لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. بعد أحداث بوردو، في أكتوبر 1950، التي انتهت باعتقاله رفقة عبد الرحمن اليوسفي وعدد من المهاجرين المغاربة (طلبة وعمال وتجار)، بمناسبة زيارة الملك الوطني محمد الخامس لفرنسا ونزوله بميناء تلك المدينة الفرنسية. وتدخل جلالته بصرامة لإطلاق سراحهما، ولقائه لأول مرة به مباشرة. أصبح قرار العودة إلى المغرب ينضج بهدوء ويقين عند بطلنا وزوجته الإسبانية، ليس لأن ظروف الإقامة بفرنسا، ما بعد تحرير فرنسا من الإحتلال الألماني النازي، في منطقها الإستعماري لا تطاق، بل لأن وعيه السياسي والوطني وتنسيقه مع عدد من قيادات حزب الإستقلال سواء بفرنسا أو بالمغرب، قد أنضجت لديه قرار العودة، ليقينه أن المعركة الكبرى توجد بالدارالبيضاء. كانت فرنسا، المنهكة اقتصاديا وعلى مستوى بينتها التحتية، بعد الإحتلال الألماني، وبسبب خساراتها البشرية، خاصة من السواعد القادرة على العمل والبناء، في حاجة أكبر لليد العاملة الأجنبية (المغاربية والهند - صينية والإفريقية)، لإعادة بناء ما دمرته الحرب. بالتالي، فإن كل الظروف مواتية لمولاي العربي وعائلته، أن يحقق مشروع حياته للنجاح المادي بها (توسيع تجارته، تعليم الأبناء، ضمان مستقبل واعد لهم في فرنساالجديدة)، لكنه اختار رغم ذلك الرحيل والعودة إلى المغرب. والسبب يعود إلى الجو العام المحيط سياسيا ووطنيا بالقضية المغربية. هنا علينا أن لا نسقط من تحليلنا وقراءتنا، أن إسم مولاي العربي، خاصة بعد أحداث بوردو، قد أصبح مسجلا عند المصالح الأمنية والمخابراتية العسكرية الفرنسية كواحد من العناصر المغربية العاملة ميدانيا وتنظيميا بقوة ضمن جماعة الوطنيين المغاربة بفرنسا (هناك ملف كبير حول مولاي العربي بن عبد القادر، ضمن أرشيف المخابرات العسكرية الفرنسية بمنطقة "لوبلان" إلى اليوم، ممنوع الإطلاع عليه صحفيا أو للباحثين الأكاديميين). وأنه كان بالتالي موضوع رصد وتتبع دقيق ومتابعة لصيقة، هو وزوجته "مدام مولاي" الباسكية الإسبانية، المناهضة من جهتها علانية لديكتاتورية فرانكو، المنخرطة معه بقوة في كل عمله الوطني بسانتيتيان. مثلما أن الجو العام للقضية المغربية، كما كانت تعكسه الصحافة الفرنسية، قد كان له أثره على مولاي العربي وعلى باقي المهاجرين المغاربة المنخرطين ضمن أفق الحركة الوطنية المغربية، الداعمين لها ماديا بقوة حاسمة ومؤثرة ووازنة. إذ بالعودة إلى كتابات باحثين ومؤرخين مغاربة مثل "جامع بيضا" و "إبراهيم بوطالب" و "بهيجة السيمو" و"محمد زنيبر"، سنجد أن الصحافة الفرنسية الصادرة بباريس قد كانت تعكس موقف الإدارة الإستعمارية الفرنسية إزاء القضية المغربية، بغير قليل من التحامل والوقاحة. مثل صحف "لاباطاي" و "لورور" و "فرانس سوار" وحتى يومية "لوموند" في مناسبات معينة. حيث نجدها مثلا تغمز دوما إلى فضل فرنسا على المغرب وعلى سلطانه في حمايته، ومنها من لم يجد في زيارة بوردو، وما تبعها من تطورات وأحداث، غير أن تكتب عن الملك الوطني محمد الخامس كلاما فيه "وقاحة صحفية" مثل ما فعلت "فرانس سوار" حين خصصت ربورتاجا للزيارة، فيه استهزاء بتدين جلالته وبعاداته في اللباس وشروطه في الأكل، وبشكل علاقة أبناء بلده به، من خلال الإنحناء وتقبيل اليد توقيرا له. بينما كتبت من قبل في نهاية الأربعينات يومية "لاباطاي" أنه على سلطان المغرب أن لا ينسى فضل فرنسا عليه بعد خطابه التاريخي في طنجة سنة 1947، بالتزامن مع توزيع مناشير في المغرب باللغة العربية تشكك في أصوله الشريفة. بل إنه حتى يومية "لوموند" في فبراير 1951، ستنشر مقالة ضد المغرب وضد الحركة الوطنية المغربية وضد الملك الوطني محمد الخامس، بسبب أزمة رفضه توقيع الموافقة على قرارات المقيم العام الجديد الجنرال جوان (عين