لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كانت فرنسا، في سنة 1943، حين ولج ذلك الرجل الغريب محل مولاي العربي وزوجته التجاري، ليلا، غارقة في الإحتلال النازي الألماني لأكثر من ثلاثة أرباع أراضيها، وضمنها منطقة "الرون آلب" بمدينتيها الكبيرتين "ليون" و"سانتيتيان". وهو الإحتلال الذي أذل كبرياء الفرنسيين، بعد صراعات طويلة وحروب مدمرة وقعت بين البلدين منذ القرن 17. ومهم هنا تسجيل معطى تاريخي، بل سوسيو ? نفسي، هو أن التنافس بين الفرنسيين والألمان تعود جدوره إلى ميلاد الثورة البورجوازية بأروبا في القرن 16، حيث أصبح الصراع، صراع نفوذ استراتيجي حول من له حق التحكم في أروبا الجديدة، بثوراتها السياسية والصناعية والفكرية. وهو الصراع الذي عمر ثلاثة قرون كاملة، عرفت جولات حروب مدمرة بينهما، جرفت ملايين الأرواح وخلفت جراحا في الذاكرة، لا يزال لها إلى اليوم بعض أثر في الذهنية العامة لمواطني البلدين. بل قد نذهب بعيدا ونجزم أن أروبا الجديدة، الموحدة، لم تولد سوى بعد أن اتفق ساسة باريسوبرلين حول التعاون السلمي بمنطق "رابح ? رابح" بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي الشيوعي ابتداء من سنة 1989. بالتالي، فحين دخل ذلك الرجل المتعب، الذي أغمي عليه بمحل مولاي العربي التجاري سنة 1943، فلأنه كان هاربا من المخابرات العسكرية الألمانية "الغيستابو"، ولم يجد من مكان يلجأ إليه غير باب مولاي العربي الذي كانت الإنارة لا تزال مضاءة به. مما كانت نتيجته، تسجيل تفاصيل لقاء قدري مثير وماكر، بين فرنسي هارب من الألمان، التجأ يستجير (دون باقي العالم) بمواطن مغربي تحتل فرنسا أرضه وشعبه وبلاده المغرب. للقدر مكره دائما، بل إن ذلك اللقاء هو الذي سينقد مولاي العربي 12 سنة بعد ذلك من مقصلة الإعدام، أمام محكمة عسكرية فرنسية، بتهمة المشاركة في كبريات العمليات الفدائية ضد الوجود الإستعماري الفرنسي بالدارالبيضاء، من ضمنها عملية "المارشي سنطرال" وعملية "القطار الرابط بين الدارالبيضاء والجزائر العاصمة" الشهيرتين. كان الأمر يتعلق إذن، بالجنرال "لوي سوفران" قائد القيادة العسكرية لفرنسا الحرة بسانتيتيان، المبحوث عنه بشراسة من قبل "الغيستابو" الألماني. وهو ذات الجنرال "سوفران" الذي له مع المغرب قصص كثيرة، حيث سبق له أن تحمل مسؤوليات عسكرية، غير نظيفة به، ضد المقاومة المغربية، قبل سنة 1943 وبعدها أيضا، وبعضها جر عليه مشاكل عدة في ما بعد (خاصة بمكناس)، قبل أن يتوفى بباريس يوم 11 يونيو 1952 (لهذا السبب نادر جدا أن تجد معلومات مستفيضة عنه ضمن تاريخ العسكرية الفرنسية، لأنه ربما ارتكب أخطاء بعد الحرب العالمية الثانية لا تتوافق وشرف الجندية بالمعنى الفرنسي). لم يكن مولاي العربي يعرف "ضيفه" ذاك الذي نزل عليه فجأة، ولم يكن يهمه جديا أن يعرف من يكون. ما كان يهمه هو أن شخصا فرنسيا في حال سيئة، التجأ إليه وهو في حاجة إلى المساعدة، ولن يتردد في مساعدته. المهم، أنه بعد أن استعاد الرجل وعيه كاملا وتحسنت حاله قليلا، أصر مولاي العربي أن يستضيفه في منزله حتى يتعافى كلية. لكن "لوي سوفران" سيعتذر ملحا على ضرورة المغادرة والذهاب إلى حال سبيله، فكان أن أطلق مولاي العربي في وجهه، تلك العبارة المغربية الشهيرة بيننا، قائلا له بالحرف: "عندنا في المغرب، ضيافة النبي وضيف الله، ثلاثة أيام واجبة". كان "سوفران" يفهم العربية جيدا، خاصة الدارجة المغربية، كونه سبق وعمل بالمغرب لسنوات من قبل. بالتالي فقد أصر على الرحيل. لكن مولاي العربي وزوجته جوزيفين، كانا حاسمين في أمر استضافته، خاصة في ذلك الليل البارد من أول سنة 1943. وبعد مناقشات عدة، وتبادل لأطراف الحديث، استكان