادة الحزب، وأيضا من موقع علاقته النافذة مع الجسم العمالي من التجار بالمدينة العمالية الوليدة واستمرار علاقته بشبكة العمال والتجار المغاربة المهاجرين بفرنسا. خاصة بعد أن استقر بدرب القريعة (كجزء من حي درب السلطان، الذي كان يضم دروبا عدة نذكر منها درب بوشنتوف، درب السراغنة، درب كريكوان، درب السبانيول، درب ليهودي)، حيث اشترى محلات تجارية متعددة، بعضها بالشراكة مع تجار سوسيين آخرين وبعضها يملكها لوحده. لكن أهمها محل جزارة في الزقاق المحادي لقيسارية المنجرة بشارع السويس (الفداء حاليا)، وهي زنقة الرحامنة. وأصبح بيت العائلة فوقه مباشرة، إلى جانب محل لبيع الطوابع البريدية والتبغ والجرائد، ثم محل للمواد الغدائية بالشراكة مع الوطني المغربي الكبير دابلعيد بذات الشارع، باتجاه درب بوشنتوف (اختطف هذا المقاوم والمناضل ضمن الحركة الإتحادية سنة 1963، من قبل مجموعات "الكاب 1" التابعة حينها للجنرال أوفقير وللكولونيل الدليمي، ولا يزال مجهول المصير إلى اليوم). ثم مخبزة ومقهى قرب سينما "أطلس"، قبالة "رحبة الزرع" (سوق القمح بالجملة)، جوار المحل التجاري للنجارة وتجارة الخشب، الخاص بالشهيد محمد الزرقطوني، وكذا المحل التجاري الخاص بالمقاوم والوطني المرحوم محمد منصور، اللذين سيصبحان أكبر أصدقائه ورفاقه في العمل المسلح للمقاومة ضد الإستعمار الفرنسي. لكن، قبل تفصيل القول في ذلك، لنتوقف عند معطى هام، هو أثر أحداث 8 دجنبر 1952 بالدارالبيضاء، على مولاي العربي ووعيه الوطني، الذي هيأه ليصبح القرار، لديه، ناضجا، يقينيا، أن الحل في مواجهة المستعمر، ليس فقط النضال السياسي السلمي الحزبي، بل أيضا النضال المسلح. وهذا أمر كان قد طرح في بيته بفرنسا في نهاية الأربعينات، حين اقترح أمر الحصول على أسلحة من مصنع السلاح القريب بسانتيتيان. تفيد مصادر مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد بسلا، أن ذلك الزعيم الكاريزمي لليسار بالمغرب في الستينات والسبعينات والثمانينات، من موقعه كأصغر عضو قيادي بحزب الإستقلال في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، قد كان يحصل يوميا، من خلال طباخ مغربي يعمل بالإقامة العامة الفرنسية بالرباط، على كل الأوراق التي ترمى في سلة المهملات بها. وأنه كان يعيد ترتيبها وإعادة قراءتها واستخراج معلومات منها كثيرا ما تكون هامة، تفيد في رسم خريطة ردود الفعل الحزبية ضد مخططات المستعمر الفرنسي. وضمنها جاء قرار تنظيم إضراب عام بالمغرب يوم الإثنين 8 دجنبر 1952، تضامنا مع الشعب التونسي بعد أن اغتالت عصابة "اليد الحمراء" الفرنسية يوم 5 دجنبر 1952، الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، بمنطقة "المنزه" جنوب العاصمة تونس. كان منشور حزب الإستقلال ونواة إطاره النقابي الذي كان يطلق عليه حينها "الإتحاد العام للنقابات المغربية"، يقول في ندائه إلى الشعب المغربي بالحرف: "إن الطبقة العاملة وشعوب إفريقيا الشمالية والعالم الإسلامي في حداد، على إثر الجريمة الشنعاء التي استهدفت حياة أخينا فرحات حشاد. فآلام إفريقيا الشمالية متأججة وكل العمال في حداد" (مهم هنا العودة إلى تفاصيل تاريخية مدققة