لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. توجه مولاي العربي إلى سانتيتيان في آخر شهر أكتوبر من سنة 1937، بمنطقة "لالوار" (تعتبر هذه المدينة ثاني أهم مدينة بالمنطقة وبهضاب "رون آلب"، بعد عاصمة الإقليم مدينة ليون التي تبعد عنها ب 62 كلمترا). ووجد نفسه، وهو في 24 سنة من عمره، مثل سمكة في بحر تسبح بحرية. ليس فقط، بسبب خبرته التي اكتسبها في مجال العمل المنجمي بالمغرب، بمناجم الفوسفاط بخريبكة. بل بسبب حجم العمال المغاربة والجزائريين الذين وجدهم في مناجم حوض الفحم الحجري لسانتيتيان، البالغ عددهم في إحصاء رسمي لمتحف "مناجم حوض لالوار" الذي افتتح سنة 1991، في نفس الفترة، تقريبا، التي وصل فيها بطلنا إليها، ما مجموعه 3882 منجميا مغربيا وجزائريا، من مجموع 8567 منجميا أجنبيا. أي أنهم كانوا يشكلون 45%، من مجموع أولئك العمال الأجانب، وهي نسبة كبيرة جدا تقارب النصف. لقد انطلقت رحلته مع مناجم الفحم الحجري هناك، بمنجم "كوريو" يوم 3 نونبر 1937، حيث اندمج بسرعة في مجتمعه الجديد، بعد أن سكن في مسكن جماعي للعمال، قبل أن يستقل بذاته في غرفة خاصة منحتها له إدارة المنجم. مما حقق له لأول مرة متعة امتلاك مفتاح خاص به، يفتح به باب عالمه الخاص (غرفته، التي هي دنياه الخاصة فوق كل الكرة الأرضية، وهنا متعة ولذة امتلاك مفتاح خاص به دون غيره). من حينها، بدأت شخصية مولاي العربي تتشكل بشكل مختلف عن كل ما سبق منذ غادر قرية الأهل بشتوكة آيت باها، سنة 1929. فقد أصبح لحياته بعض من عناوين الإستقرار، بفضل عمل، مضني نعم، في مناجم الفحم الحجري، لكنه عمل منظم أكثر من مناجم الفوسفاط بخريبكة، وبدخل مالي أفضل، وضمن فضاء اجتماعي مديني حديث. بل، إنه هناك، سيتشكل وعيه النقابي والسياسي الوطني بشكل حاسم، بسبب قوة الإطار النقابي المؤطر للعمال بمناجم حوض سانتيتيان، الذي يعتبر أقدم أحواض الفحم الحجري بفرنسا وبأروبا. مثلما، أن احتكاكه بجنسيات أجنبية أروبية مختلفة، هناك، قد وسع من وعيه ذاك، ومن انفتاحه على خلاصات تجارب مجتمعات عدة من العالم. هذا كله أخصب في شخصية بطلنا، رؤية للحياة أكثر نضجا وانفتاحا، ورسخت فيه طبيعة شخصيته الصارمة، المنضبطة، النظيفة والأنيقة. ذلك أن مناجم الفحم الحجري التي وجد نفسه في عوالمها المثيرة والغنية، كانت تجر وراءها تجربة تنظيمية وإنتاجية تعود إلى القرن 13. فمناجم سانتيتيان انطلق الإنتاج بها سنة 1267 ميلادية، وعبر بها الآلاف من العمال الأروبيون، قبل أن يلج إليها العمال المغاربيون (خاصة المغاربة والجزائريون) في بداية القرن 20. وسبب التحاق هذه اليد العاملة الجديدة، لم يكن فقط بسبب الإستعمار، بل بسبب نتائج الحرب العالمية الأولى التي جعلت اليد العاملة الفرنسية والأروبية من الرجال تتقلص بشكل كبير، مما كان ملحا معه استقطاب يد عاملة من خارج أروبا، فكان الحل هو فتح المجال لليد العاملة الجزائرية والمغربية. مما جعل هذه الشريحة الجديدة من العمال غير الأروبيين، تشكل الأغلبية من حينها، في تلك المناجم، أي منذ 1916. لكن، ما يسجل في قصة هذا الحوض المنجمي الفرنسي، أنه منذ سنة 1860، ستتراجع أهميته الحاسمة في الإقتصاد الفرنسي، بسبب اكتشاف مناجم الفحم الحجري بالشمال بمنطقة "الباد- كالي" (في المنطقة الممتدة بين مدن: فالنسيان، آراس، دوي، ليل ودانكرك. وهي مناطق زرتها جميعا سنة 1986)، التي كانت كلفة نقل فحمها الحجري أقل من كلفة نقل فحم حوض سانتيتيان، الذي كان هو مصدر الطاقة الأول بكامل فرنسا حتى سنة 1860. بل إن الثورة الصناعية الحرارية بمعامل بلاد نابليون بونابارت وبقاطرات سككها الحديدية وببواخرها وسفنها الجديدة غير الشراعية، منذ أواسط القرن 17، قد كان مصدرها الوحيد هو مناجم حوض "لالوار". من هنا امتلاك تلك المناجم لتقاليد راسخة في العمل المنجمي، جعلها مقصدا لليد العاملة من كل