بالرباط، بين 14 ماي 1947 و 28 غشت 1951)، التي حولت الحماية عمليا إلى استعمار مباشر كلي. واعتبرت "لوموند" أن قرار ذلك الجنرال الفرنسي، المعروف سجله الدموي سواء في الجزائر أو في المغرب، بالتهديد بعزل السلطان بن يوسف، قرارات مناسبة وجريئة من جنرال وصفته بالحرف بأنه "الرجل الحكيم، المتبصر، الذي ينتمي إلى ذلك الجنس من الرجال الذين يعرفون كيف يحكمون الآخرين" (هكذا). إذن، ففي ظل هذه الأجواء العامة، المحيطة بالقضية الوطنية، بفرنسا، يضاف إليه ذلك التصعيد الذي قام به المقيم العام الفرنسي الجديد بالرباط الجنرال أوغست غيوم (عين ما بين 28 غشت 1951 و 20 ماي 1954)، في بداية سنة 1952، من خلال قراره اعتقال كل القيادة السياسية للحركة الوطنية وتجميد كل أنشطة حزب الإستقلال. كان طبيعيا أن تتطور الأمور نضاليا، في اتجاه دور جديد للحركة الوطنية يذهب صوب خيار التصعيد. لأن التصعيد الإستعماري، لا يمكن إلا أن يقابله تصعيد مماثل من قبل الجماعات المؤطرة سياسيا مغربيا. وفي هذه الفترة، بدأت تبرز مدينة الدارالبيضاء كقائدة للفعل النضالي الوطني المغربي ضد المحتل الفرنسي، بفضل تحولها إلى مدينة عمالية، تشكلت فيها شرائح اجتماعية عمالية بأحياء درب السلطان والحي المحمدي وعين السبع والبرنوصي والحي الحسني ودرب غلف. أي أن خطة الإستعمار القمعية، المتشددة ضد الملك الوطني محمد الخامس وضد القيادة السياسية للحركة الوطنية، لم تنتبه بسبب خلفيتها العسكرية، إلى أنها إنما قامت بتسريع انتقال المواجهة من مواجهة مع النخبة الوطنية المدينية، إلى مواجهة مع المجتمع في كافة امتداداته الجماهيرية الشعبية. لهذا السبب فإن قرار مولاي العربي الشابي العودة إلى المغرب، نهائيا في أواخر 1951 وبداية 1952، لم يكن قرارا مزاجيا فرديا. بل، إنه جاء ضمن سياق تطورات سياسية ونضالية مرتبطة بالقضية الوطنية المغربية. أليست هي ذات سنة العودة النهائية لصديقه عبد الرحيم بوعبيد من فرنسا وإصدراه جريدة "الإستقلال" بالفرنسية؟. أليست هي ذات سنة عودة عبد الرحمن اليوسفي نهائيا من فرنسا إلى طنجة بعد أن قضى بها السنوات بين 1949 و 1952؟. إن المعنى الوحيد لتلك العودة، هو أنها عودة تمت ضمن مخطط سياسي نضالي وطني، ستتأكد ملامحه أكثر بعد التطورات التي حصلت في المغرب سنوات 1953 و 1954. وأنها ليست عودة معزولة عن مهامه النضالية السياسية الوطنية. إذ واضح أن القرار كان بأن دوره الجديد نضاليا ووطنيا، هو هناك في المغرب، في الدارالبيضاء، التي عليه أن يعود إليها لبناء نسيج علاقات جديدة ضمن شبكة التجار والحرفيين الكبيرة الوليدة بعد سنة 1948. وأيضا لأن التصعيد الإستعماري القمعي يستوجب ردا آخر مغايرا للأسلوب السياسي النضالي الذي اعتمد من قبل الحركة الوطنية منذ الثلاثينات وبلغ دروته مع تقديم وثيقة 11 يناير 1944. وليس مستغربا أن علاقة الرجل ستتوطد بعد عودته بعبد الرحيم بوعبيد وبقادة حزب الإستقلال الذين بقوا خارج السجون، خلال تلك الفترة. دون إغفال بقاء خيوط علاقته بشبكة المهاجرين المغاربة بفرنسا من العمال والتجار، التي كان جزء من مهامه النضالية الجديدة، أي أن يبقى صلة وصل بين الضفتين تنظيميا، بما يستتبعه ذلك، من تنسيق على مستوى تنظيم تواصل الدعم الهام لتلك الشبكة العمالية للحركة الوطنية المغربية، والذي سيتطور من الدعم المالي واللوجيستيكي إلى الدعم المسلح ابتداء من سنة 1953. ولعل أكبر دليل على تواصل تلك العلاقة بين مولاي العربي وشبكة المهاجرين المغاربة بفرنسا، تلك المبادرة ذات الرمزية العالية التي سيقوم بها عدد من العمال المغاربة المهاجرين، وهو في القلب منهم، حتى وقد انتقل إلى المغرب، لتقديم سيارة جديدة فخمة هدية إلى الملك الوطني محمد الخامس بالرباط، مستقدمة من فرنسا سنة 1952.