تضمنها كتاب الباحث والأستاذ نجيب تقي "جوانب من ذاكرة كاريان سنطرال"، الصادر عن مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء سنة 2015). هذا يعني أن قرار الإضراب العام، كان قرارا مركزيا من قيادة حزب الإستقلال، التي ستنظم لقاء تنسيقيا بالرباط وآخر بفاس، في نهاية الأسبوع 6/7 دجنبر 1952. ولأن مولاي العربي، من موقعه الحزبي ومن موقعه ضمن خريطة التجار بالدارالبيضاء، ومن موقع علاقاته المباشرة القوية بقيادة حزب الإستقلال، هو الذي اعتاد كل نهاية أسبوع أن يتوجه إلى الرباط رفقة زوجته "مدام مولاي" للقاء صغارهما المقيمين ضمن داخلية مدرسة جسوس التي يدرسون بها، وأخدهم في جولات بالرباط (مقهى الأوداية/ قاعة السينما/ مطاعم للغداء)، قد حضر ذلك الإجتماع التنسيقي بالرباط. كانت الإدارة الإستعمارية، شبه المستقلة بالدارالبيضاء، المستندة على تيار متشدد للمعمرين الفرنسيين بها، بقيادة الحاكم العام للمدينة بونيفاص، قد هيأت خطتها المضادة لقرار الإضراب العام، الشبيهة تماما بخطتها لمنع الزيارة التاريخية للملك الوطني محمد الخامس يوم 9 أبريل 1947. حين قام بونيفاص، حينها، يوم 6 أبريل 1947، ببعث من سيختطف مسؤول مجموعة الجنود السينغاليين "الكوم" التابعين لقواته الإستعمارية بثكنة عين برجة قرب حي "درب عبد الكبير الفاسي العفو"، واغتياله وقطع عضوه التناسلي ورميه قرب الثكنة فجر يوم 7 أبريل 1947، وتم تسليح الجنود السنغاليين، وأطلقت يدهم للإنتقام من المغاربة العزل بذلك الحي الشعبي القريب من الثكنة العسكرية. فكانت مجزرة وجريمة "ضربة ساليغان". هذه المرة، أمر بونيفاص بإطلاق عدد من "البراحة" (منادون بصوت جهوري مرتفع) في كل أحياء المدينة يوم الأحد 7 دجنبر 1952، ينبهون السكان من مخاطر المشاركة في تنفيذ قرار الإضراب العام. لكن، في صباح الإثنين 8 دجنبر،، كانت الإستجابة الشعبية كبيرة، حيث أغلقت المتاجر وتوقفت المعامل وأصبحت الدارالبيضاء مدينة مغلقة. مما يؤكد أن عمل أطر حزب الإستقلال وشبكة التجار والحرفيين والعمال قد نجحت في مهتمها، وكان في القلب منها حزبيا وتجاريا، مولاي العربي الشابي، إلى جانب أصدقائه الجدد الشهيد محمد الزرقطوني، محمد منصور، دابلعيد، سعيد بونعيلات، جيرانه في التجارة بدرب السلطان وجيرانه أيضا في السكن، وجيرانه في النضال السياسي الحزبي والنقابي. كانت الحصيلة الدموية فضيعة مرة أخرى، خاصة بالحي المحمدي، حيث خرج المواطنون بصدور عارية يتحدون بنادق جنود بونيفاص، الذي لم يتردد في إصدار الأمر بالقتل بالرصاص الحي. كانت النتيجة كارثية، فيها قتلى من أطفال ونساء ورجال وشيوخ (ضمنهم والدة الفنان والممثل المغربي الشهير محمد مفتاح، التي قتلت وهي تحمله على ظهرها، وظل يحكي لي أكثر من مرة، كيف أنه ظل يلمس الدم الساخن بيديه دون أن يفهم ما جرى). هنا عاش مولاي العربي معنى النضال الميداني من أجل الإستقلال بلغة الدم والنار، مباشرة، وليس مثل ما وصله عن أحداث "ضربة ساليغان" سنة 1947 وهو بفرنسا. هنا صنع وعيه السياسي للمقاومة بشكل نهائي، وهنا وجد الشبيه شبيهه، في شخص الشهيد محمد الزرقطوني والمقاوم محمد منصور والمقاوم دابلعيد والمقاوم سعيد بونعيلات.