العالم، بدليل أنه في سنة 1926 مثلا، كان بمناجم مدينة سانتيتيان وحدها (والتي سيلتحق بواحد منها هو منجم "كوريو"، مولاي العربي الشابي الشتوكي)، ما مجموعه 2798 عاملا أجنبيا، في مقدمتهم المغاربة (657 عاملا منجميا)، يليهم الإسبان (638 عاملا)، ثم البولونيون (560 عاملا)، بعدهم الإيطاليون (450 عاملا)، ثم اليونانيون والألبان والبرتغاليون والأتراك والروس والألمان والأرمن والبلاجكة والنمساويون، بل وحتى عدد قليل من الأرجنتنيين. إذن، في خضم، مدرسة العالم هذه، العمالية، سيترسخ الوعي السياسي والنقابي لمولاي العربي الشتوكي، نهائيا، لسببين. أولها طبيعة القلق والنقاش الذي كان سائدا بين مختلف تلك الجنسيات، خاصة بعد الأزمة العالمية الكبرى لسنة 1929، ثم أيضا بسبب بداية تنامي الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا منذ سنة 1930 (استلم هتلر السلطة ببرلين يوم 30 يناير 1933). ثم أيضا بسبب تبعات أخبار الحرب الأهلية بإسبانيا بين الجمهوريين اليساريين والقوميين العسكريين، بين 1936 و 1939. وثانيها، الوعي الوطني الذي بدأ يترسخ بين صفوف العمال المغاربة الكثيري العدد حينها بمناجم الفحم الحجري بسانتيتيان، بفضل ما نسجته شبكة الطلبة المغاربة والجزائريينبباريس من علاقات تواصلية معهم، من خلال "جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين" التي تأسست منذ سنة 1927 بالعاصمة الفرنسية، وكان من أقطاب أول مجلس إداري لها كل من أحمد بلافريج، محمد الفاسي ومحمد حسن الوزاني من المغرب. وسالم الشاذلي، الطاهر صفر ومحمد بن ساسي من تونس. ومالك بن نبي، أحمد فرنسيس وإبراهيم بنعبد الله من الجزائر. كانت، إذن، أجواء الحرب العالمية الثانية وأجواء الحرب الأهلية الإسبانية، وبداية تحرك الحركة الوطنية بالمغرب، تتصادى أفكارها وأخبارها في الفضاء العام حيث يتحرك مولاي العربي. وكان زملاؤه من العمال المنجميين الإسبان، كثيرا ما يطرحون معه أكيد قصة دور المغاربة في الحرب ببلادهم، خاصة من الريفيين وجبالة. وأكيد سيمتد النقاش صوب حرب الريف ومعركة أنوال سنة 1921، التي هزم فيها المغاربة بقيادة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي الجيش الإسباني وألحق به أشنع هزيمة له في القرن 20 كله إلى اليوم. وكيف أن الجمهوريين الإسبان اليساريين في الشمال، وأغلب العمال الإسبان أولئك منهم، كانوا متعاطفين مع ثورة الخطابي، ضمن تضامن قوى اليسار العالمية معها. مثلما أن بداية احتكاكه ببعض خلايا العمال المهاجرين المغاربة، وأغلبهم من سوس، التي بدأت تنسج علاقات تنظيمية مع شبكة الطلبة المغاربة بفرنسا، قد وسعت من ذلك الوعي السياسي والنقابي الوليد عند مولاي العربي، والذي ستظهر نتائجه بسرعة مع بداية سنة 1941. كان الفضاء المحيط به، ضمن الشرائح المتنوعة الواسعة للعمال المنجميين الأجانب، قد جعلته يحتك مباشرة مع ثقافات اجتماعية متنوعة ومع مرجعيات سياسية مختلفة، من شرق أروبا ومن غربها، خاصة علاقاته مع العمال البولونيين والعمال اليونانيين والعمال الفرنسيين والعمال البرتغاليين والعمال الإيطاليين ثم العمال الإسبان. وهذا قد أغنى شخصيته وشحذ وعيه السياسي والوطني بشكل غير مسبوق ومختلف عما كان عليه الحال في مناجم الفوسفاط بخريبكة بالمغرب أو بالجزائر. لقد بدأت تولد حينها ملامح شخصية جديدة لمولاي العربي، بأفق عالمي واسع، وبنظرة أكثر وضوحا لحقيقة الصراع بين القوى الإستعمارية وحقوق مواطني بلده المغرب. إن هذا الفضاء الحي، الغني بالنقاشات، هو الذي سيؤطر نهائيا وعي مولاي العربي السياسي في بعده الوطني، مما سيدفعه إلى أن يقرر مغادرة مناجم سانتيتيان في آخر سنة 1939، قاصدا باريس للإستقرار والعمل بها، وأيضا ليكون قريبا من الشبكة السياسية الوطنية المغربية الوليدة هناك ضمن طلبة شمال إفريقيا. وقصة باريس، قصة مثيرة بتوابلها الخاصة.