إليهما ذلك الضيف الفرنسي وأمن لهما، فأخبرهما عن هويته الحقيقية، قائلا: "أنا الجنرال سوفران، وأنا مبحوث عنه من قبل الغيستابو الألماني. وهؤلاء قوم لا يمزحون، لا أريد أن أتسبب لكما في مشاكل أو أكون السبب في تهديد حياتكما. بالتالي من الأفضل لي ولكما أن أذهب لحال سبيلي. لكن تيقنا أنه حتى إن وقعت في الأسر، وتحت أي شكل من أنواع التعذيب فلن أعترف عليكما أبدا". نظر إليه عميقا مولاي العربي، بنظرة فاجأت ذلك الجنرال الفرنسي، وهذا أمر حكته زوجته جوزيفين لأبنائها سنوات بعد ذلك، وقال له: " سيدي الجنرال، إن حياتك وحياتي هي في يد الله وليست في يد الغيستابو، وإذا كان لابد من أن نعتقل، فسنعتقل. بالتالي اطمئن وارتح. إن الله هو الذي يأخد وهو الذي يعطي". مصرا على منح حمايته له مهما تطلب ذلك من وقت. صمت الجنرال "سوفران". وفي الصباح الباكر، حين استفاق مولاي العربي وزوجته، لم يجدا ضيفهما في سريره، فقد كان قد غادر بهدوء دون أن يشعرا به. بعد أيام، سيسمع بطلنا عبر أمواج إذاعة "البي. بي. سي." أن الجنرال سوفران وصل إلى لندن وأنه التحق بالجنرال دوغول. لم يلتقي ذلك الجنرال مجددا، أبدا، بمولاي العربي الشابي الشتوكي، لكنه سيحكي عنه لرفاقه في جيش "فرنسا الحرة" حكاية إعجاب وتقدير. بدليل أنه أضاف للحكاية تفاصيل لم تكن وقعت في الواقع، حيث أخبرهم أنه استجار بمحل تجاري اكتشف بالصدفة أنه لمواطن مغربي ينحدر من سوس، إسمه مولاي العربي بن عبد القادر متزوج من إسبانية باسكية. وأن أولئك الزوجان، قد استضافاه ببيتهما لليلة واحدة، قبل أن يلبساه ملابس جديدة مدنية غير عسكرية، وأخداه في سيارتهما حتى الحدود الفرنسية الإسبانية، جهة إقليم الباسك، ومن هناك تم تهريبه إلى إسبانيا، ومنها ركب إلى إنجلترا. وهي الحكاية التي سينقلها عنه بعد وفاته، صديقه الجنرال "بابس" (توفي سنة 1979)، الذي سيتطوع للكتابة إلى المحكمة العسكرية الفرنسية بالدارالبيضاء حيث كان يحاكم مولاي العربي، سنة 1954، ليخبرها عبر محاميه عمر الخطيب (شقيق الدكتور عبد الكريم الخطيب)، بالدور الذي لعبه ذلك الرجل المغربي، الأمازيغي السوسي وزوجته الإسبانية الباسكية، لإنقاذ حياة رفيقه وصديقه وأحد قادة "فرنسا الحرة" الجنرال "لوي سوفران". لكن، ما يسجل هنا، في هذه الواقعة، المثيرة قدريا بتفاصيلها وبطبيعة شخوصها، وبالتناقضات المرتبطة بسياقاتها بين مستعمر (بكسر الميم) ومستعمر (بفتح الميم)، هو أن مولاي العربي لم يحدث قط أن تباهى أو زايد بموقفه الإنساني ذاك على أي من الفرنسيين، أو أخبر به حتى رفاقه. كان مقتنعا في قرارة نفسه أنه قام فقط بما أملاه عليه ضميره وواجبه الإنساني. ها هنا، تكون الإمتحانات فرصة حقيقية لاكتشاف معدن الرجال. بل إن بطلنا المغربي هذا وزوجته، سيواصلان دورهما النضالي، كما آمنا به، ضمن شبكة العمال المغاربة المهاجرين بفرنسا، وضمن إطار المنظومة التأطيرية للحركة الوطنية المغربية هناك، في بعديها الطلابي والعمالي، قبل أن يصبح مولاي العربي في نهاية الأربعينات المنسق الأول لحزب الإستقلال بكامل منطقة سانتيتيان. هو الذي ترسخت علاقته بمناضل استقلالي حينها، طالب بفرنسا، إسمه عبد الرحيم بوعبيد، مثلما أنه سيظل يستضيف عددا من الطلبة المغاربة القادمين من باريس في مهام تأطيرية سياسية وطنية ونضالية، كان من بينهم شاب طالب آخر إسمه عبد الرحمان اليوسفي. اليوسفي، الذي حين توفي مولاي العربي الشابي مساء يوم 30 ماي 1998، في الساعة السادسة والنصف مساء، وهو حينها وزير أول يقود حكومة التناوب، سيكون من أول المعزين ببيت أصغر أبناء الفقيد مولاي يوسف الشابي الشتوكي (كون والده قد توفي عنده في منزله) في الثامنة والنصف ليلا، قادما من الرباط.